موت الأطفال باللقاح واختلاط المفاهيم

د. أحمد محمد كنعان

د. أحمد محمد كنعان

قبل أيام قليلة وقعت كارثة مؤلمة راح ضحيتها عدد من أطفالنا الأعزاء نتيجة إعطائهم جرعات من لقاح الحصبة ، وقد أظهر التحقيق أن الأطفال بدل أن يحقنوا باللقاح حقنوا بدواء مخدر يرخى العضلات ــ بما فيها عضلات التنفس ــ فيؤدي إلى الاختناق ، وقد وقعت هذه الكارثة نتيجة خطأين اثنين :

الخطأ الأول نقل زجاجات الدواء ووضعها في الثلاجة المخصصة لحفظ اللقاحات ، وهذا مخالف للأعراف الطبية التي تقضي بعدم اختلاط اللقاحات بأية أدوية أخرى تجنباً لمثل هذا الخطأ القاتل .

والخطأ الثاني إهمال الذين تولوا تطعيم الأطفال ، فقد كان عليهم قبل استخدام كل زجاجة أن يتأكدوا من نوع محتواها ، وتاريخ صلاحيتها ، ولو أنهم فعلوا لما وقع هذا الحادث الأليم .

علماً بأن حادثة مشابهة وقعت في اليمن قبل حوالي عشرة أعوام ، راح ضحيتها أكثر من خمسين طفلاً ، وللأسباب نفسها ، فقد نقل بعضهم دواء الأنسولين الذي يستخدم لمرضى السكر ووضعه في ثلاجة اللقاحات ، وبدلاً من أن يحقن الأطفال باللقاح الثلاثي (DPT) حقنوا بالأنسولين بسبب تشابه عبوات الدواء مع عبوات اللقاح ، ما أدى إلى انخفاض حاد بالسكر عند الأطفال وقضوا نحبهم نتيجة هذا الإهمال !

والغريب أن شبيهاً بهذه الكوارث كثيراً ما تقع ، ليس في الطب ، وإنما في الممارسات الثقافية والفكرية ، حين تنقل بعض المفاهيم من سياقاتها التداولية إلى سياقات أخرى فتختلط الأمور وتقع الكوارث ، ومن ذلك مثلاً نقل بعض النظريات العلمية من حقلها التداولي إلى الحقل الاجتماعي أو الفكري أو العقائدي فتقع الكارثة ، ومن ذلك مثلاً القانون الذي وضعه عالم الكيمياء الفرنسي لافوازييه وهو القانون القائل : لا شيء يخلق ولا شيء يفنى . فقد وضع لافوازييه هذا القانون ليعبر به عن المعادلات الكيميائية ويضبطها ، فقد وجد أن العناصر الكيميائية التي تدخل في التفاعل تخرج من التفاعل بمركبات مختلفة ، لكن دون أن يظهر بين الناتج عناصر جديدة ، ودون أن يختفى شيء من العناصر التي اشتركت بالتفاعل ، أي إنه لا شيء يخلق بين هذه العناصر ولا شيء يفنى منها ، وقد كان لهذا القانون دور كبير جداً في تطوير علوم الكيمياء فيما بعد ، لكن جاء بعض المغرضين فنقلوا هذا القانون الكيميائي إلى حقل الإيمان والعقائد فقالوا مادام لا شيء يخلق ولا شيء يفنى فإذن لا إله هناك ولا خالق ، وإنما هو كون أزلي أبدي ! ولا ريب بأن هذا محض كذب وافتراء جاء نتيجة نقل القانون الكيميائي واستخدامه في غير مجاله التداولي ، تماماً كما حصل في حادثة التطعيم حيث وضع الدواء في غير مكانه فكانت الكارثة !

والأمثلة كثيرة في مجال الفكر حين يؤدي نقل مفهوم معين إلى حقل آخر غير حقله التداولي فتختلط المفاهيم وتقع الكوارث ، خذ مثلاً آخر على هذا "نظرية اللايقين" التي وضعها عالم الذرة ماكس بلانك ، ومفادها أننا لا نستطيع أن نرصد بصورة يقينية حركة الإلكترونات حول نواة الذرة في زمن محدد ، فجاء بعضهم ونقل هذه النظرية إلى حقل الإيمان والعقائد فقالوا مادام لا يقين هناك فإذن لا يقين بوجود الخالق !

ومثال آخر ، "نظرية النسبية" الذي قال به العالم أينشتاين ، فقد رأى أن مفهوم الزمن هو مفهوم نسبي ، فالزمن يتغير مع زيادة السرعة حتى إذا بلغنا سرعة الضوء (300.000 كلم / ثانية) توقف الزمن ، فجاء بعضهم وقالوا مادامت الظواهر الكونية نسبية فكذلك الأخلاق أمر نسبي ، فاختلط الحابل بالنابل ، وضاعت الأخلاق !

وهكذا نجد لكل مفهوم حقله التداولي الذي يعمل في إطاره ، فإذا نقلناه إلى غير حقله اختلطت الأمور ووقعت كوارث لا تقتل عدة أطفال كما حصل في التطعيم ، وإنما تقتل أمماً ، وتقضي على حضارات .. فتأمل !