وطني وثني وأنا من العابدين

قصة حقيقية

وطني وثني وأنا من العابدين

قصة من واقع الحقيقة لا من نسج الخيال

أ. تحسين يحيى حسن أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

نعم كفرا بأطفال العالم إن لم يعترف العالم بأطفالي ، ليس هذا فقط بل كفرا بكل العالم وما حوى ، وبكل المثل والقيم وما بنت ، وبكل قومية وجنسية وما جمعت ، وبكل فكر وما سرى وذرى في هذا الكوكب البشري الصغير بعظمته ، والضئيل بجبروته ،  صغير أمام الارادة التي لا يسعها عالم ولا عوالم ، ولا كون ولا اكوان ، بل يسعها واحدة من اثنتين ، إما النصر وإما الشهادة .

 كفرا بكل شيء من السِّوى والأغيار ، كفرا بكل مرادفات ومصطلحات العصر، إن لم ينتزع شعبي من بين أنياب أمم الأرض الوحشية وطنه كاملا  ثم وليكن الطوفان .... بعدها .

 ولتكن الأرض المحروقة .... ولتكن حرب الإبادة ... ولتكن شلالات من الدماء .... وليكن ما يكن .... إن لم يقدس العالم دماء محمد الدرة وإيمان حجو وغيرها من ألوف أطفالك شعبي .

 ***   ***   ***  

خائن من لا وطن له .... منبوذ من لا وطن له .... محروم من لا وطن له .... مطرود من لا وطن له .... مطارد من لا وطن له ....

ما ذنبي أنا وقد شرفني ربي بفلسطينيتي على أرض الرباط ؟.

ما ذنبي أنا والعالم يتقذذ هويتي ؟.

ما ذنبي أنا والعالم يتفرج على ذبحي ؟.

ما ذنبي أنا والعالم ينافقني في ظهري ؟.

ما ذنبي أنا والعالم يطعنني في خاسرتي اليسرى ؟.

ما ذنبي أنا أعيش على دنياي في  قبري حياً ، بينما يعيش غيري في قصور وطنه منعما ؟.

 ***   ***   ***

هكذا تشربت روحه حب الوطن ، ورضعه مع ثدي امه ، لأنها بلا شك فلسطينية الأبوين .

وهكذا تجذر انتماؤه إلى الوطن وامتدت جذوره حتى شرايين قلبه ، كان يتكلم كثيرا عن اليهود في فلسطين – عن دولة المسخ إسرائيل – عن أرض فلسطين – عن اللاجئين – عن المذابح – عن المؤامرات – عن القرارات – عن الخطط – عن المبادرات – عن ......... المئات .

كان شبلا في الرابعة عشر من عمره ، عندما استشهد صديقه الذي يكبره خمسة عشر عاما والذي رباه التربية الثورية اللائقة في المرحلة الراهنة في ارتهان اللحظة ، وساهم في صقل شخصيته وبناء أفكاره وسيكولوجته .

 كان الشبل سباقا على ميعاد اللحظة ؛ ليفجر بركان صدره ، ولكن القدر كان أكثر سبقا منه ، فقد مرض رفيق دربه الآخر مرض العضال حتى مات في مرضه ، ولكنه لم ييأس رغم نعومة أظفاره .

 دائما ما كان يتطلع ويبحث بشغف عن لبن من ثدي ناقة رؤوف حنون ، ولكن هذه المرة ليس ثدي الطفولة ، بل هو ثدي القائد ليدر عليه عصارة خبراته وتجاربه ومهاراته وإبداعاته ، في فن وحس العمل الثوري المتمترس بوعي نضاله من أجل الهوية فلسطين .

 تغذى  بمجموعة من الروافد المتفرعة من النهر العظيم .

تغذى من أذن رأسه الواعية كما  تغذى من سمع أذن قلبه ، وتغذى من عين رأسه الناطقة ، وتغذى من خلجات ونبضات قلوب الثكالى والجرحى والأيتام والمطاردين والمحرومين .

 تغذى من عقله الذي ما ملّ ولا كلّ لحظة على مدار القراءة والتحليل والمقارنة .

تغذى من تجارب المناضلين والمجاهدين حتى أصبح رجلا ليس كمثله الرجال .

وصدق من قال :

 وكم رجل يُعدُّ بألف             رجلٍ وكم رجل يمر بلا عِداد

 روافد غذاها ذلك النهر الفياض عطاؤه ، الفيَّاحة رائحته ، نهر عملاق هو نبع الأنهار بل هو مجمع البحور ، هو أستاذه الأول منذ ان كان طفلا في العاشرة من عمره ، في مدرسة الكرمل الأساسية للبنين ، المجاورة لدائرة الترخيص حاليا في منطقة الرمال بغزة سنة ( 1965) إنه الشيخ المجاهد الشهيد أحمد ياسين رحمه الله .

