أزمة القيادات الوسطى
أزمة القيادات الوسطى .. فلا اقتحم العقبة
أبو آلاء - مصر
تعاني بعض الحركات الإسلامية المعاصرة من ضعف بعض قادتها، خصوصا القيادات الوسطى التي تحول بين الدعاة الصغار والقيادات الكبرى بشكل يرهقهم فكريا ونفسيا، مما يؤدي إلى الإحباط والتفكير الجاد في مغادرة صفوف الحركة. هذه القيادات الوسطى ليس لديها حديث إلا عن الثقة والسمع والطاعة إذا ما بدت لهم صفحة أي استفسار بريء عن أي سلوك من السلوكيات أو اختيار حركي تبنته الدعوة في وقت ما.
والسؤال في شقين:
الأول: كيف يتعامل الدعاة مع هذه المواقف المتصادمة مع تلك القيادات الوسطى التي ترهقهم نفسيا وعقليا وتحبطهم؟
والثاني: لماذا تتولى هذه القيادات تلك المسئوليات؟ ولماذا يعتمد مبدأ الثقة، ويقدَّم على مبدأ الكفاءة؟
يقول الأستاذ فتحي عبد الستار:
أخي الحبيب، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأتم الله عز وجل علينا وعليكم النعمة، ورزقنا وإياكم سعادة الدارين، وبعد..
فدعنا أخي نقرر أولا أن الحركات الإسلامية ما هي إلا تجمعات بشرية، وهي وإن توافرت لها الأسياج التي تحميها –في مجموعها- من الزيغ والضلال، إلا أنها تظل معرضة -بحكم بشريتها- للانحرافات الفردية، والزلات العرَضية.
وما عبرت عنه في رسالتك وتشكو منه لا يستطيع مُنصِف أن ينكره كليةً، وفي نفس الوقت لا يقدر على أن يعطيه صفة العمومية.
ودعنا نقرر أيضا أننا –كسائل ومجيب– عندما نتعرض لمثل هذه المشكلات فنتناول أسبابها ومظاهرها وطرق علاجها، فإننا لا نقصد التشويه أو التقليل من قدر أو شأن هذه الحركات وما تقوم به من خدمة لهذا الدين، ولكننا نعتبر ما نقوم به إنما هو بمثابة ترشيد ونصح لهذه الحركات كي تستدرك أخطاءها وتعدل من مسارها، لتبلغ غاياتها وتحقق أهدافها.
وللأسف نجد من يعتب علينا –وقد حدث هذا معي شخصيا– تناولنا هذه الأمور ومناقشتها بشكل علني، بدعوى أن لهذه المشكلات والشكاوى مسارها المحدد الذي يجب أن تسلكه داخل الحركة، عبر قنوات ترى القيادة العليا للحركة وتؤكد أنها “سالكة” وليس دونها حواجز، ويراها الكثير من أفراد القاعدة ويؤكد أيضا أنها مسدودة مسدودة، بفعل القيادات الوسطى، ودونها مخاطر الاستماع اللائم، والاحتواء الظالم، والأحكام الجاهزة، وتطييب الخواطر، والحلول المدروشة، ومعاقبة الضعيف والتجاوز عن الشريف!!.
ولكن ما أعتقد فيه يقينا ردًّا على هذا العتاب أمران:
1- أن الحركات الإسلامية وما يحدث فيها –بحكم أنها جزء من المجتمع وتتعامل معه- إنما هي شأن عام، لا يجوز احتكار الحديث عنها وقصر الاطلاع على مشكلاتها على أبناء هذه الحركات والمنتمين لها وحدهم، باعتبار أنها عورات لا يجوز كشفها.
2- أن هؤلاء الشاكين الذين يعانون داخل هذه الحركات لم تكسر أصواتهم الحاجز، وتعبر الأسوار إلا بعد أن سُدَّت في وجوههم تلك القنوات “الشرعية”، وبعد أن عجزت عن الوصول إلى آذان من بيدهم التغيير أو الحل، أو وصلت لكنها قوبلت بردود محبطة ومخيِّبة للآمال، فأصبح بعضهم يتململ في مكانه بين إخوانه ينتظر الفرج، تحدثه نفسه من حين لآخر بمفارقة صفوف الحركة -كما ذكرت أخي في رسالتك- وتمنعهم من ذلك أمور كثيرة، عرفها وذاق ويلاتها من خرج!!.
إن ما اعتقدته منذ زمن وما زلت عليه حتى الآن أن المشكلات التنظيمية للحركات الإسلامية في معظمها منبعها بعض القيادات الوسطى –وأحيانا العليا- التي تفرض وصاية فكرية وتنظيمية أشبه بالحكم الثيوقراطي على من تحتها، حيث نجد بعضها يداري ضعفه وقلة بضاعته تحت أردية بعض المفاهيم التي يحولها إلى مقامع يشهرها في وجوه إخوانه إذا لاحت منهم بادرة استفهام أو اعتراض أو انتقاد، فيشهر لهم (البيعة) تارة، و(الثقة) تارة، و(السمع والطاعة) تارة أخرى، حتى فقدت هذه المفاهيم هيبتها واحترامها عند الكثير من الأفراد من كثرة امتهانها.
