تخفيض إنتاج النفط والأجيال القادمة

د. أنس بن فيصل الحجي

أكاديمي وخبير في شؤون النفط

[email protected]

باسم الأجيال القادمة، يرى بعضهم أنه يجب تخفيض إنتاج النفط والحفاظ عليه للمستقبل.

باسم الأجيال القادمة، يرى بعضهم أنه يجب استخراج ما يمكن استخراجه وتحويل عائداته إلى مشاريع تضمن تنويع الدخل، وتوجد الوظائف لملايين الخريجين في المستقبل.

أعان الله الأجيال القادمة, فإذا ترك كل النفط لهم وانخفض الطلب العالمي على النفط أو انتهى هذا الطلب، فقد ظلمهم من قبلهم. وإذا تم استخراج النفط كله أو أغلبيته وتم بناء المصانع بعائدات هذا النفط، فإنهم لن يستفيدوا إذا استمرت نسبة خريجي العلوم الاجتماعية والإدارية وما دار في فلكها حول النسب الحالية، التي تعد من الأعلى في العالم. مهما كان دور النفط في المستقبل، فإنه لا مستقبل مشرق للأجيال القادمة دون المواءمة بين متطلبات سوق العمل ومخرجات التعليم من جهة، والمواءمة بين قدرات الخريجين والشهادة التي يحملونها من جهة أخرى.

والغريب في كلا الرأيين، رغم الخلاف بينهما، أنهما يتفقان، بشكل مباشر وغير مباشر، على ضرورة التدخل الحكومي، متناسين أن أغلبية المشكلات التي تعانيها الدول النفطية تتعلق بالحجم الهائل للقطاع العام في الاقتصاد، وسيطرة القطاع العام على أغلبية الأنشطة الاقتصادية، وقيادته حتى أنشطة القطاع الخاص. حسب الرأي الأول، سيبقى خريج المستقبل رهين الوظيفة الحكومية في قطاع النفط. حسب الرأي الثاني، سيكون الخريج رهين وظيفة حكومية في مصنع. مهما كان دور النفط في المستقبل، فإنه لا مستقبل مشرق للأجيال القادمة إلا إذا تقلص حجم القطاع العام، وقام القطاع الخاص بقيادة الأنشطة الاقتصادية.

إن السياسات التعليمية والاقتصادية في صلب السياسة النفطية ومستويات الإنتاج الحالية والمستقبلية. ويمكن القول إن بناء جيل متميز وريادي يهمش دور النفط تلقائيا وينوع مصادر الدخل حتى لو لم تهدف سياسات القطاع العام إلى ذلك، ولا يمكن أن يكون هناك جيل ريادي إذا كان أقصى ما يحلم به الشخص هو الحصول على وظيفة في القطاع العام!

إنتاج النفط .. وآراء ثلاثة

كما ذكر في المقدمة, فإن هناك رأيين حول إنتاج النفط. الرأي الأول يرى أنه يجب تخفيض الإنتاج وإنتاج الكمية التي تدر أموالا كافية لمواكبة سير التنمية الاقتصادية بغض النظر عن حاجة الدول المستهلكة إلى النفط، كما يرون أنه ليست هناك حاجة إلى توسيع الطاقة الإنتاجية وبناء طاقة إنتاجية فائضة. ويرون أن تخفيض الإنتاج، أو عدم زيادة الطاقة الإنتاجية، يحقق هدفين: الأول رفع أسعار النفط حاليا ومستقبلاً، الأمر الذي يضمن للحكومة عوائد مالية كافية، والآخر أنه يبقي جزءا من النفط للأجيال القادمة.

الرأي الآخر يرى أنه يجب إنتاج ما يمكن إنتاجه تحت أي ظرف، وتحويل الإيرادات، خاصة الفائضة منها، إلى استثمارات مختلفة، بما فيها الاستثمار في القطاع الصناعي، لتصبح مصدر الدخل في المستقبل.

المشكلة الأساسية في كلا الرأيين أنهما يتجاهلان أثر هذه السياسات النفطية في السياسات المالية والنقدية للبلد، التي قد تكون كارثية. مثلا، ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي عوائد النفط بشكل كبير سيؤدي إلى التضخم، كما أن بيع أكبر كمية من النفط بأي سعر سيؤدي إلى التضخم أيضا.

والمتتبع لشؤون النفط يرى أن السياسة الحالية للسعودية تمثل رأيا ثالثا يجمع بين الرأيين السابقين، ويتلافى سلبيات كل منهما, فعماد الرأي الأول فكرة مفادها أن العالم لن يستغني عن النفط مهما كان السعر، وهي فكرة أثبت التاريخ عدة مرات عدم صحتها. وعماد الرأي الثاني فكرة مفادها أن وفرة الأموال هي العائق في وجه نقل التكنولوجيا وتحول اقتصادات الدول النفطية من اقتصادات ريعية إلى اقتصادات صناعية، وهي فكرة أثبت التاريخ عدم صحتها أيضا. فتحويل اقتصاد ريعي إلى اقتصاد متقدم أمر معقد وصعب، ويتطلب جهود أجيال متعددة.

