مرايا السجن
مرايا السجن
– 4 -
مرثية العم أبو سعيد
ربحان رمضان
سأقص عليكم شيئا ً عن أيام الاعتقال الرهيبة التي عشتها في أحد أقبية الاعتقالات إثر مظاهرة نوروز عام 1986 لمدة سنتين وأعتقد أنه ولحد الآن يعيشها المعتقلون السياسيون في بلادنا الحبيبة .. كما هي دون تعديل ..
في فوضى فترة تقديم الطعام حيث السجناء يحضرون صحونهم وأوانيهم من تحت وسائدهم يصطفون في طابور ضمن الغرفة التي اتسعت لأكثر من مائة خص في هذا الوقت ... فتح الباب الحديدي وأدخل رجل كهل.. طويل ونحيف .. توقف برهة عند الباب وقد بدت على وجهه علائم الخوف والتساؤل والغرابة ظاهرة في عينيه التعبتان ..
اجتاز المساجين بصعوبة حتى وصل لعندنا ( أبو النور وابو هيثم وأنا ) جلس بجانبنا وهو لا يزال يتمتم ، ويشتم ، ويكفر بالله وأنبياءه ..
- مالك ياعم ، نحن سألفناه .
- * أجابنا والأسى باد عليه : يلعن دينن على دين أكلن ،
عم يقولوا سبيت الرئيس ، وأنا ماسبيته !!- تفضل ياعم كل معنا ، وبعدها سنتحدث .
- مابدي آكل ، يلعن دينن على دين أكلن .. قال أنا سبيت الرئيس بالسعودية !!
- بالسعودية ؟!!
- أنا وعائد من السعودية بسيارتي الشاحنة أوقفني (ولد ) من المخابرات ، قال انزل يا أخو الش .. إخوان مسلمين ، ما ؟
- أجبته : سامحك الله ياابني .
- أمسك بزمام ياقتي ، وأدخلني إلى فرعهم في الحدود .. جرّني .. جرّ
-- ضربوني وقالوا أني سبيت الرئيس بالسعودية ، وفي مدينة الطائف بالذات ، ولك أنا مارحت على الطائف بالأساس ..
- بقيت ضيفا ً " عزيزا ً!!" في فرعهم خمسة عشر يوما ً ، أكلت خلالها نصيبي من الضرب والتعذيب والإهانات ..
- أنا معي سكري ، انظروا إلى هذا الدم كيف يسيل من قدمي ، لك الله لا يوفقهم ، قال سبيت الرئيس !!
- اسم الكريم ياعم ؟: أبو سعيد .
أبو سعيد .الداعي محمد رجب زينو ، وبينادولي
- بدك تطول بالك ياعم ، وواضح أنك كفرت
- !! عم بكفر عندكن بس
بقي العم أبو سعيد معنا حوالي عشرين يوما ً ، رقد بجانبي .. كان يئن من آلامه .. يبكي أحيانا ً ، لم يكن يسنطيع رؤية بيوض القمل فكنت أفت له ثيلبه بحثا ً عنها بعد كل فطور ..
قبل انتقاله من غرفتنا بيومين رجع من غرفة التعذيب منهكا ً .
- ماذا جرى معك باأبو سعيد ؟
- قال : اعترفت .
- لماذا وأنت لم تسبّ ؟
- لأنهم عذبوني كثيراً ، وبالأخير خيروني : إما أنك سبيت ، أو أنك من الاخوان المسلمين ..
- اخترت الأولى .
- أعانك الله ياعم ، والله يفرجها ع الجميع .
- بعد يومين خرج أبو سعيد ، فرحت لخروجه ، قبلناه ، طلبت منه أن يذهب لعند والدتي " المسنة التي بقيت تنتظرني حتى أفرج عني وماتت" ليخبرها بأني مازلت حيا ً أعيش ، والآخرين طلبوا منه كذلك .. أن يذهب لعند أهاليهم للإطمئنان ..
- ودعناه حتى الباب ..
بعد سنة ، فتح الباب الحديدي مرة أخرى ، ودخل العم أبو سعيد ، اجتزت الناس لأستقبله ..
شو عم أبو سعيد ؟ سألته .
قال : كنت في المزة ، قضيت عام كامل في السجن هناك . سيخرجوني من هنا إذا ً إن شــاء الله .
لم أستطيع أن أريحه من عناء السجن لأنه لم تكن قد بقيت محلات ، فقد أصبح عدد نزلاء الغرفة 180 شخصا ً ، وبذلك بقي العم أبو سعيد جاثما ً على بقعة في الركن منزويا ً على نفسه .