إن مفاهيم مثل (السمع والطاعة) و(الثقة) لا ينبغي أن تطلق على عواهنها بهذا الشكل؛ فلكل مفهوم اشتراطاته التي تحكم تطبيقه، وآدابه التي لا يؤدي وظيفته إلا بها.
ومن الردود الجاهزة على مثل هذا الحديث، ويظن قائلها أنها كافية للإسكات والإقناع.. أن هذه الممارسات التي تحدث ما هي إلا مجرد أخطاء فردية!!. ودعنا – جدلا – نسلم أنها أخطاء فردية، فهل لا يدعو تكرارها من حين لآخر عبر الزمن، وحدوثها في أماكن ومساحات مختلفة، وما تحدثه من خسائر فادحة للأفراد والحركة على السواء إلى الالتفات إليها ومعرفة أسبابها ومن ثم الوقاية والعلاج؟!.
يجب أن تغرس الحركات في نفوس أبنائها – قادة وجنودًا - أن النقد البنَّاء والحوار الجاد والابتكار والتجديد.. إنما هي ظواهر صحية يجب تشجيعها لا خنقها، والحرص على توفير المناخ المناسب لها، مع نشر ثقافتها وآدابها وشروطها بين الجميع. فإن هذا هو الطريق الوحيد الكفيل بمنع تحول روح الجماعة عند الأفراد إلى روح القطيع.
يجب أيضا أن يستقر في أذهان الجميع أنه ليس شرطا أن يكون الفرد هو المخطئ دائما وهو المدان حتما عند مفارقته للحركة أو الفصيل، ومن ثم لا داعي لإلقاء التهم بغير علم وتشويه سيرة وتاريخ هؤلاء المفارقين، دون معرفة تفاصيل وأسباب خروجهم. ولا داعي بالتالي لإطلاق الجمل التي نسمعها كثيرا في هذه المواقف، من أمثال أن “الجماعة تنفي خبثها” أو أن “الجماعة تتميز بخاصية الطرد المركزي”!!!.
إن أسباب الخروج لا يلزم أن تكون محصورة في آفات نفسية لدى الخارجين، ولا يلزم بالضرورة أن يكون الضرر من الخروج عائدا على الفرد الخارج دون الحركة، خاصة عندما يكون الخارج من ذوي الكفاءات والقدرات التي لم تستطع الحركة -أو القيادة المباشرة- استيعابها وتوجيهها.
إن معظم الأسباب – التي اطلعت عليها على الأقل – لا ترجع إلى خلاف حول المنهج أو الفكرة، بقدر ما ترجع إلى خلافات مع أحد أو بعض قيادات الحركة، وكان يمكن في حالات كثيرة حلها واستيعابها بشكل يحفظ للجميع حقوقهم، دون تجاوز أو تعدٍّ أو انتهاك للمبادئ والأخلاق. وحتى إن تعذر ذلك فيكون شكل الخروج حافظا لحرمة وكرامة الجميع.
وبالنسبة لسؤاليك أخي، فأقول ردا على السؤال الأول:
إن الطريقة المثلى التي يجب أن يتعامل بها الدعاة المخلصون مع هذه المواقف المتصادمة تتلخص في:
1- إخلاص النية أولا لله عز وجل، ووضع مصلحة الدعوة في الاعتبار الأول –أعني بالدعوة هنا الإسلام- والتعالي على الثارات الشخصية ومطالب النفس وترك الانتقام لها.
2- أن يكون الداعية على يقين بأن الفكرة التي يعمل من أجلها والحركة التي تمثلها تلك الفكرة ليست ملكا لأحد، وليس لأحد أن يحتكر وصاية عليها، بل الكل شركاء في العمل والمصير.
3- أن يعتقد الداعية أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، ولا مانع أن يفترض مبدئيا في نفسه الخطأ وفي قيادته الصواب، إذا كان الأمر متعلقا بمسألة اجتهادية لم يرد فيها نص شرعي، ولكن له أن يستفهم ويناقش حسب ما تتاح الفرصة للنقاش.
4- التزام الآداب والأخلاق في النقد والحوار، وعدم تجاوز الحدود في القول والعمل.
5- الالتزام بلوائح الحركة التي يعمل الداعية من خلالها، وعدم خرقها.
6- عدم الخجل من طرح أية فكرة، وإخراج كل ما يحيك في الصدر أولا بأول.
7- الصبر ثم الصبر وعدم اليأس، والدأب المستمر في عرض الأفكار ووجهات النظر التي يقتنع الداعية بصحتها.
8- طلب التصعيد إلى الجهات الأعلى فالأعلى، والحوار المباشر معها، إن عجزت تلك القيادات الوسطى أو المباشرة عن الاستيعاب والحل. ويستمر الحوار والنقاش حتى يقتنع أحد الطرفين برأي الآخر، أو يصلا معا لحل ثالث. وأظن أن نوعية المشكلات التي تحتاج لهذه المستويات المتتابعة من التصعيد قليلة جدا، وأن غالبية المشكلات يتم التوصل إلى حلول لها في مستويات دنيا.