مصلحة الأجيال القادمة

إن الحفاظ على النفط للأجيال القادمة لا يعني بالضرورة الاحتفاظ به في باطن الأرض، لكن يعني بالضرورة تأمين استمرار الطلب على النفط في المستقبل. ما الذي يجب أن تفعله دولة نفطية مثل السعودية للحفاظ على الطلب على النفط في المستقبل كي تستفيد الأجيال القادمة من عائدات النفط بشكل مباشر؟ الجواب بسيط للغاية لأنه السياسة الرسمية منذ سنوات طويلة للسعودية: بناء طاقة إنتاجية فائضة وجعلها أداة استقرار في أسواق النفط العالمية. إن الأسعار المرتفعة ليست من مصلحة دولة مثل السعودية تتمتع باحتياطات نفطية ضخمة. إن ارتفاع أسعار النفط فوق حد معين سيقلل الطلب على النفط وسيزيد إنتاج مصادر الطاقة البديلة وسيشجع دول خارج “أوبك” على زيادة الإنتاج. النتيجة الحتمية لذلك هي انخفاض الأسعار، ربما بالطريقة نفسها التي انخفضت بها الأسعار في منتصف الثمانينيات وفي عامي 1998 و1999. هذه النتيجة لا تنفع الأجيال الحالية، ولا تساعد الأجيال القادمة بأي حال من الأحوال.

وقد يقول بعضهم إنه يمكن أن ترتفع أسعار النفط دون حصول الآثار السلبية السابقة حيث استمرت اقتصادات الدول المستهلكة في النمو بين عامي 2004 و2008 رغم الارتفاع المستمر في أسعار النفط، ورغم بلوغ أسعار النفط مستويات قياسية. لكن هذا القول مردود للأسباب التالية:

1- الوقائع والبيانات تشير إلى تطور كبير في مصادر الطاقة غير النفطية خلال تلك الفترة خاصة الوقود الحيوي، المنافس “الرسمي” للنفط، كما تشير إلى تغير سلوك المستهلكين منذ بداية عام 2007، خاصة في الولايات المتحدة.

2- يرى بعضهم أن ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة أسهم في حالة الكساد التي شهدها العالم عام 2009، ويرى آخرون أن ارتفاع أسعار النفط لم يكن ضمن الأسباب الرئيسة، لكنه أسهم في تفاقم حالة الكساد.

3- كانت الفترة التي ارتفعت فيها أسعار النفط بين 2004 و2008 مميزة في التاريخ وذلك لأنها الفترة الوحيدة في التاريخ التي ارتفعت فيها أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي والإنفاق العسكري والاستهلاك الفردي بشكل كبير، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الدولار وأسعار الفائدة. هذه الحقيقة التاريخية تعني أن ارتفاع أسعار النفط مع انخفاض الإنفاق الحكومي وارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع الدولار (وهي أمور سنراها في السنوات المقبلة) ستؤدي إلى نتائج مماثلة لما حصل في السبعينيات.

إن مصلحة الأجيال القادمة في الدول النفطية تتطلب تأمين سوق نفطية لهذه الاحتياطيات لأطول وقت ممكن، وهذا لا يتم إلا إذا بقيت أسعار النفط ضمن نطاق معين يضمن تحقيق هذا الهدف، ولا يتم ذلك إلا إذا توافرت طاقة إنتاجية فائضة يمكن استخدامها لإبقاء الأسعار ضمن ذلك النطاق. هذا يعني بالضرورة زيادة الإنتاج في بعض الأحيان فوق الاحتياجات المالية للدولة، رغم انخفاض سعر صرف الدولار ومعدلات الفائدة. كما أن هناك مصالح سياسية واستراتيجية أخرى لا مجال لذكرها في هذا المقال, لكن يمكن اختصارها بالعبارة التالية التي نشرت في السابق: إن أعظم سلاح عسكري وسياسي واستراتيجي تملكه السعودية هو قدرتها على تغيير الإنتاج بكميات كبيرة، الأمر الذي يتطلب وجود طاقة إنتاجية فائضة. إن قيمة النفط لا تقيم بالدولارات التي يمكن أن تحققها السعودية الآن فقط، لكن تقيم أيضاً بالمنافع السياسية والاستراتيجية والتجارية التي تحصل عليها المملكة من كونها المتحكمة في أسواق النفط العالمية بسبب الطاقة الإنتاجية الفائضة التي تملكها.