عسكرة الجامعة !

عسكرة الجامعة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

قبل ثورة يناير كان أساتذة الجامعة يكافحون من أجل استقلالها وتحريرها من سيطرة ما يسمى الحرس الجامعي الذي كان غطاء لجهاز أمن الدولة ، والسعي الحثيث ليختار الأساتذة رؤساءهم وقادتهم في القسم والعمادة والإدارة ، اختيارا حرا يحقق التوافق ، ويقلل الخلافات والصراعات التي يحتمي طرف  منها عادة بسلطة الأمن الباطشة ، حيث لم يكن خافيا تأثير المخبر وأمين الشرطة والضابط على الجامعة وأساتذتها الذين يمثلون صفوة المجتمع !

بعد ثورة يناير 2011 تم إخراج الحرس الجامعي من حرم الجامعة ، وقام الأساتذة باختيار قياداتهم اختيارا حرا نزيها ، ولأول مرة منذ عقود يمارس الطلاب حريتهم في التعبير عن آرائهم ، ويجلس قرابة خمسة آلاف طالب من مختلف التيارات مع الرئيس الشرعي محمد مرسي – فك الله أسره - ويناقشونة بمنتهى البساطة ويعرضون عليه مشكلاتهم بمنتهى الصراحة ، وتبدأ الجامعة في التنفس والمشاركة في حركة البحث العلمي الجاد والتنافس  على مستوى الجامعات الإقليمية والدولية ؛ حتى لوكانت النتائج متواضعة .

بعد الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، تم اعتقال مئات الأساتذة الفضلاء ، واتهامهم بتهم ملفقة مفضوحة ، وحكم على العشرات منهم بالإعدام والسجن المشدد لمدد طويلة ، وتم فصل أعداد غير قليلة ممن لم يقعوا في قبضة الانقلاب أو يعيشون في المنافي هربا بحياتهم ، مع إلغاء الانتخابات ، وإصدار قرا رات استبدادية ظالمة تمنح رئيس الجامعة المعين من قبل سلطة الانقلاب بعزل الأساتذة الذين لا يؤيدون الانقلاب ولا يهتفون له ، فضلا عن فصل الطلاب دون تحقيقات أو مجالس محاكمة ، وكل ذلك بمخالفة الدستور الانقلابي الذي وضعوه في غيبة الشعب وخاصة المواد 15 ، 16 ، 62 وغيرها . وصارت تهمة " الأخونة "من التهم الجاهزة التي ينتقم بها بعض الانتهازيين من زملائهم أو من الطلاب . وتحول الحرم الجامعي إلى ثكنة عسكرية تمرح فيها المصفحات والمدرعات وتتواضع إلى جانبها معسكرات الجيش .

تمت إقالة رئيس جامعة المنيا المنتخب بتهمة أنه من الإخوان ، وصدر قرار من أعلى سلطة ينزعه من منصبه ، ويعين آخر مواليا للانقلاب بديلا له . 

تم تعيين ست رؤساء جامعة من الموالين للانقلاب بعد انتهاء مدتهم القانونية بقرار فوقي لا يابه بإرادة الأساتذة ورغبتهم .

تم إيقاف عميد إحدى كليات اللغة العربية بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين – وهي تهمة غير صحيحة – لأن بعض زملائه المنافقين الأفاقين رأوا أنه من الممكن أن ينافسهم على رئاسة جامعة الأزهر . وبالطبع السلطة الانقلابية ترحب بهذه التهمة وتأخذها مأخذ التسليم الذي لايقبل الجدل مهما كان صاحبها بريئا منها .

تم سحب درجة دكتوراه من صاحبها بجامعة الأزهر لأنه استخدم وصف الانقلاب في رسالته ، وأدان الإعلام الموالي له والليبراليين الذين انقلبوا على مبادئهم ، وقيل إن التحقيق سيشمل الطالب واللجنة التي منحته الدكتوراه بعد مناقشة علنية وإيقاف الدراسات العليا بكلية الدعوةالتي ينتمي إليها الطالب وتشكيل لجنة لمراجعة جميع الرسائل التي نوقشت فيها .

هذا الإرهاب الفكري أوالمكارثية الجديدة ضد الجامعة سلوك غير مسبوق ، ولم يحدث من قبل لا في زمن الاحتلال الإنجليزي ، ولا في زمن الطاغية المهزوم دائما جمال عبد الناصر ، بل إن عهد الكنز الصهيوني الإستراتيجي المخلوع كان أقل حدة مما يفعله الانقلابيون العسكريون الدمويون الآن !