9- إذا وصل الأمر لطريق مسدود؛ فيجب ألا يحبط الداعية وييأس من فوره، ويقرر متعجلا ترك الحركة واعتزال العمل، بل يصبر ويحاول الثبات في مكانه قدر الاستطاعة، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ويجعل الله له من أمره يسرا، ومن ضيقه مخرجا. ولا يكون مسعِّرا للفتنة بين إخوانه، ولا مصدرا لتعكير الصفو وإحداث الشقاقات، ولكن يسعى للتغيير بالطرق الشرعية التي تسمح بها لوائح الحركة.
10- إن فقد الداعية الأمل في الانسجام مع محيطه؛ فليرتحل إلى محيط آخر أو مجال آخر من مجالات وأنشطة الدعوة والحركة، ولن يعدم مكانا أو مجالا يوظف فيه إمكاناته وقدراته.
وأخيرا فليعلم الداعية أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ومع الإخلاص والعمل والصبر والدعاء، يهدي الله عز وجل الجميع إلى الصواب والرشاد.
أما عن سؤالك الثاني؛ فهو شائك لا ريب، والمجيب عنه كالسائر على طريق مليئة بالعثرات، يحتاج لتلمس مواضع قدمه، خطوة بخطوة. وأحتاج أن أؤكد قبل أن أمضي في الحديث أن ما أقوله هنا هو على اعتبار أن الداعية – أو الفرد - على صواب في رؤيته، وليس شرطا أن يكون دائما على صواب.
إن المعايير الثلاثة الأساسية التي يجب أن يتم اختيار القيادات على أساسها هي – في نظري -: الكفاءة، والثقة، والإخلاص.
ولكل معيار من الثلاثة شواهد يستدل بها على وجوده، حتى الإخلاص وإن كان عملا قلبيا، لكن له شواهد أيضا يعرفها ويلحظها البعض.
والذين تجتمع فيهم كل الصفات وتنطبق عليهم كافة المعايير هم لا شك قلة قليلة نادرة؛ لذا يلجأ المنوط بهم اختيار القيادات سواء بالانتخاب أو التعيين –مع افتراض التجرد والإخلاص فيهم- إلى المواءمة والمقاربة والمقارنة، لاختيار أفضل المتاح، ويطلق البعض على هذه القيادات “قيادات الضرورة”.
وهنا قد يحدث ما سألت عنه من اعتماد مبدأ الثقة في الاختيار، وتقديمه على مبدأ الكفاءة؛ فهو أمر لا يمكن إنكار حدوثه في بعض الأحيان، وهو أيضا لا يمكن النظر إليه نظرة سلبية دائما ولا إيجابية دائما؛ فالمسألة لها اعتبارات كثيرة تبعا للظروف والأشخاص والأمكنة.
وفي التنظيم قد يكون مقبولا تقديم الثقة الأقل كفاءة على الكفء غير الموثوق به، على أن يوظف هذا الثقة كفاءات الأفراد ويوجهها لما فيه خير الدعوة، لا أن يكبتها ويهملها.
ولو كان الاختيار يتم بالانتخاب – وهو الأصل وما يجب أن يكون – فلا بد أن يحترم الجميع إرادة الناخبين واختيارهم، وألا يلتفوا على النتائج ما داموا ارتضوا الاقتراع حكما، وعلى الجميع أن يجبروا قصور الأفراد ويعينوا من اختاروهم لقيادتهم. وقلما ما تحدث المشكلات في هذه الحالة، وإن حدثت فالمجال مفتوح للدعوة لجمعية عمومية مثلا كما يحدث في الجمعيات والنقابات ويحاول المعترضون إقناع الغالبية بإجراء انتخابات جديدة والاحتكام إليها، وعلى الجميع الالتزام بما تفضي إليه الشورى في جميع الحالات.
أما لو كان الاختيار يتم – لظروف ما – بالتعيين، فالأمر يعتمد في بدايته على حجم ثقة الأفراد فيمن يقومون بالتولية، وتنتقل هذه الثقة تلقائيا إلى المختارين، ومع مرور الأيام وخبرة المواقف تتأكد هذه الثقة أو تهتز.
وفي النهاية أخي أتوجه بكلمة لعلها تصل إلى آذان وعقول قيادات الحركات الإسلامية المختلفة على جميع مستويات القيادة؛ أن يعيروا الأفراد آذانا مصغية واعية، ولا يكتفوا عند حدوث المشكلات بالاستماع للقيادات الوسطى واعتماد وجهات نظرهم وبناء الأحكام عليها دون الرجوع إلى الأفراد والاستماع إليهم بأذهان خالية من الأحكام المسبقة.
وليس عيبا أبدا أن يخطئ القائد أو يُخَطَّأ، وليس خروجا عن الآداب أن يلفت الفرد نظر قائده لما يراه صوابا، والتاريخ يحفل بالأمثلة العليا في تطبيق هذه المبادئ.
نسأل الله عز وجل أن ينقي قلوبنا، ويطمئن صدورنا، ويجنبنا موارد الفتن، إنه عز وجل على ما يشاء قدير.