فكر محمد أسد (ليو بولد فايس)
فكر محمد أسد (ليو بولد فايس)
كما لا يعـرفه الكثيـرون (3)
موقفه من مسألة عصمة الأنبياء
د.إبراهيم عوض
ومن القضايا ذات الأهمية الشديدة التى تناولها أسد فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بشريةُ الرسل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشَاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم بشرا. هكذا تكلم التاريخ، أما إذا قال أصحاب بعض الأديان إن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبه به، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله. كما أن القرآن قد كرر القول مرارا بأن الرسل والأنبياء كانوا جميعا بشرا من البشر، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون وينجبون ويَغْشَوْن الأسواق، ثم فى النهاية يموتون. إذن فلا خلاف مع محمد أسد فى هذا البتة، إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائما ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل والأنبياء منطلقا للقول بأنهم، أيضا مثل سائر البشر، معرضون للخطإ كلما سنحت الفرصة. ويبدو لى بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم مثل أى إنسان آخر.
فعلى سبيل المثال يقول، عند تعليقه على قوله تعالى: "وما أرسلنا مِنْ قَبْلِك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى أَلْقَى الشيطانُ فى أمنيّته، فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياتِه، والله عزيز حكيم"، إن إلقاء الشيطان فى أمنيّة النبى والرسول معناه ألا يكون هدفهما الأخذ بيد أمتهما فى معراج الرقى الروحى، بل إحراز القوة والتأثير الشخصى. ثم يمضى فيستشهد بقوله عز من قائل: "وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا شياطينَ الإنس والجن"[1]دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه. أتُراه يريد أن يقول إن للشياطين من إنس وجن تأثيرا على الرسل والأنبياء حتى إنهم ليَحْرِفونهم عن مسارهم الذى حددته لهم السماء إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكن أىُّ نبى أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه فى القوة والنفوذ الشخصى فوق الغاية النبيلة التى انتدبه لها رب العزة والجلال؟ ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا، وليس فيه شىء من ذلك على الإطلاق، أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها فهذا ليس برهانا على صحة هذه الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرحة تجريحا شديدا حسبما ذكر القرآن فى أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التى تناولتها، سواء تلك التى قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم. وعلى أية حال فالذى يهمنا فى هذا المجال هو القرآن لأنه هو الذى يستند إليه أسد فى تقرير ما قال.
وفى كلمته التمهيدية التى يقدم بها لسورة "القصص" يقول إن "معظم قصة موسى فى تلك السورة تصور الجانب البشرى الخالص فى حياته، أو بتعبير آخر تصور الدوافع وألوان الحيرة والأخطاء التى تشكل جزءا من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازا رغبة منه فى مقاومة أى ميل عند المتدينين إلى عَزْو أية صفات شبه إلهية إلى أحد من رسل الله". وبعد قليل يعقِّب على اقتتال المصرى والإسرائيلى وتدخّل موسى عليه السلام ووَكْزه للمصرى الوكزةَ التى قضت عليه دون قصد منه، فيقول إن "الآيتين 16-17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلى لا المصرى هو المخطئ. والظاهر أن موسى قد تقدم لمساعدة الإسرائيلى بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطإ فى هذه القضية، وإن كان قد تبين له أنه اجترح إثما فظيعا، لا بقتله إنسانا بريئا فقط رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفه كذلك على أساس من التحيز العنصرى"[2].
وفى أحد الهوامش التى خصصها للتعليق على قصة يونس عليه السلام وإبَِاقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذانا صاغية، نراه يختم كلامه بقوله إن الهدف من هذه القصة فى القرآن هو تفهيمنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفا" كما جاء فى سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أى من ألوان الضعف المركوزة فى الفطرة البشرية. وهو ما يعنى بوضوح أنهم عليهم السلام يمكن أن يرتكبوا أى شىء مما يقع فيه البشر هانَ أو عَظُم. وقد كرر المعنى ذاته فى تفسيره لقوله جل جلاله مخاطبا نبيه محمدا عليه السلام: "ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر"، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى فى معراج الخُلُق وكان حميد السجايا فإنه عرضة للوقوع فى الخطإ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طرْفٍ خفىٍّ إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله سبحانه[3].