أسـّر لي قائلا ً : " والله ماسبيته " !!
في الصباح أفطرنا خبزا ً وحبتا الزيتون اللتان كانت توزعا علينا كل صباح ، وبعد أربع ساعات طلبه السجان حيث أخذه ولم يعد .
لما أطلق سراحي فيما بعد ذهبت إلى بيته في القابون وزرته .. لم يكن قد نسي اسمي .. فمزح معي قائلا ً أهلا بأبو جنكاور ..
قبل زيارتي الأخيرة إلى الوطن سألت عليه فقيل لي أنه مات .
مرايا السجن
( 5 )
عصبة الاختلاس
جمعتني بالسيد جريس ألتون * المجامع ، والمستر الذي له ولبقية أفراد عصبته امتياز خاص من بين كل نزلء الفرع – المداني حتى تثبت برائتهم – بعكس ماقال الرئيس الأسد : " المتهم برئ حتى يدان " .
و المقبوض عليهم إمّـا لتقريير ، أو اتباه ، أو لصلة رحم مع متهم مطارد أو سياسي مهدد بالإعتقال توارى داخل أو خارج البلاد .
بقدوم عصبة الاختلاس هذه تغير النظام اليومي الذي اعتدنا عليه فيما سبق ، حيث بدأت الصحف الناطقة بلسان الحزب الحاكم تتوارد غلينا ، بدأنا نستطيع التحدث ، وأصبح السجان بدخوله علينا يؤدي التحية للسيد المذكور الذي بدت عليه إمارات الغنى والرفاه بعد حياة مضنية قضاها برتبة عريف متطوع في الجيش .
إن البلاك الذي كان يزين معصمه ، وأزرار القميص ، والخواتم الذهبية الجميلة رأيناها في اليومين الأولين فقط لدخوله غرفتنا المضيافة ، وذلك قبل إهدائها " للبعض " عن طيب خاطر أو بالإكراه مما َطمـّع البعض من التزلف إليه ، وأصبحوا ينادونه يوميا ً لينفث سيجارة تفرج همه عنـّا نحن الثرثارين .
وكثيرا ً ماكانوا يدعونه لأخذ حمام ساخن يعود بعدها لينشف جسمه المترهل بمناف ملونة تنبعث منها رائحة الصابون الزكية ، على حين أن مناشفنا كانت قمصاننا الداخلية ذاتها ، ولشـدّ ماحلمنا بمنشفة ملونة وجميلة ، كما حلمنا بالفراش الوثير ، وفنجان القهوة الصباحي .
جريمتنا هي الفكر الذي لالون له ولا رائحة مما حدى بسجانينا أن يعتقلوا كل من جعل الفكر شكلا ّ على الورق ، أو رائحة في الهواء .
حاولوا أن يكمّـوا أفواهنا ، ويسـدّوا أنوفنا ، ويحـلّوا عقدهم النفسية الناتجة عن أوضاعهم الاجتماعية السيئة من خلال ممارسة أساليب مبتكرة من التعذيب لمن في غرفتنا ( وغرف لايعلم عددها إلا الله) التي لا يُعرف فيها وقتا ً او تاريخ .
السيد ألتون يملك حصة في بواخر تمخر عبر البحار ، و أسهم (حصة) في معمل للحديد في جزيرة قبرص .
اتفق مع ضابط برتبة عميد (بيرم) على استيراد الحديد لحساب مؤسسة الاسكان العسكري ، غير أن إضافة بضعة أصفار على كل فاتورة أضافت أرباحا ً طائلة لكل الشركاء والمتعاونين معهم ، ابتداء من حرس المستودعات وإنتهاء ً بمدراء الفروع ، سجلت خسارة فادحة للوطن لم يحدث مثلها منذ أن أعلنت حالة الطوارئ ..
لم نكن نستطيع التعرف على العميد لأنه كان في زنزانة خارج غرفتنا ، أما أخوه (صلاح) فقد صرح ولأكثر من مرّة بأنه يخرج إلى الحديقة يأخذ حماما ً شمسيا ً ، وأنهما يتناولا الطعام على مائدة السيد العميد مدير جميع سجاني الفرع .
أما زملائهما فقد أسرّوا و (على ذمة الراوي) بأنهما والسيد ألتون يزوروا عوائلهم في بيوتهم المتنائرة في أحياء دمشق وباستمرار .
زملائهم كانوا يحوّلوا ماتبـّقى من الفواتير إلى مستودعات المؤسسة ليصار إلى بيعها في السوق المحلية لحسابهم الخاص ، ويقبضوا عمولتهم من البائع والمشتري ، والخاسر طبعا ً هو العب الذي أعيته كثرة الضرائب وارتفاع الأسعار المستمر .
