الحصاد التركي من حروب "داعش"
الحصاد التركي من حروب "داعش"
يجمع المراقبون على أن حكومة أنقرة المستفيد الأكبر من تداعيات حروب «داعش» في المنطقة عموماً وفي المشهد السوري على وجه الخصوص.
أولاً، هناك استدعاء حضور عسكري دولي كانت تركيا من أوائل المطالبين به كي يعينها على مواجهة ضغوط تمارسها عادة الجارتان، إيران وروسيا، لتحجيم دورها المشرقي. فتوفير غطاء سياسي عالمي مثقل بالعصا العسكرية الغربية يحرر قرار أنقرة المتحسب من تعقيدات الصراع في المنطقة واحتمال أن يفضي توغلها في الحالة السورية إلى استفرادها من قبل إيران وحلفائها، وما يستتبع ذلك من تداعيات تضع قطار حزب العدالة والتنمية على سكة لا يريدها، وربما تستنزف قواه وتهدد طموحاته.
ولعل ادراك تركيا حاجة الغرب الماسة لدورها في مناهضة «داعش» وفي معالجة الملف السوري، شجعها على وضع شروط على التحالف الدولي تجنبها الوقوع فريسة تسوياته المحتملة. ومن الشروط مطالبته بتأمين منطقة حظر جوي تردع خصومها عسكرياً، ومنها ربط ما يجري بخطة طريق تفرض تغييراً سياسياً في سورية يزيح السلطة القائمة ويمهد لقيام حكومة بديلة موالية لتركيا.
ثانياً، تركيا صاحبة المصلحة الحقيقية في إجهاض الحضور الكردي المستقل في سورية ومحاصرة تأثيره السلبي على استقرارها وعلى مسار التسوية مع حزب العمال الكردستاني، والقصد أن خطة «داعش» في السيطرة على القرى الكردية الممتدة على طول الشريط الحدودي بين سورية وتركيا، تقدم افضل خدمة لحكومة أنقرة في محاصرة الوجود السياسي والعسكري الكردي وتحجيم اخطاره، وبخاصة قوات pyd التي استثمرت انسحاب الجيش السوري من مناطقها لتعلن الادارة الذاتية وتنظم قواها، عسكرياً واجتماعياً. يزيد الأمر وضوحاً ما يحصل في عين العرب (كوباني) وإحجام تركيا عن مساندة الأكراد المدافعين عن المدينة، ربما لأنها تتطلع لأن يشكل سقوط كوباني درساً بليغاً ومؤلماً للأكراد، وربما كي تعزز ضغوطها على pyd للقبول بشرطها للتعاون ضد «داعش»، وهو فك ارتباطه بسياسات النظام السوري والتعاون مع المعارضة الداعية لإسقاطه. ولكن ربما لم تتحسب سلطة أردوغان من أن يفضي اجتياح كوباني عنفاً وتدميراً إلى شحن العواطف القومية الكردية وإلى اندفاعات شعبية وسياسية وعسكرية ضد مصالحها!
ثالثاً، استثمار الحملة الدولية لدحر «داعش» للتشجيع على إقامة منطقة آمنة في جزء من شمال سورية وشرقها، بما يمكن حكومة أنقرة من نيل حصة مجزية في إعادة إعمار المناطق المدمرة هناك، ومن التحكم بالنفط السوري واستجراره إلى السوق التركية بأسعار مقبولة. وفي هذا السياق يمكن إدراج مشروع قديم، يندر الحديث عنه، يتعلق بمصلحة تركية في الوصاية على ممر عبر الأراضي السورية لنقل الغاز القطري إلى أوروبا وتخفيف ارتهان الأخيرة للغاز الروسي، وفي الطريق تخفيف الأعباء التي تتكبدها تركيا لقاء تزايد أعداد اللاجئين السوريين على أراضيها بتشجيعهم على العودة إلى مدن المنطقة الآمنة وقراها.
