سرقة أدبية
كيف سطا الدوسري على أشعاري
د.حسن الأمراني
أمر السرقات قديم في النقد العربي، وقد عولج ذلك تحت أبواب شتى...وتلك السرقات متفاوتة، وبعض تلك السرقات مما يوجب الحد، على حد تعبير ابن وكيع التنيسي.وكل ذلك لم يكن يعدو سرقة معنى هنا أو لفظ هناك..
أما أن يقع سطو على نص بكامله، وينسب لغير صاحبه، فذلك لم يكن يحدث إلا على سبيل التندر، كالذي يروى من أن الفرزدق، فحل مضر، كان إذا سمع شاعرا ينشد شعرا أعجبه يقول لصاحبه: القصيدة لي منذ اليوم..إياك أن تنشده..ويهدده بالهجاء. وما نظن هذا الخبر صحيحا، فلم يكن عطن الفرزدق ضيقا على ذلك الحد.
وأما سرقة الأحياء للأموات، فذلك أمر نادر، إذ ما يزال في الناس بقية أخلاق وضرب من التقوى وشيء من الحياء..ولكن ما العمل مع أهيل هذا الزمان، كما سماهم أبو الطيب، وقد تجاوزوا سرقة الأموات إلى السطو على الحياء؟
كانت تصل إلى مجلة المشكاة، التي أرأس تحريرها، رسائل من القارات الخمس، أو الست، وكنت أخصص وقتا للإجابة عنها. ومنذ سنين عددا بدأت تتوالى رسائل من شخص اسمه حفيظ بن عجب..وصار توالي الرسائل يعجزني عن الإجابة عن كل رسالة على حدة، لكثرتها، حيث لا يكاد يمر أبوع إلا وتصلني فيه منه رسالة أو أكثر، حتى صارت هذه الرسائل، بغلافها المذهب، تمثل ملفا خاصا. كان صاحبها يبعث بمحاولات شعرية يرجو نشرها في المشكاة. وكان معظم تلك المحاولات لا يرقى إلى الكتابة الشعرية، فضلا عن أن نخصص له مكانا في المشكاة التي كانت لها مقاييسها الفنية والموضوعية.
وذات يوم اتصل بي هاتف يقول: أنا حفيظ الدوسري. وبسرعة رحت أستحضر صاحب الرسائل فقلت: حفيظ بن عجيب؟ فقال: ابن عجب يا شيخ.. وأبدى صاحب المكالمة رغبة في زيارة المغرب فرحبت به، وقد تم ذلك فعلا، فعرفته على عدد من أعضاء هيئة تحرير المشكاة، وغيرهم من الأدباء، وكان حمل معه عددا من الأشعار لطبعها في المغرب، فطبع منها ما قدر له أن يطبع في دار الأحمدية للنشر، التي يديرها ابن عمي، واسمه يطابق اسمي،د.حسن الأمراني الزنطار. ومع الأيام عرض علي الشيخ حفيظ الدوسري عددا من الأشرطة التي تتضمن أناشيد من كلماته، وعرض علي أن يحمل بعض أشعاري إلى بعض المنشدين لينشدوها، فلم أمانع، وسلمته عددا من القصائد المخطوطة، بالإضافة إلى ما تيسر من دواويني المطبوعة، ولم أشترط عليه شرطا، لا حقوق الطبع ولا غيرها.فأنا منذ زمان جعلت شعري وقفا على شعبي وأمتي، كما قلت في قصيدة بجماليون، لا أريد من ورائه جزاء ولا شكورا. ثم تقدم إلي أحدهم مرة يستأذن في إنشاد قصائدي، ولكنه طلب إذنا خطيا، فكتبته، فلما قرأ ما كتبت قال: أريد صيغة أخرى..نظرت إليه مستفسرا، فقال: أن يكون لي وحدي حق تلحين وإنشاد شعرك..نظرت إليه مستنكرا، ولم أجبه، وانتهت العلاقة عند هذا الحد..ثم قدم الشيخ الدوسري اقتراحا آخر، وهو أن نصدر مجموعة شعرية مشتركة، ويكون طبعها على حسابه. وقد تحرجت من طلبه، ولكني استحييت أمام إلحاحه، وقبلت، فاتفقنا على أن يختار كل منا عددا معينا من القصائد، ثم ترك لي اختيار عنوان المجموعة المشتركة، فاخترت عنوان (نبض الخافقين)، فسُرّ لذلك، ورحب به، مفسراً العنوان على أنه نبض قلبين، ولكنني شرحت له المراد، وقلت إن الخافقين في العربية تطلق على المشرق والمغرب، فكأن العنوان يعني نبض المشرق والمغرب.
وعندما بدأ طبع الديوان، وكان علينا تصحيح القصائد، اختار صاحب دار الأحمدية أن يجدد في الإخراج، فعادة ما تقسم الدواوين المشتركة تقسيما تكون فيه قصائد كل شاعر متتابعة وكأنها في تتابعها تمثل وحدة متكاملة، ولكن الناشر اختار أن يجعل القصائد يتلو بعضها بعضا، قصيدة له، تتلوها قصيدة لي، وهكذا..فلما قلنا له إن هذا سيبلبل القارئ، اختار أن يضع توقيع كل شاعر أسفل كل نص.