****************
العم محمد ديب عليان ( ديبو محمد ديب عليـّان من مواليد حارم /1914 / ) ٌأعتقل كرهينة عن ابنه الموجود منذ سنوات خارج البلاد ) عاش ولفترة طويلة بجانبي في زاوية الغرفة اليمنى المقابلة للباب ، كهل عمره اثنان وسبعون عام ، رجل بكل معنى الكلمة ، صبور أكثر من النبي أيـوب .
كان واحدا ً من الثوار السوريين الذين قارعوا الاستعمار الفرنسي ، ومن المحاربين القدامى الذين ٌأفتتح بأسمائهم رابطة قرب حديقة السبكي بدمشق وذلك في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد اسمها رابطة المحاربين القدماء .
طويل القامة ، أهدج الصوت ، ٌحفرت الأخاديد في وجهه ، وأحنت له ظهره ، يمتاز بذاكرة لاتخونه أبدا ً .
كان يحفظ الكثير من آيات القرآن ، والشعر ، حتى أنه كان يشاركنا مباريات العر التي كنا نمضي بها الوقت الطويل ، ويقص علينا مايعرفه من الحكايا والأمثال الشعبية ، حفظت من محفوظاته بيتا ً مشهورا ً لأبي الطيب المتنبي حيث يقول :
ع عزيزا ً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
بعد تسعة أشهر ونيف من اعتقاله سقط على رض الحمام لكثرة مااستعجله السـجّـان على الخروج منه ، أصبح يعرج في مشيته عند ذهابه وإيابه إلى المرحاض ، ويئن من الألم جرّاء إصابته بكسـر في الحوض ، بقي دون علاج ، ولم يكن له مكان يتمدد فيه .
***************
كانت عصبة الإختلاس متأكدة من إنصافها ، ومن النزاهة والعدالة التي ستنفذ بحق أفرادها .
وكنّـا نحلم بمحكمة علنية يشهد فيها الناس والتاريخ على برائتنا من جريمة لم نفعلها .
كنا نحلم باليوم الذي سيحاسب فيه المجرمون الحقيقيون .
حلمنا ولا زلنا بالديمقراطية وبمســـاواة .. وعدالة .. وغد ٌ مشــرق .. ومستقبل سعيد .. ومفاهيم أخرى كثيرة ..
ربما .. ربما يتحول الحلم إلى حقيقة ..
مرايا السجن (6)
( أبو شوقي)
مصطفى شوقي الجندي
قصير القامة ، أبيض اللون ، أشيب الشعر .. كان عمره (وقتها) سبع وخمسون عام . لمّـا شاهدته شاهدته لأول مرة في بداية دولي السجن في معتقل لفرع مخابرات المنطقة بدمشق ...
لم أجد مكانا ً أجلس فيه بين نزلاء القاووش الذين كان عددهم تسعين شخصا ً في بادئ الأمر ...
تأخر الوقت وأنا بدون مكان أنام فيه .. دعاني أحدهم وكان من سكان حي مجاور لحيينا ( حي الصالحية ) قال لي : " هذا المكان لرجل خرج منذ الصباح ولم يعد .. أعتقد أنهم أطلقوا سراحه ، سننتظر بعض الوقت وبالتالي يمكنك أن تنام فيه .
تنفست الصعداء لأني وجدت مكانا ً للنوم ، وراح صاحبي يحدثني بهمس عن سبب زجه في السجن ، لقد أسـّر لأحد زبائنه في دكانه أن كل شئ أصبح غال هذه الأيام ، مما جعل (المخابرات) أن تعتبر كلامه هجوما ً على السلطة فاعتقلوه ، ثم حكموه عرة أيام تسمى في قاموسهم : " تعزيرية " .. !!!
تبادلنا الحديث ن والثرثرة حتى الواحدة ليلا ً (تقريبا ً) ، وإذا بالباب الحديدي يفتح ، ويدخل أربعة سجانة ليلقوا ببطانية فيها شئ مابين كتل المعتقلين الذين غلب على معظمهم النوم .. وخرجوا .
مالبث أن صدرت أنات شخص وصوت ضعيف يستغيث طلبا ً للمساعدة .. استيقظ الشخص الذي رميت عليه البطانية بمن فيها ليساعد صاحب الصوت ، يخرجه ، ويحمله إلى مكانه الذي كدت أن أعتقد بأني أستطيع النوم فيه تلك الليلة ..