رابعاً، مع تنامي وزن «داعش» وعنفه البدائي وتهديداته المستفزة، يسهل على حزب العدالة والتنمية تسويق نموذجه في الحكم، كخيار للإسلام المعتدل، في أوساط الرأي العام العربي والغربي، والترويج لموقع أنقرة الريادي دينياً وادعاء أنها خير من دافع ويدافع عن الاسلام السنّي الذي تنتهك حقوقه في غير مكان، وتالياً استعادة القاعدة الشعبية للحزب التي انحسرت جراء فضائح الفساد، ومحاصرة الاعتراضات على أسلوبه المتدرج في فرض نمط الحياة الاسلامية على المجتمع التركي. ولولا هذه المستجدات، ما كان ليتجرأ أحد المسؤولين الأتراك على المطالبة بتحريم ضحكات النساء في الشارع، أو تمرير قانون يسمح للطالبات في المدارس الابتدائية بارتداء الحجاب!
في ما مضى ومع الظهور الأول لـ «داعش» سارع بعضهم، وكان على حق، إلى تحميل إيران والنظام السوري وحلفائهما مسؤولية نشوء التطرف الاسلاموي ودعمه لإثارة الفوبيا الغربية من الجهادية المتشددة وتشجيع القبول بهم كأهون الشرور. واستند هؤلاء إلى وقائع ميدانية تثبت وجود ما يشبه التواطؤ بين هذه الأطراف لتشويه الثورة السورية وإجهاضها، وصلت إلى حد إطلاق مئات المتشددين الاسلامويين من سجون العراق وسورية وتمكينهم من التغلغل في صفوف الحراك الشعبي ودفعه صوب السلاح ومنطق العنف. واليوم يذهب آخرون، وهم محقون أيضاً، الى تحميل تركيا مسؤولية دعم «داعش» وتمكينه لاستخدامه ورقة في حسابات النفوذ على منطقة المشرق العربي، مستندين أيضاً الى وقائع كثيرة، منها أن تركيا الطرف الوحيد الذي فتح الحدود على مصراعيها لتسرب الآلاف من كوادر التنظيمات الجهادية من الشرق والغرب كي ترفد تنظيم «داعش» وتمده بالخبرات والأموال، ليبدو كذر للرماد في العيون اعلان أنقرة أخيراً منع أكثر من ألف متطوع جهادي من دخول الأراضي السورية وترحيلهم إلى حيث أتوا، ومنها فضيحة التسوية المعلنة والمذلة بين حكومة أنقرة و»داعش»، وفيها تمتنع سلطة أردوغان عن تأييد التحالف الدولي لقاء تحرير أسراها الديبلوماسيين، وتبادر لإطلاق أكثر من مئة مقاتل من أنصار «داعش» من سجونها. فكيف الحال إذا أضفنا ما يثار عن اكتشاف مخازن أسلحة نوعية لـ «داعش» فوق الأراضي التركية. ولا يغير هذه الوقائع بل يؤكدها ضمناً اعتذار واشنطن لحكومة انقرة عن اتهامات طاولتها على لسان غير مسؤول اميركي عن دور كبير لها في مساعدة تنظيم «داعش» وتمكينه.
والحال أن حروب «داعش» مهدت لعودة الدور التركي إلى موقعه المؤثر في صراعات المنطقة بعد انحسار موقت، وأنعشت حنين حزب العدالة والتنمية الى الماضي الإمبراطوري العثماني، وأظهرت تالياً أن سلطة أردوغان لا تزال متحفزة لمد نفوذها شرقاً تحت الراية الاسلامية، وأنها لن تقبل أبداً بخسارة حصتها من المستقبل السوري أو السماح لآخرين بقطف ثمار هي الأولى بها، بخاصة أنها خير من يدرك أن الصراع على دمشق سيكون مفتاح الصعود أو التراجع لدورها الريادي في الجوار العربي والإسلامي.