آفة العقل السلفي

محمد عبد الشافي القوصي

(لا فقه بغير سنَّة، لا سنَّة بغير فقه ..

وقوام الإسلام بركنيه كليهما: كتاب وسنَّة)!

الشيخ/ محمد الغزالي؛

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

(دعاة السلفية) لا يستوقفهم جلال القرآن الكريم وجماله، ولا يكترثون بنداءاته وتنبيهاته، وحِكمه وأمثاله، وأوامره ونواهيه، وتشريعاته المعجزة، وفيوضاته القدسية .. بلْ يمرون على ذلك كله مروراً خاطفاً، فلا تدبُّر، ولا تفكُّر، ولا تذكُّر، ولا تعقُّل .. فحرموا أنفسهم من هدي الذِّكر الحكيم ومراده، وجهلوا أحكامه ودلالاته ومراميه، ومقاصده العليا!

 إنهم يتجاهلون الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا يستشهدون به، ولا يعوِّلون عليه؛ لأنه يصدمهم بحقائقه الدامغة، وبراهينه الناصعة!

وعندما تردّ على أوهامهم بآية قرآنية؛ يصرخون في وجهك بصلفٍ وجهلٍ وعمى، قائلين: هذه آية منسوخة ... حتى زعموا –من إفكهم- أنَّ آيةً واحدةً نسختْ سبعين آية!!

بلْ صار الكتاب المبين الذي أُحكِمتْ آياته ثمَّ فُصِّلتْ من لدن حكيم خبير؛ صار (كتاباً منسوخاً) عند دعاة السلفية وخرافها الضالة!

 لذلك؛ لجأوا إلى (السنَّة النبوية) واعتبروها الأصل، حتى قال قائلهم: "حاجة الكتاب إلى السنَّة أشدّ من حاجة السنَّة إلى الكتاب"! وهذا موازنة خاطئة، وفهم سقيم، بلْ ومكر خبيث!

إننا نؤمن بالكتاب والسنَّة معاً، ولكنَّ الكتاب هو الأصل، والسنَّة هي الفرع.

 ليتَ القوم توقفوا عند هذا الحد؛ بلْ نقَّبوا في (السنَّة)؛ فأخذوا منها السقيم، والعليل، والضعيف، والمكسور، والمعتلّ، والمرفوض، والموضوع، والآيل للسقوط، والميئوس منه!

 لقد أغرتهم المرويات الخاطئة الكاذبة؛ التي تصادم القرآن المجيد، وتثير النعرات، وتؤجج الصراعات، وتوغِر الصدور، وتحارب العلم والعقل، وتحضّ على الجهل والتخلف!

ولا عجب، أنَّ نرى الشيخ/ الألباني- يصحِّح حديث (لحم البقر داء)! مع أنَّ المتدبِّر للقرآن الحكيم؛ يدرك أنَّ الحديث مغلوط، ولا قيمة له، مهما كان سنده.

 فقد أباحه الله -سبحانه- في موضعيْن من كتابه الكريم، وامتنَّ به على الناس ... فكيف يكون داءً؟! إنْ دلَّ ذلك على شيء، فإنما يدل على عجز القوم وقصورهم في تدبر القرآن، وفقه أحكامه .. لكنه الغرور المستحكم، والجهل المطبق الذي خيَّم على تلك العقول الراكدة!

 هذا؛ وإنْ جاء القوم برواية صحيحة؛ فإنهم يفهمونها فهماً خاطئاً، على غير مراد الهدي النبوي الشريف ... فيحدثوا بلبلةً في الفكر، واضطراباً في السلوك، وصراعاً في المجتمع، وإساءةً للرسالة الخاتمة الهادية.

 وقد لا تصحّ الرواية ذاتها بعد كل هذا اللف والدوران، والتأويل المتعسِّف!

 لقد تركوا كنوز السنَّة التي تحذِّر من خطورة الشقاق والتشرزم والفُرقة والتحزُّب والتمذهب والطائفية والقبلية ودعاوى الجاهلية.

وتجاهلوا كنوز السنَّة التي تحضُّ على الإخلاص، والحب، والأخوة، والوحدة والتضامن والتعاون، وإقامة الدِّين، وإعمال العقل، وإعمار الكون، والحثُّ على مكارم الأخلاق .... والتي بلغتْ آلاف الأحاديث النبوية الشريفة!