لعرة أيام على التوالي ساعدنا الرجل على امكانية الجلوس ، والنهوض ، والمشي .. حتى رجع له شئ من عافيته وبدأ يستأنس بنا ويحكي لنا عن نفسـه ..
ُكني بأبو شوقي ، وكان يملك أرضا ص جميلة ، وبيتٌ زرع حوله أنواعا ً من الأشجار المثمرة ، ، وبقول وبعض أنواع من الورد قبل هجرته التي دامت طويلا ً.
أكد لنا بأنه ترك زوجته وأولاده فيها وهرب متوجها ً إلى عمان - عاصمة الأردن – إثر أحداث الاخوان المسلمين في ادلب وضواحيها لخوفه من أن (يتهم) بالعلاقة مع هذه المجموعات ..
عمل في عمان بالتجارة ، وبعد سبع سنوات فكر في الوصول إلى الغرب الأوربي ليلجأ هناك كما يفعل الكثير من الناس .. حاول ، ولما وصل بوخارست أخفق في الوصول إلى الأبعد ..
تداخلت أفكاره ، وتوصل إلى أمر عزم عليه .. طرق باب السفارة السورية ، واستفسر من السفير عمـّا إذا كان وضعه في خطر لو عاد إلى الوطن ، فأكد له السفير السوري هناك بأن وضعه على مايرام ، ولا يوجد مايستوجب الخوف منه ، بل أنه يتعهد بأن لايمسه ( مخلوق ) وأنه سيساعده بكل امكانياته ..
*************
عندما عاد استقبلته المخابرات الجوية في المطار وحولوه إلى قبو لأحد فروعهم الواقع _ مقابل كلية الفنون الجميلة _ فطالت فترة استضافته لديهم أحد عشـر شهرا ً ، ثم تم تحويله إلى الفرع الذي نحن فيه وهو عندهم منذ سنة .. !!
تعرض للتعذيب الشديد ، وكانوا يطلبونه للتحقيق بين الفينة والفينة .. وكان يتعرض للسخرية من جانب السجانين بما فيهم الممرض الذي كان يتعلم التهديف والنينة عندما كان يحقنه بالإبر(الحقن) التي قد يصفها الطبيب الخاص بالسجن .
أضرب ذات مرّة عن الطعام فتضامنـّا معه ( غالبيتنا ) غير أن مسؤولي السجن لم يأبهوا للحدث وعاقبوه بالضرب ، هددوه إن لم يرجع عن إضرابه فسيموت مجانا ً .
بقي أبو وقي في مهجعنع أو (قاووشنا) حوالي سنتين ثم وفي يوم قائظ نودي عليه .. وقف الجميع يودعونه ، ويرجوه أن لاينساهم ، أن يمرّ على بيت كل واحد منـّا يخبر أهلنا بأنـّا مازلنا في عداد الأحياء تحت الأرض .. يذكر لأهلنا بأنه صادفنا .. شاهدنا في سجن ما .. أو فرع ما ..
خرج أبو شوقي وتحلقت كل مجموعة على حدى لتذكر محاسنه ، ومساوئه ، وتتندر ببعض ماتعرّض إليه المسكين من عذاب .
البعض حسدوه ، والكل دعوا الله أن ُيفطن أبو وقي به ليذهب إلى بيت أهله يطمئنهم بأن ابنهم موجود .
***********
نودي على زميلي أحمد للتحقيق معه .. ولمـّا عاد كانت رجلاه تورمتا وظهرت على وجهه كدمة إثر ضربة من الجلاد ..
بذهول قال لي : تصور أخذوني مطمشا ً إلى غرفىة التحقيق ، ولمّـا لم يكن المحقق متواجدا ً في غرفته توجب علي الانتظار جاثيا ً على الأرض .. كنت أرتجف من دة البرد سـيما وأني ذهبت وأنا بالشورت (كما أراد السجان) حضناني إثنان .. جرّاني إلى غرفة التعذيب .. بدأ أحدهم بضربي بسوطٍ مضفور (رباعي) بقوة متناهية ، وقبيل أن يغمى علي ّ سمعت زميله يقول له : " .. ولك انتْ مابتعرف تضرب ، هات الكرباج لخليه يوف نجوم الضهر ." ..
يتابع .. : لم أستطع بسرعة تمييز صوته لأنهم كلهم كانوا يصيحوا صياحا ً .. لكن وبعد أن بدأ يعد ّ عرفته .. إنه الذي كان الذي يعدّ علينا عندما كنـّا نخرج إلى المراحيض .. إنه أبو علي بعينه ، وله في ذاكرتي صورة لغبي ساعده الحظ في إيجاد وظيفة كلب حراسة في أقبية المعتقلات المنتشرة في كل الوطن ..
