الجوع والعامل الثقافي المغيَّب
ابتهال قدور
مؤتمر قمة الغذاء العالمي ... بدت الصورة باهتة، شاحبة، مؤلمة، لكنها حقيقية!
حقيقية، وصادقة بما أنها قد خلت من التمثيل والكذب والخداع، الذي كان قد ميز مؤتمرات سابقة!
كما خلت من الخطب الرنانة لقادة العالم الغني، وخلت من الوعود والعهود التي لم ينفذ منها شيء على مدى مؤتمرات!!
هذا العام قرر قادة العالم الغني مواجهة جياع العالم - الذي تخطى عددهم حاجز المليار- بوجههم الحقيقي... لم يحضروا وانتهى!!
أما الذين حضروا، فلم يكن من الصعب اكتشاف لامبالاتهم أثناء انعقاد الجلسات، فقد وقع بعضهم تحت غلبة التثاؤب، بينما فضل آخرون قراءة جريدة، ومنهم من أثاره حديث جانبي، ومنهم من بدا سارحاً يغط في حلم بعيد!!
هل قلت لامبالاة؟؟! يبدو أن التعبير خانني، فهذا هو السيد "بون كي مون" الأمين العام للأمم المتحدة يستبق المؤتمر بإضراب عن الطعام لأربع وعشرين ساعة تضامناً مع الجائعين، إذ لا يمكن أن يحس المتخوم بإحساس الجائع ما لم تفرغ معدته من الطّعام لبعض الوقت، موقف روج له الإعلام...فحين تكون اللوحة شديدة البشاعة لابد من إضفاء بعض الجمالية عليها لكي نتمكن من ترويجها!!
ولا تكمن البشاعة حقيقة في اللامبالاة الواضحة فقط، بل تكمن أيضا في محاولات مكثفة "لاستغباء" الناس، عن طريق الإيحاء لهم بوجود مشاكل مستعصية على الحلول الحاسمة والجذرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التكرار والإصرار على طرح نفس العوامل بدون تقديم مخارج وحلول لها، أمر يثير التأفف لدى من كان له بعض الوعي والإدراك، و من تلك العوامل التي أشبعت طرحاً وبحثاً ما يلي..
الانفجار الديموغرافي
في تفسيرات لأسباب الفقر يحلو للكثيرين التحدث عن "الانفجار السكاني" في الدول الفقيرة، جاعلين منه المسؤول الأعظم عن الفقر والجوع، على الرغم من أن علماء الاقتصاد لم يصنفوا يوماً العامل الديموغرافي كسبب وحيد للفقر والتخلف، بل اعتبروه عاملاً ينبغي أن يتزامن تنظيمه مع عوامل أخرى، تساعد على النهوض والإقلاع الإصلاحي الاقتصادي.
أما التركيز والإلحاح عليه منفرداً، فلا يدل إلا على خلو جعبتنا من أية خطط تنموية تنقذ هذه المجتمعات من بلائها، و يدل أيضاً على أننا لا نبصر في هذه الشعوب الفقيرة أكثر من أكوام عددية تستجدي العطاء، لذلك نسعى جاهدين إلى تقليص عددها كوسيلة لتخفيف الحمل المادي عن كاهلنا.. وحين تكون هذه نظرتنا لأكثر من مليار "إنسان" فمَن يستطيع أن ينفي عنا صفة الظلم والغرور؟!
ولكن هل هي حقيقة أن العالم الغني بعلمائه واقتصادييه، لا يعلم جيداً أنه لو سعى إلى إقامة مشاريع تنموية بشكل جاد في هذه الدول، فإن ما يراه اليوم أكواماً من البشر، تشكل عالة على موائده، ستصبح حينئذ واحدة من عوامل القوة و الازدهار..وسيتحول أولئك المتسولون للقمتهم الى عناصر منتجة مفيدة لمجتمعهم!؟
استثمار زراعي
ويذهب البعض الآخر للحديث عن ضرورة اللجوء إلى الإصلاح الزراعي، جميل.. ولكن يبدو أن الحديث في هذا الشأن ليس أكثر من ذر للرماد في العيون لأن سياسات الدول بغالبيتها، تتخبط في فوضى زراعية لا يُرى منها مصلحة تسد رمق الجياع وتوجههم لممارسة نشاط زراعي في متناولهم، وما يتم تسجيله بوضوح هو رهان مستمر من الحكومات، على عدد محدود من كبار المنتجين، تيسر لهم سبل البحث عن طرق لتصدير منتجاتهم، مما يزيد في تقويتهم وتسلطهم على السوق.
وفي المقابل مارست هذه السياسات دوراً أرعناً حين لم تراع المزارع الصغير، بل عمدت إلى إضعافه و تهميشه غير مكترثة بالتوازن الطبيعي الذي يحدثه هذا المزارع في الأسواق المحلية للدول النامية.
وكان بديهياً أن تؤدي هذه السياسات إلى هجرة المزارع من الريف وإهماله لأرضه وزراعته التي لم تعد تسد الرمق، واستبدال عمله بآخر أكثر جدوى.