  لقد استطاع بحنكة وبمهارة المربي المبدع ، أن يزرع في القلوب النواة الأولى في عشق القضية التي تعني حب الله ورسوله ، وحب الوطن السليب ، وحب الأمة المعذبة في بقاع الأرض ، بل حب الناس جميعا ، حب الجهاد ، حب التضحية في كل غال ونفيس ، حب العطاء ولو بكلمة هامسة دافئة ، إنه شيخ الأمة شيخ فلسطين أحمد ياسين .

كان الغلام ينتظر حصة التربية الاسلامية بإحساس يختلف تماما عن سابقه ، وكان الشيخ رحمه الله يتلو القرآن على تلاميذه بصوت ساحرعذب  جذاب ، أسََرَ لب الغلام كما أسَرَ عقله بل كينونته ووجدانه من قبل ، إلا دموع عينيه الخضراوتين.

  ما كان يعلم ان هذه الدموع سوف تنبت نباتا حسنا، وأن هذا النبات سوف يؤتي أُكله بإذن ربه ، وكيف لا وهي البذور الطيبة التي هيأ لها الشيخ ياسين تربتها ومناخها ، ثم وضع تقاويها ببراعة وامتياز، في تربة قلب طفل لم يكمل الثانية عشر من عمره .

 إنها الروافد التي تنبع من نهرك يا شيخ ياسين .

 لقد أنبتت الدموع سنابل خضراء في أرض النقب ، وأنبتت أشجار الزيتون في مدينة المجدل ، وأنبتت أشجار النخيل في مدينة الخضيرة والعفولة من مدن فلسطين .

إنها الروافد التي تنبع من نهرك يا شيخ ياسين ، وقد أصبح شبل الأمس أسد اليوم يخط نسماتك العابقة بشذى عطرك ، وينظر إلى طيفك من حوله بإشراقة أنوارك البهية ، تصافحه ..... تحدثنه ..... تناديه ..... تعلمه ..... تذكره ..... وانت في جوار ربك .

 كان الأسد يسطر السطور في ليلة اقترب فيها أذان الفجر .

 يتذكر الصورة الفوتوغرافية بصحبتك في حديقة مدرسة الكرمل أيضا وقد عاد إليها مدرسا .

* يتذكر عندما كنت تستطيع الحركة والمشي عن ضعف ظاهر، حيث أجلسك بصحبته فوق دراجته الهوائية من بيته إلى مسجد العباس الذي استشهد إمامه الرفاتي على أيدي الحرس العباسي قبل أسبوعين .

*  يتذكر يوم أن تناول بصحبتك ولعشرات المرات طعام الغداء في بيتك القديم في معسكر الشاطيء الشمالي بالقرب من الجمعية الاسلامية .

*يتذكر بعيدا منذ نعومة اظفار طفولته يوم أن صعدتم الحافلة معا وبرفقة التلاميذ في رحلة إلى شاطيء بحر غزة .

* يتذكر حنانك وكرمك على سائلة تجلس على قارعة الطريق بجوار المدرسة المذكورة وقد أرسلت معه قرشا مصريا سنة ( 1965 )  صدقة لها ، لتعلمه تموذجا عمليا حيا في حب الفقراء والحنو على المساكين .

*يتذكر حبك ورأفتك عندما قصد بيتك الجديد بالفرب من المجمع الاسلامي طالبا منك إعفاءه من الرسوم الجامعية فلم تتوان لحظة في خدمته حتى ولا في خدمة غيره .

* يتذكر كيف كان أولياء الأمور يأتو إليك على مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم الاسلامية الخاصة في حي التفاح ، والتي كنت تشرف عليها بنفسك من فوق كرسيك المتحرك ، وعلى الرغم من سوء صحتك ، يطلبون منك إعفاءهم من الرسوم المدرسية لقلة ما في اليد ، وكنت تعطي بسخاء المنقلب إلى ربه .

* يتذكر يوم أن دَرَّس (الأسد) ابنك محمد في مدرسة الامام الشافعي الحكومية القريبة من سوق فراس في الصف الرابع الأساسي سنة وقد قال لك في بيتك : وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان .

 ***   ***   ***

 صديق للأسد يبحث عنه في عرينه حتى اهتدى إليه ، عرض عليه الانخراط في صفوف العمل الفدائي ، وكم كانت فرحته غامرة لا يكاد يسعها قلبه الكبير،  فلطالما تمنى ان يحظى بشرف هذه اللحظة ........ وبدأ العمل ........

بدأ قطار النضال يسير بعرباته ، كان يتوقف عند محطات ربما كان لا بد من وقوفها مكرها كان أم طائعا .

 سافر المناضل إلى سوريا ؛ ليلتقي بقيادته العليا هناك مدفوعا بعبادته الصافية البريئة والتي لم تشوبها شائبة قط رغم كثرة محطات القطار ، يشكو تقصير وتسويف قيادة غزة .