استمر أبو علي في ضربي حتى طارت الطماة من على عيني .. رأيته مبللا ً بالعرق من شدة نشاطه .. !!
دخيلك هل سيترّفع إلى رتبة ضابط ، أم سيأخذ أجرا ً أكثر عندما يضرب الناس بشدة أكثر ؟؟ أم أنها هواية ســاديّ يتلذذ بعذاب الناس ؟؟ !!
***************
فيما بعد قرأت حديثا ً للقاص العراقي نجم والي والذي يقول فيه : " .. مرّة وأنا أصعد الباص الرقم (4) في شارع الرشيد في بغداد ، رأيت جلادي الذي كان يعذبني في سجن الاستخبارات في وزارة الدفاع ، يقوم بلطف ليعطي مكانه لامرأة عجوز مخاطبا ً إياها تفضلي ياأمـي ، فنزلت من الباص غاضبا ً .
قد تقول لي هذا مايمكن أن يصوره الأدب ، ولكن رغم ذلك لم أستطع كتابة هذا المشهد ، أو مشـهد تعذيبي .. " .
**************
صديق آخر .. في سـجن آخر .. بنى نوع من الإلفة مع سـجانه .. صارا يتمازحان ، يسأله السجان عن صحته بعض الأحيان ، بل كان يأتيه بكأس من الاي أو فنجان من القهوة الصباحية ..
طلبه المحقق ذات يوم وأمر سـجانه ذاته بجلده ، فضربه ضربا ً مبرحا ً للغاية ، حتى أنه قال لي (فيما بعد) : َطلع لي روحي أخ ..
ولمّـا انتهى التحقيق وحفلة التعذيب خرجا فقال لجلاده وهما في طريقهما إلى الزنزانة : " هيك بتضربني ؟ كسرت عظامـي ياصاحبي .. !!
فأجابه : يابا كل ي لحال .. الــغل ـغل ، والصداقة صداقة .
****************
على فكرة ، أبو علي الذي عذب زميلي أحمد كان يفتح نافذة الباب الصغيرة في كل مناوبة ويسأل : " مين عندو شـحاطة ولا ؟؟ " فيعطيه الناس شحاطاتهم – ربما ليكف ّ البلاء عنهم ، وخاصة المعتقلين الجدد الذين لا يعرفوا تاريخ (أبو علي) مع الشـحاطات ، فهو يأخذها على أنها إعارة ثم ينسوا أنهم أعطوه شئ اسمه (شحاطة) حتى أن البعض كان يعتقد بأنه يهدي تلك الشحاطات لجيرانه ، وربما يبيعها في سوق البالة !!
والشحاطات التي كانت (تغيب) جميلة ، وغالبا ً ماتكون تفصيل (شغل دير الزور) وموصى عليها ... وعندما لا يعطوه (شحاطة) فإنه كان يقتحم القوو وهو يزعق ويتطاول على الناس ن ويتفوه أحط الكلام وأرخص المنطق ثم يأمر الناس بقلب فراهم وأمتعتهم بحثا ً عن حاطة قد تكون متخفية هنا أو هناك .. في نفس الوقت كان هناك عريف متطوع يعمل كصيدلاني واسمه (عماد) مهمته توزيع الدواء على المرضى ، واتقاء لره ينادوه بالسيد عماد ..
عندما يدخل ليؤدي الدواء للمرضى فإنه يبدأ بتعذيبنا وتوبيخنا .. الجميع يجب عليهم الجلوس باحترام – رغم أننا كنّـا نسميه فيما بيننا بالفلعوص – وأن نسكت ، ، ونضحك عندما يكشـر ضاحكا ً ، ونسكت عندما يقطب ، كان من لؤمه ينيشن – كما يفعل مع أبو شوقي - حتى يولول المريض .
ذات مرّة اشتكاه الدكتور عماد محاسنة الذي كان معتقلا ً معنا لمسؤوله الدكتور ، وفي المساء جاءنا السيد أبو علي يعاتبنا ويوجهنا بمحاضرة ارشادية لا شأن لها بالأخلاق ، اختتمها بقوله : " .. شوفوا ولو ، إذا اجى واحد حمار وطلب منكم شي لا ترفضوا ، بس قولوا له : أمرك ، وتعالوا خبروني ، وأنا باخد حقكم منو .
شــو بتحكوا ؟
ردد الجميع : أمرك ، أمرك أبو علي .. أمرك أبو علي .
ابتســـم بغباء وخرج .
* ورد اسمه في القائمة السوداء بعد سقوط النظام الديكتاتوري المقبور في بغداد .