مشكلة الأفكار
مشكلة الأفكار
بقلم: صبحي درويش
أزمة مجتمعاتنا اليوم ليست أزمة وسائل وإنما هي أزمة أفكار ومشكلة حضارة، ويعتبر)برتراند راسل) أن مئة دماغ في التاريخ تزيد وتنقص كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوروبا قروناً أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.إن أجمل الكتب هي التي توقظ الوعي وتشحذ ملكة النقد. كان مالك بن نبي مهندسا كهربائياً، ولكنه مارس حرفة الفكر أكثر من مهنة الكهرباء. وكتب قسماً من كتبه باللغة الفرنسية التي كان يتقنها، وكان يعرف الحضارة الغربية كخبير وليس كسائح. .ولم ينتشر فكره على أهميته إلا قليلاً، وكتاب مثل (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للكواكبي،موجود في كل مكتبة، بقدر وجود الاستبداد السياسي في كل بلد عربي، مما يدل على أن أعظم الكتب لا يستفيد منها الحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً، وأمة العربان أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب بل تحملق في الفضائيات. وأهم أفكار (مالك بن نبي) هي: فكرة "علاقة الحق بالواجب" و"المعرفة التاريخية" و"نهاية القوة" و"عالم الأفكار والأشياء" و"القابلية للاستعمار". فهو يرى أن من يقوم بواجبه تنشق له السماء ويأتيه حقه. فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب، وأن الحركات السياسية ضللت الشعوب بمنطق سقيم بالمطالبة بالحقوق، وأن ثلاث معادلات تحكم علاقات الواجبات والحقوق، ففي التساوي يحافظ المجتمع على خط السواء، وفي حال فائض الواجبات يحلق ويصعد،وعندما تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق يكب المجتمع على وجهه في ليل التاريخ؟.وأنا لا أعتبر (هنتجتون) الذي كتب عن صدام الحضارات أو فوكوياما الذي كتب عن نهاية التاريخ وغيرهما أنهم يصلحون أن يكونوا تلاميذ عند مؤرخ عملاق مثل (ديورانت) . وأتمنى أن أعيد قراءة ديورانت مرة أخرى وربما تكون الخامسة لازداد نضجا. والعبرة ليس أن يقرأ الإنسان بل أن يقرأ الجيد ومرات عديدة حتى يتخمر به وتصبح أفكار المؤرخ العملاق مادة من دماغ من يقرأ تتفاعل مع المحتوى الدماغي وتصبح من نسيج أفكار القارئ النهم فيستشهد بها وهو لا يحس. و(ويلز) قام بجهد خارق لاستعراض كل التاريخ بدءاً من الخلايا الوحيدة على الأرض إلى الإنسان وهو جيد لأنه يعطي تصوراً عاماً عن كل رحلة الحياة. أما المؤرخ (توينبي) فقد حرص في دراسة موسعة على أن يفهم ظاهرة الحضارة والقوانين التي تحكم مفاصل حركته.ومن هنا كان كتابه هاماً في التحليل التاريخي وإدراك قوانين حركته، وأما كتاب (قصة الحضارة) لديورانت فهو سرد طويل مع تحليل ممتع فجمع بين فضيلتي سرد الأحداث والتعليق الفلسفي ومحاولة إنصاف كل حضارة وهو قام بعشرات الزيارات قبل أن يكتب سطراً واحداً. وأن الإنسان ليتعجب من هذا الجهد العملاق الذي قام به فرد واحد ولكن العمل العبقري يتكون في دماغ واحد. إن متعة القراءة في هذا الكتاب الموثق والمترجم إلى العربية بغير حدود ويجب على كل طالب للثقافة أن يضع له برنامجاً خاصاً في حياته لقراءته كله وهو أقل ما يفعله أمام من جمعه وكتبه.
إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن. ويقوم الكون على التوازن فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم إلى الحد الحرج تقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض. والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد، ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تجمد ولا تتفجر، والماء جيد إذا حبس خلف السد، وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية ويسمونها الين واليانغ. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز والعواطف. ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي. وكل فضيلة ـ بتعبير أرسطو ـ هي وسط بين رذيلتين. فالشجاعة هي وسط بين الخوف والتهور. والكرم هو ما بين البخل والإسراف. ومبدأ الثنائية خطأ فليست الأمور أسود أو أبيض.ولا يخرج «التدين» عن هذا القانون. إن التدين يشبه الملح. فمن دون الملح في الطعام يفقد كل نكهة. ومن دون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها. وبقدر حاجة البدن الضرورية للملح بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. ولكن قبضةًً من ملح في الطعام تجعل النفس تعافه. فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة وامتزج بالوعي أعطى للحياة معنى ونشر الرحمة والحب. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب والحياة إلى جحيم لا يطاق. فهذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها (الذهبي). وعندما درس عالم النفس (أبراهام ماسلو) هرم الحاجيات الإنسانية وجده يتكون من خمس طبقات. واعتبر أن الحاجيات لا تنتهي بإشباع الرغبات الفيزيولوجية الخمس من (الطعام والشراب والجنس والملبس والسكن) بل لا بد من (الأمن الاجتماعي). و(الأمن) يمثل الطابق الثاني من تركيبة هرم الحاجيات الإنسانية. وإذا توفر هذا فإنها لا تلبي الرغبات تماما، بل لا بد من توفر إحساس الفرد (بالانتماء) للجماعة الذي يمثل الطابق الثالث من الهرم. يتلوها شعور خاص في الطابق الرابع من الهرم هو إحساس الفرد ب (تقدير) الجماعة له حتى يصعد إلى ذروة (تحقق الذات). وتحقق الذات هي قمة الهرم ولا يحققها في العادة إلا 5% من الناس فقط.وهنا أضيف عنصر ثالث للحاجيات الفيزيولوجية والأمن الاجتماعي هو (الطمأنينة) الروحية. وبحسب علم النفس فإنه لا شيء يؤلم الإنسان ويحرض عنده انفعال (الغضب) مثل الاستخفاف به فإذا قصر في تحقيق ذلك تملكه (الخجل) وإذا حقق نفسه أحس (بالاعتزاز). وهذه الانفعالات الثلاثة هي حسب(هيجل)أهم محركات الصيرورة التاريخية.ويرى (راسل) أن الانفعال هو الذي يحرك فـ«الإدراك قد يوجه ويرشد ولكنه لا يولد القوة التي تؤدي إلى العمل، فهذه القوة يجب أن تستمد من المشاعر» وهذا يؤدي حسب عالم النفس (هادفيلد) إلى قلب مفهوم الشر فهو ليس «أمرا موضوعيا بل هو وظيفة خاطئة، والوظيفة الشريرة هي استعمال اندفاع خير في وقت خاطئ في مكان خاطئ نحو غاية خاطئة». إن بلادنا مقلوبة الهرم، تعيش حالة من الفوضى، منكوسة على رأسها عاجزة عن التكيف مع العالم والسبب في هذه الفوضى العارمة انه لا يعرف العالم لأنه لم يشترك في صناعته فهي له مثل قصة الجن الأزرق مع سندباد. ومجتمعاتنا خرجت عن سكة الحضارة منذ زمن بعيد فلا نزداد من هدفنا إلا بعدا والمرض إلا نكسا وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.