ظنا منه أن ينهل من معين كان دائما يتمناه ، فالطريق إلى جهنم ميلط بالنوايا الحسنة  .

وهناك اجتمع بقيادته التي أخضعته لدورة تدريب عسكرية مدتها ثلاثة أيام وثلث يوم ، في موقع أيلول العسكري الجبلي ، ليتدرب على ستة عشر نوعا من الأسلحة والعبوات الكيماوية اليدوية !!! والتي ما إن وصل غزة حتى أبت جميعها أن تمكث في ذهنه لحظة واحدة !!!.

 وعى أثر دورة المغاوير تلك ، كلفته قيادته الرشيدة ومن دمشق أن يقطع حقول الأشواك وحيدا زاحفا على بطنه حافي القدمين عاريا إلا من سترعورته ...... حمّلته ما لا يطيق !!! ؟ .

ألقاه في اليم مكبلا وقال له :               إياك إياك أن تبتل بالماء

 كان المشرف المباشر عليه رجل يُكَنَّى بأبي أحمد من غزة وقد تبين بعد قدوم سلطة أوسلوإالى غزة انه كان مندسا وبتخطيط ذكي بامر من حركة فتح واستطاع بدهائه أن يجسد في اختراقه هذا ثقة لا تعلوها ثقة .

 غادر الأسد إلى غزة وفي تلك الفترة اتصل أبو أحمد برجل اسمه محمود تبين فيما بعد انه شقيقه مُسَلِّما له تقريرا  يتعلق بالأسد ، والذي قام هو بدوره بالاتصال بالأسد ؛ بذريعة التنسيق والعمل معا .

 وفجاة رأى الأسد بصحبة محمود شابا لم يره من قبل اسمه توفيق ، ولم يألفه من أول نظرة ، وما ان وقع بصر الأسد عليه حتى ارتعد الأسد واضطرب ، وانقبض وانكمش بتأثير قوة غريبة ، لم يتمكن الأسد من كشف خيوطها وتحليل رموزها وإشاراتها في حينه .

 أمر محمود الأسد بالسفر إلى عمان ؛ ليلتقي هناك برجل كنيته أبو رجب ، من خلال شيفرة متعارف عليها بينهما ،  في معسكر الوحدات ، وكان يمتلك متجرا وسط السوق لبيع الأدوات المنزلية...... وتم اللقاء .......

 ذهب الأسد و بصحبة أبي رجب إلى رجل كنيته خليل وهناك سلَّمه الأسد رسالة مكبسلة من محمود في غزة ، وبعد أن انفضَّ اللقاء دعا أبورجب الأسد إلى تناول طعام العشاء في إحدى مطاعم عمان .

 بعد مغادرة الأسد عمان ووصوله إلى غزة بأمان ،  بعدها بأيام وقبل الفجر، داهم جيش الدفاع الإسرائيلي بيته المتواضع جدا ؛ ليجد بين يدي المحقق الإسرائلي مشوار رحلة عمره الجهادية ، حتى انواع الطعام التي تناولها برفقة أبو رجب في المطعم ، وليتعرض لحكم فعلي عشر سنوات ، قضاها في سجون غزة وعسقلان والسبع ونفحة الصحراوي ، ومعتقل النقب الصحراوي من قبل ( انصار ثلاثة ) ، تاركا خلفه زوجته الصابرة المحتسبة ، تدفع وأطفالها الستة فاتورة ضريبة ظلم الخونة والعملاء ، وبدون ستر ولا غطاء ، إلا من ستر الكرامة وغطاء العزة وإباء النفس .

 وهكذا استطاع الان أن يقرأ وبدقة ، معاني ارتعادة وانفعاله وانكماشه وانقباضه ، عندما وقع نظره لأول مرة على توفيق ومحمود وأبي احمد وأبي رجب .

 حاولت المخابرات الاسرائيلية في غمرة التحقيق مع الأسد ، أن أن تُظهر توفيق وكأنه رمز من رموز حركة الجهاد والمقاومة ، وقد قرنت اسمه بأسماء عمالقة الجهاد من أمثال فتحي وعبد الرحمن وجهاد  !!!.

 بعد أن  دخلت سلطة أوسلو أرض الوطن ، كان أبو أحمد الذي تنصب المسئولية في سوريا على القطاع الغربي من الوطن المحتل  في أحضانها وأحد رموزها ، لتعلق السلطة على كتفيه كل نجوم السماء ، وليعمل قائدا مغوارا من مغاوير المافيا التي أشبعت غزة نصبا واحتيالا وظلما وقمعا ، تحت غطاء من الأجهزة الأمنية ، كما تعلَّق ما بقيَ من النجوم على كتفي أخيه محمود وصديقه توفيق !!! .