ولكن الذي فوجئت به، أنا وعدد من الأصدقاء، هو أن الشيخ حفيظ لا يعرف العربية، فهو يخلط بين التعابير العامية والفصيحة خلطا قبيحا، كأن يقول مثلا: (فكرت فيني)..قلنا: ما معنى فيني هذه؟ وكان يقصد (فيّ).. وقد تولى بعض الأساتذة من الأصدقاء تصحيح عدد من تلك الأخطاء، بحكم قربه من دار النشر التي تبعد عني بحوالي ستمائة كلم.. وهكذا صدر الديوان الذي لم يرض عددا من النقاد الذين لاموني على ما صنعت، من هذا النشر المشترك الغريب..وهذا سبب جوهري وراء عدم توزيعي الديوان على نطاق واسع..بل لم أكن أثبت اسمه ضمن أعمالي.
وعاد السيد الدوسري إلى بلده...وطال الصمت..وفجأة رأيت قصائدي تنشد في عدد من البلاد الخليجية، ولكنها و يا للفجيعة منسوبة إلى (الشيخ حفيظ الدوسري حفظه الله).. ولو كان الأمر مقتصرا على موقع واحد لقلت إن ذلك من باب السهو أو الخطأ، فطالما نسبت أشعار لغير أصحابها، وأما والمواقع تجمع على ذلك فتلك الطامة الكبرى. أوليس من حق القراء عليّ، ومن حق التاريخ، ومن حق الحق أن أرد الأمور إلى نصابها؟
عندما علمت ابنتي، الإعلامية اعتماد، أمر السطو، استأذنتني في متابعة القضية، بطرقها المهنية، إلا أنني صرفتها عند ذلك، وثرت الاكتفاء بهذا البيان.
ولأقف عند مثل واحد، وهو قصيدتي التي عنوانها: (شجر الجهاد)، حيث استغني في الإنشاد عن هذا العنوان، واكتفي بالشطر الأول من المطلع: (ماض وإن قطع الطغاة لساني)..لقد كتبتُ هذه القصيدة في 30/10/1988، وبين يدي مسودتها، وألقيتها في المؤتمر الثالث للاتحاد العام التونسي للطلبة الذي عقد في شهر نونبر 1988، في مهرجان كبير، وكان ما يزال هناك بعض انفراج سياسي، وتناقلت القصيدة منابر إعلامية، كما تناقلها الحاضرون، وهي مسجلة صوتيا وبصريا أيضا، حيث لم أكن يومها أرسل لحيتي، وشرّقت القصيدة وغرّبت، حيث نقلت إلى عدد من دول أوربا، ومنها ألمانيا، بالإضافة إلى البلاد العربية.. وقد بعثت بها لتنشر في مجلة (الجهاد) الليبية، وما أدري إن نشرت أم لا، فلم تعد المجلة تصل إلى يدي..
في ذلك التاريخ البعيد لم تكن قوادم السيد حفيظ الدوسري قد نبتت بعد، ولا قوي عوده في مجال الشعر (هل قوي الآن؟)، وكان ما يزال يدرج على عتبات الكلمة، فكيف تأتى له أن يقول ذلك الشعر المجلجل؟
والناظر في القصيدة يجد أن روحها، لفظا ومعنى، روح الأمراني، لا روح الدوسري. وهي من مجموعة عنوانها: (قلوب على بركان) وكلها قصائدها كاملية، وتجري على نمط واحد. وقد اختار الأستاذ الأديب أحمد الجدع إحدى الكامليات ضمن أجمل ما قيل في الشعر العربي الحديث. ولننظر إلى هذا البيت من (شجر الجهاد):
شجرُ الجهادِ نما فأورق عزّة قبست سناها من سنا الإيمان
وقولي في قصيدة: قلوب على بركان
بدمي العيونُ تشعّ بالإيمان وترفّ في الأعماق فيضَ حنان
بدمي العيونُ المورقاتُ قصائدا خضراءَ تسبح في دنى القرآن
وهجٌ أطلّ كأنه قبسٌ بدا من نار موسى رائعَ الخفقان
فسيتبين أن الأبيات من مشكاة واحدة.
بل إنني دون عجب ولا كبر أتحدى السيد الدوسري، لا أن يأتي بمثلها، فدون ذلك خرط القتاد، بل أن يفقهها بيتا بيتا.. ويعرف مناسبة القصيدة، ويفك أبعادها..
وأخيرا، فإذا كانت هذه القصائد نسبت إلى الشيخ الدوسري على غير إرادة منه، فإنني أدعوه إلى أن يصدع بالحق، ويرد الحق إلى أهله، وإذا كان قد انتحلها وخان الأمانة التي حملتها إياها، فالموعد الله.
وكتبه الحسن بن عمر الأمراني، كان الله له، بالشارقة في 23 ربيع الآخر 1431ه ، الموافق ل 8مارس 2010م.