"فالدول نظرياً تتحدث عن تشجيع الزراعة و الفلاّح والمزارع، ولكنها عملياً، تصر على تشجيع التصدير...وتدفع بعجلة الإنتاج إلى المزيد بينما المشكلة الحقيقية بأن هناك مليار من البشر لا يملكون المال لشراء الطعام" حسب ما جاء على لسان السيد "دي شوتر" مبعوث الأمم المتحدة.
فأين تكمن الخطة الزراعية المنجية من الفقر في سياسات متخبطة كهذه!
العوامل المناخية
وهناك طبعاً من يلقي بالذنب على العوامل المناخية، وهذا صحيح فلا تنمو الزراعة في معزل عن بيئة مناخية مناسبة، ولكننا جميعاً نعلم أن مشكلة الاحتباس الحراري الكارثية التي يتعرض لها كوكبنا هي واحدة مما صنعته أيدي الدول الصناعية الكبرى, كما نعلم أن كل المؤتمرات والاتفاقات التي هدفت إلى الحد من الانبعاث الحراري باءت بالفشل، فالدول الغنية لا تحركها كل صافرات الإنذار المدوية من حولها حين يتعلق الأمر بمستوى سير عجلة اقتصادها!!
وهناك من ربط حركة التصدير المبالغ فيها من الدول النامية بالإضرار بالبيئة كما فعل السيد " شوتر" الذي بيّن أن "الأراضي التي تُزرع بهدف التصدير تستغل مساحات شاسعة بمنتج زراعي واحد، مما يتعب الأرض ويفقرها، ويجعلها تتطلب كميات كبيرة من المياه، بالإضافة إلى كميات هائلة من السماد والمواد المقاومة للطفيليات.
وعامل آخر يغيب عن الأذهان وهو المسافات الهائلة التي تقطعها المواد خلال رحلة التصدير والتي تتراوح عادة بين 1500 كم إلى 2000كم لكل منتج، وما يستهلكه النقل من طاقة ومن غازات ضارة بالبيئة."
هناك إذاً سياسات خاطئة تتسبب في المجاعة، على الأقل جزئياً, وسياسات خاطئة تعني فعل إنساني، والفعل الإنساني يحتاج لكي يتم إصلاحه إلى إرادة حقيقية ورغبة صادقة لا تدل المؤشرات على توفرها لدى قادة الدول الغنية!
ماذا عن التغيير الثقافي!؟
مع مراعاة لكل العوامل المتسببة في الفقر في المجتمعات، لماذا لا يتم التركيز على العامل الثقافي لدى شعوب المجتمعات الجائعة؟!
فالعامل الثقافي لا يقل خطورة وأهمية عن العوامل السياسية والعوامل الاقتصادية والعوامل البيئية في عرقلة حل الأزمة، وهناك من الباحثين مثل الباحث" أوسكار لويس" من توصل إلى "أن الفقر ليس ظاهرة اقتصادية تتمثل في انخفاض مستوى الحياة المادية، إنما هو ثقافة كاملة لها قيمها وأخلاقياتها وسلوكياتها وأنماطها الفكرية التي يتمسك بها الفقراء ويقاومون أية محاولة لتغييرها، وتنتقل هذه الثقافة من جيل إلى جيل مبدية قدرة فائقة على الاستمرار في الوجود..."
وليست الدول الغربية الغنية الكبرى جاهلة لهذا العامل، فهي تمارسه وتركز عليه وفق دراسات وقياسات دقيقة في الكثير من المجتمعات، وهي تعمد إلى صياغة العقول والنفسيات بما يتلاءم وأهدافها، فلماذا إذاً لا تركز هذه الدول على نشر ثقافة تعين على الخروج من الفقر، ولماذا لا تساعد الإنسان في المجتمعات المتخلفة على النهوض لكي تتخلص منه كعامل ضغط مادي عليها؟!
إن لنا أن نتساءل مثل هذا التساؤل، حتى لو بدا سؤالنا غير بريء، لأن المتهم ليس جهة جاهلة، أو عديمة القدرات والإمكانيات، على العكس من ذلك فالمتهم الذي أمامنا هي دول تمسك بأسرار العلوم الإنسانية، وتتفوق في علوم صياغة العقول والتأثير علي الأنفس، وبإمكانها لو شاءت أن تعد برنامجاً ثقافياً يعين على نبذ الفقر والخروج من ظلماته، ولكن عزوفها عن فعل ذلك سيغلب الظن في أنه لا وجود لرغبة فعلية لإخراج الفقراء من فقرهم والجوعى من جوعهم...
خلاصة الكلام أن مؤتمر الجياع لهذا العام سيطرت عليه أنانية الأغنياء، ورست فيه النظريات المادية التي تعلي من شأن المال، حتى لو كان الإنسان في كفة الميزان الأخرى، ورسخت فيه مساعي البعض التي ترى في الإبقاء على تخلف الأكثرية، حفاظ على تفوق القلة...