إن المواطن جائع وعار وخائف، يعيش من راتب لا يكفي رزق عياله، وعليه أن يركض كالحصان في تأمين وظيفتين إضافيتين تمكناه من العوم كي لا يغرق في المجاعة. وأي زيادة في الراتب تعني قفز الأسعار مرتين في دوامة شيطانية تحكم قبضتها على المجتمع باستمرار. وتذوب الطبقة الوسطى تدريجيا ليموت مائة مقابل أن يصعد واحد مترهل على شكل جنرال أو (معلم) في المخابرات فينعم بسيارة مرسيدس في الوقت الذي يلقى الناس مثل كومة التبن في سيارات جماعية تسد الأنوف من رائحة لتعرق والأقدام محشورين مكانا ضيقا مقرنين يدعون ثبورا. العقول تفر في نزيف لا يرحم. والأموال تطير بجناحين من دولار ويورو لتستقر في سويسرا ولندن وباريس، وشباب عاطل يزحف في مظاهرات إلى أبواب السفارات ممتلئ إحباطا ويأسا. وخيرة من يكتب للوطن هم خارج الوطن. والصحافة التي فيها هامش من الحرية تعيش في المهجر أو هامش العالم العربي حيث لا ينتبه أحد أو يقرأ. إنها فظا عات يومية ولكنها بلادة الاعتياد عند الإنسان في مجتمع يعيش ليل التاريخ.لا شك أن الحرمان من لقمة الخبز هو أصعب شيء على الإنسان، و يجيء بعده مباشرة الحرمان من المعرفة والفهم ولكن المكتبة العربية لا تقدم للقارئ المراجع الضرورية لتأمين هذا الفهم بل تقدم له كل ما يحول دون الفهم الصحيح للواقع والتاريخ، للماضي والحاضر، للداخل والخارج! إن مفكري النهضة كانوا منفتحين على الحضارة والحداثة بدون عقد نفسية . كانوا يأخذون العلم حيث وجدوه، والعلم في العصور الحديثة موجود في أوروبا شئنا أم أبينا. ولكن المشكلة هي «إننا رمينا الطفل مع الغسيل الوسخ» كما يقول المثل الفرنسي. ولم نعرف كيف نميز بين الصالح والطالح في الحضارة الغربية.ولولا عفو الله لقضينا على ديكارت نفسه، وهكذا لا يسلم منهم أي فيلسوف في الغرب كبيرا كان أم صغيرا. وقد أسأنا لأنفسنا قبل غيرنا، إذ اتخذنا مثل هذه المواقف المعادية للفكر والعلم والعقل. انظر موقفنا الطفولي إن لم اقل الغبي من الاستشراق مثلا. فهنا لم نعرف كيف نميز بين الاستشراق الأكاديمي الذي حقق مخطوطات تراثنا ودرسه على ضوء المنهج التاريخي لأول مرة، وبين الاستشراق المسيَّس أو المغرض أو السطحي. فرميناهما كلاهما في سلة واحدة. واعتقدنا بذلك أننا انتصرنا على الاستشراق الذي يريد تدمير التراث، وكأننا لسنا مدمَّرين، أو ميتين منذ عدة قرون، لكي يجيء احد فيدمرنا!... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!..
هناك اختصاص في الغرب يدعى فلسفة العلوم (الاسبتمولوجيا). والبعض يدعوه بنظرية المعرفة. فكم مرجعا منه يوجد في المكتبة العربية؟ ربما ثلاثة أو أربعة، أو لا شيء.. ولكن في اللغات الحية توجد مئات الكتب عنه. وقل الأمر ذاته عن علم النفس، والتحليل النفسي، وعلم التاريخ الحديث، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الأديان المقارنة.. الخ.. فقط توجد عندنا معاهد دينية تقليدية لا تزال تدرس الدين بطريقة قروسطية كما كان يحصل قبل سبعمائة سنة!..المكتبة العربية لا تزال فقيرة بالمراجع العلمية والفلسفية.وكل مثقف لا يمتلك لغة أجنبية حديثة كالانكليزية أو الفرنسية فهو أمّي أو شبه أمّي. فالمكتبة العربية الجديدة التي تقدم للقارئ كل أنواع الفتوحات المعرفية التي حصلت في الغرب طيلة القرون الأربعة المنصرمة لا تزال فارغة أو شبه فارغة.ونحن بعد لم نستيقظ من نومة أهل الكهف... فمن يعرف إلى أين وصل العلم لدى الأمم المتقدمة، وفي أي درك أسفل لا يزال هو عندنا لا يمكن أن يكون راضيا عن نفسه.
وفي عالم الأفكار, قيل إن ما يحتاجه العالم الثالث ليس المادة بل الأفكار, وهي فكرة فهمناها مع دخول عصر المعلومات بعد العصر الصناعي. كان بن نبي يرى أن قوانين الأجرام في الأفلاك ثابتة، وقوانين الجذب والطرد هي التي تحمي الأجرام من التهاوي أو الانفلات، وهذا النظام البديع يقوم على تساوي الجذب والطرد. كذلك قوانين المجتمعات في إبقائها دون التهاوي والانفلات. وكان آباؤنا يقتلون خلية النحل ليأخذوا العسل. ولكن الإنسان الذي سخر له ما في السماوات وما في الأرض تعلم أن يمسك بالبرق الذي كان صاعقة وينزلها بأمان، ويستخدمها استخدامات لا نهائية كما نعرف في الكهرباء. وتعلم الكثير من قانون الأفلاك، فوضع أقماراً صناعية سريعة وبطيئة تخدم في التواصل. وعلينا أن نكشف قوانين الأفلاك، وقوانين المجتمعات.