إن إرهاب الأساتذة والاعتداء على حرية الرأي والفكر ، ومصادرة البحث العلمي جريمة كبرى تخالف الدساتير والقوانين والمواثيق العالمية والدولية . وكنا نتمنى أن نسمع صوتا من مثقفي السلطة وأبواقها الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حين تتم مساءلة زنديق مهووس أو ملحد بائس أو شيوعي أفاق وهو يسب الذات الإلهية - وليس الانقلابية – ويسيء للأنبياء ويزدري الأديان ، فيملأون الدنيا ضجيجا عن الرجعية والأصولية والعقول المتحجرة التي تحارب حرية التعبير وحق الإبداع .

ثم كانت الطامة الكبري بالإعلان عن تعيين مخبرين من الطلاب " الوطنيين " ليشوا بزملائهم الذين يعارضون الانقلاب تحت مسمى الإبلاغ عن المظاهرات . كان المخبرون من الطلاب الأمنجية يعملون في الأزمنة السابقة سرا ودون إعلان ، ومع ذلك كان الطلاب يعرفونهم ويحتقرونهم ، ولكنهم الآن يعملون تحت مظلة علنية ، ويمنحون صفة الوطنية -  يا للعار ! طالب يعمل مخبرا ليكون مقربا من أجهزة القمع التي توفر له الرعاية ، وتعمل على مساعدته حتى يكون في منصب مرموق عقب تخرجه بعد أن باع نفسه للسلطة الفاشية القمعية ، وربما وصل بعضهم مستقبلا إلى مناصب كبرى منها منصب الوزارة . 

قبل أيام ، احتلت قوات الحرس الجمهوري جامعة القاهرة ، ومنعت الدخول إليها لمدة يومين ، لتأمين احتفال أمني قيل إنه لتكريم الطلاب الفائقين . تم اختيار عشرات الطلاب الذين سيحضرون الاحتفال على الفرازة ،  ولم توجه الدعوات لاتحاد الطلاب ولا لرموز الحركات الطلابية ، كما تم اختيار الأساتذة الموالين للانقلاب ولاء لا شك فيه ، وجرى منع أجهزة الإعلام المحلية والدولية من حضور الاحتفال ، وحدها كانت الدبابات والمصفحات هي التي تملأ الحرم الجامعي الذي لم يعد حرما !

في الاحتفال ؛ دعا قائد الانقلاب الطلاب إلى الالتفات نحو تحصيل العلم وعدم الاِنخراط في أية أنشطة سلبية أو الانجراف وراء أفكار هدامة تستهدف النَيْل من مقدرات الوطن . بعض المعلقين فسر تلك الدعوة بأنها تنبيه للطلاب أن يمشوا بجوار الحائط ، وإلا ...!

الآخرون فسروا المسألة بأن قائد الانقلاب يحذر الطلاب من عدم الاقتراب من الإسلام أو الالتزام به أو الدعوة إليه أو التماهي معه داخل الجامعة أوخارجها . باختصار عدم التعاطي مع السياسة بأية صورة !

بالطبع كان هناك كلام إنشائي مكرور عن مشاركة الطلاب والشباب في الحياة الاجتماعية ، وتخصيص خمسين في  المائة للشباب في المجالس القومية ، ولكن هذا الكلام لا يعبر عن شيء ذي معني ، بينما قائد الانقلاب يطلب من الشباب الجامعي أن يمشوا جنب الحيط ، ويتخلوا عن الأفكار المزعجة لسلطته الفاشية !

تساءلت عن اساتذة الجامعة الذين مهدوا لثورة يناير :أين هم ؟ أين  جماعة 9 مارس ؟ لقد شارك بعض أعضائها المشهورين في انقلاب 3 يوليو، ومنهم من وعدوه برئاسة مجلس النواب القادم ، ومنهم من نال نصيبه في التشكيل الوزاري الانقلابي بعد أن قام بدوره في تقنين القمع والاستبداد ، ومنهم من اكتفى بالظهور الإعلامي على منابر النظام .. أما من بقي على العهد ، فإما دخل السجن أو عرف المنافي أو وجد نفسه وحيدا في التيه الظالم المظلم !

عسكرة الجامعة شذوذ لامثيل له في العالم الحر ، ولن يبقى طويلا ، لأنه يعوق عقل المجتمع عن التفكير والبحث والعلم والعمل . وكما فشلت العسكرة من قبل ستفشل العسكرة من بعد بإذن الله.