 ليتَ القوم توقفوا عند هذا الحد؛ بلْ تركوا متن الحديث الشريف ذاته، وانشغلوا بالأسانيد والعنعنات، والحواشي، وأخبار الرواة، وأضاعوا أعمارهم في ما يسمَّى ب"عِلم الرجال"!

ليتَ القوم توقفوا عند هذا الحد؛ بلْ تركوا (السنَّة) جملةً وتفصيلاً، ونبذوها وراء ظهورهم، واكتفوا بالأخبار التاريخية، والحكايات السلفية المريضة، والقصص العبيطة التي تحوطها الشبهات، وأطالوا الوقوف عندها، وتجمدوا أمامها، وأجهدوا أنفسهم في الحفر والبناء والنحت والزخرفة والتلوين، والحذف والإضافة، والتخريج والتلفيق، والشرح والتفسير والتأويل .. حتى أقاموا مملكةً للقبح، وأولموا بالتمر الوخواخ!

* * *

نعم؛ لقد تجنَّى "سفهاء السلفية" على السنَّة المطهَّرة جنايةً عظمى، بسبب فهمهم السقيم، وعقولهم المختلَّة، وقلوبهم الخربة، حتى زعموا أنَّ وجه المرأة عورة، ويدها عورة، وحذاءها عورة، وصوتها عورة، واسمها عورة ... وتاريخ ميلادها عورة!

 كما زعم فريق منهم أنها لمْ تُخلَق إلاَّ للفراش، وتربية المواشي، ولا تخرج من بيتها سوى مرتين: مرة إلى بيت زوجها، وأخرى إلى القبر!! وغير ذلك من صور الجهل الفاضح، ووسائل الخداع، وأساليب التزوير والتلفيق، والقمع والاستعباد التي مُورِستْ ضد المرأة التي كرمها الإسلام، ورفع شأنها، وأعلى قدرها بما تقاصرتْ دونه سائر القوانين والدساتير والأنظمة المتحضِّرة!

 من ذلك؛ أنَّهم يروون حديث (لنْ يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم إمرأة). وعن طريقه، أفتوا بحرمة تولِّي المرأة أية مناصب سيادية أوْ عليا في الدولة!

 ولم يفهموا قصة هذا الحديث كما فهمها أُولو الألباب ... إذْ يقول العلماء الرسَّخ: عندما كان الصحابة الكرام يحفرون الخندق، وقد تكالبتْ عليهم قريش وحلفاؤها من القبائل، وأعوانهم اليهود، إذْ زاغت الأبصار، وبلغتْ القلوب الحناجر .. في تلك الأثناء؛ جاء خبر موت كسرى، وأن (الفرس) ولَّوا ابنته ملكةً عليهم، فقال الصادق الأمين: (لنْ يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم إمرأة) فكانت نبوءةً محققة بقرب زوال مملكة الفرس .. وقد حدث.

 هذا؛ ولمْ يأتِ نص صريح يمنع المرأة من تولِّي أية مناصب عليا، بلْ إنَّ القرآن الكريم أثنى على (ملكة سبأ) ومدح ذكاءها، ورجاحة عقلها، الذي قادها للهداية وقومها.

* * *

 ومن ذلك أيضاً؛ أنهم يروون حديث (نحن أُمَّة أمية) ففهموا منه أنَّ (الأمية) صفة أمتنا إلى آخر الدهر .. لذلك؛ رفضوا الحساب الفلكي، وأنكروا القواعد الرياضية التي قام عليها إرسال المركبات الفضائية التي هبطت على القمر، ووصلت الكوكب الأحمر ..!

 وإذا ناقشتَ أحدهم؛ نظر إليك بتبجح شديد، وقال لك: أتنكِر السنَّة؟!

 إنَّ الأغبياء يريدون أنْ نظل متسولِّين للعلوم والمعارف من أممٍ أخرى!

 لقد نسي المغفَّلون من الأعراب أنَّ هذا الحديث الشريف؛ ليس تشريعاً يتعبد به الناس، بلْ وصفاً لواقعٍ عربيّ متخلف، نقضه القرآن من القواعد، عندما قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

أليس عجباً أنْ تكلَّف أُمةٌ ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه؟!

أهذه هي إستجابتها لقول الله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).

* * *

وفي كتابنا (أزمة العقل السلفي) أوردنا كثيراً من الروايات الخاطئة، والمرويات التي فهمها "أوغاد السلفية" على غير وجهها، فأحدثوا صراعات مذهبية، ومشاحنات اجتماعية، ومعارك طاحنة!