وفى ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله بصدد الحديث عن الخَصْمين اللذين تسوَّرا المحراب على داود عليه السلام وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التى لا يملك سواها كى يضمها إلى قطيعه المكوَّن من تسع وتسعين نعجة...إلخ، إذ تساءل قائلا: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن هؤلاء العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائدة العسكرى أوريا ورسم خطة للتخلص منه لكى يخلو له وجه الزوجه، إذ أمر بأن يوضع فى مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وعندئذ تزوج داود المرأة وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا فى ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكارا شديدا. ومن الواضح هنا أيضا أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
وهو يرى أن قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: "ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزْرك* الذى أنقض ظهرك* ...؟" يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التى اقترفها عليه السلام قبل البعثة. ولكن أية أخطاء يا ترى تلك التى اقترفها النبى آنذاك؟ هنا يسكت أسد. ولست أوافقه على أن معنى "الوزر" فى الآيات الكريمة أخطاء ارتكبها الرسول فى الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تُنْقِض هذه الأخطاء ظهره، وهو لم يكن مكلفا آنئذ ولا آخذه الله عليها فى أى موضع من القرآن ولا اتخذها أحد من قومه تُكَأَةً للنيل من سمعته أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أن مَنَّ الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عُسْر إلا ومعه يُسْر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره عليه السلام بشىء من قبيل فتور الوحى عليه فى أول الدعوة أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك. أى أن الوزر هنا وزر نفسى لا أخلاقى. أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقه واستخراج نصيب الشيطان منه وغسله بالثلج أثناء طفولته الأولى فى بادية بنى سعد كما جاء فى بعض الروايات، فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه عليه السلام قد أصبح محميا تماما من الوقوع فى الذنوب والآثام.
وعلى أية حال فإنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحا من أسلحة الحرب النفسية التى شنوها عليه منذ اللحظة الأولى. ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعلمون هم قبل غيرهم أنه باطل، وهو أنه ساحر ومجنون وكذاب ويكتتب قصصه عن الأنبياء السابقين وأممهم من بعض الرقيق المكى من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون فى يد إنسان عُمْلة سليمة فيلقى بها فى عُرْض الطريق ويتخذ بدلا منها نقودا زُيُوفا؟ ترى لو كان النبى عليه السلام قد زنى أو حتى قبَّل امرأة مجرد تقبيل أو شَرِب الخمر أو لَعِب المَيْسِر أو تابع قومه فى عبادة الأصنام أو التضحية لها أو عُرِف عنه الكذب مثلا، أكان قومه يسكتون عن ذلك؟ إن كل ما قالوه فى بشريته لا يتعدى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق وأن له زوجا وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكًا لا بشرا، وهذا كل ما هنالك، فهل يصح أن يقول مسلم فى الرسول ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أننى قد تجنبت الخوض فى الجدال النظرى البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم وسلكتُ، بدلا من ذلك، المنهجَ التاريخى والنفسى واستنطقتُ النصوص ذاتها فلم يصادفنا، لا فيما وصلنا عن سيرته ولا فى الآيات التى تحدثتْ عنه أو إليه، أىٌّ من تلك الذنوب المزعومة. ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بأنه "على خُلُقٍ عظيم" كما جاء فى الآية الخامسة من سورة "القلم"؟
كذلك لو كان داود عليه السلام قد صنع بأوريا هذا الذى ادُّعِىَ عليه أكان الله سبحانه تارِكَه دون مؤاخذة، وهو الذى عرَّض يونسَ عليه السلام لتلك التجربة المرعبة المؤلمة، تجربة ابتلاع الحوت له وبقائه فى بطنه أياما وليالى، لمجرد غضبه من قومه وإباقه إلى الفلك المشحون بسبب صلابة رقابهم ولجاجهم فى الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل إنسان برىء طمعا فى زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذى يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك فى الأمر أن من قبلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى السخيفة بل المجرمة كانوا حرصاء فى ذات الوقت على أن يبرئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدم بارد وتخطيط مسبق ودون خالجة من ضمير ليس بشىء بجانب هذه التهمة!
إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنى لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، وإذن فلو أن هذين الخصمين ملاكان أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى ارتكبها، فأى جدوى من هذا التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد من سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى كان قادرا على أن ينبه نبيه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا يمنع الجريمة قبل وقوعها بدلا من تركه يقترفها ثم عتابه له بعد فوات الأوان؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو، فما الفرق بينهم إذن وبين عتاة المجرمين؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحط إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وجعلهم من الأخيار أُولِى الأيدى والأبصار وزودهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن نفسه يقول عن داود عليه السلام فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتى بعضنا فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذِّب القرآن ونصدق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة الخصمين تحضّه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبع الهوى، وهو ما يرجِّح أن تكون القصة متعلقة بالتسرع فى الحكم لأحد المتخاصمين قبل الاستماع إلى الطرف الآخر، لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع مثلا بجمال زوجة قائده فحدثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فأىُّ خطإٍ ارتكبه حين ضاق صدره بعد إذ رأى من قومه لَدَدًا فى الكفر وتماديا فى العناد والإنكار فتركهم ومضى على وجهه؟ إن هذه ليست سُبَّة أخلاقية، لا ولا هى تهاون فى تأدية الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتى إلى وَكْزَة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وَكْزَة أراد بها عليه السلام أن يدفع العدوان أو ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلدٍ كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائليل فيه لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم آنئذ، لكن كانت للأقدار مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها. وأغلب الظن أنها كانت "القشة التى قصمت ظهر البعير". أى أن أسباب الموت كانت مهيَّأة لطَىّ صفحة ذلك الرجل من الوجود، كأن يكون مصابا بأزمة قلبية مثلا أو تكون الوكزة قد أفقدته توازنه فسقط دماغه على أرض حجرية...إلخ، فجاء وَكْز موسى فى ذلك الوقت مصادفة واتفاقا ليكون هو العامل الظاهرى الذى أودى بحياته. ولنلاحظ أن موسى قد أنَّبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا، فأخذ يستغفر ربه ويبتهل إليه نادما أشد الندم رغم أنها ليست سقطة أخلاقية كما قلنا.
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله بمحاولة إقناع بعض المشركين فى مكة لهدايتهم إلى الإسلام، يقول إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا عظيما يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وهذا هو الذى أتفق فيه مع محمد أسد، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".
هذا، وقد صدرت عن قلم الكاتب عبارة مهمة لا أدرى كيف لم يستصحبها دائما معه بدلا من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقى الذى لا يفلت منه الرسل والأنبياء وإمكان وقوعهم فى أى ذنب من الذنوب التى يقترفها البشر، ألا وهى قوله، بصدد التعليق على الآية التى تقول: "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنَّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قَدَرًا مقدورا"، إن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء الذين تتوافق فيهم جميعا، بما فيهم الرسول عليه السلام، رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسَهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحى والفطرى الذى يميز صفوة خلق الله وقدَرهم المقدور كما تقول خاتمة الآية. ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أَحْجَى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يتمالكون أنفسهم من الوقوع فى أى من الذنوب والآثام بمجرد تهيؤ الدواعى لذلك فلا ينسجم مع القرآن، الذى يرفع الرسل والأنبياء مكانا عَلِيًّا ويُثْنِى عليهم أجزل الثناء ويرى فيهم نموذجا فذا لا يُطال رغم بشريتهم التى يؤكدها فى ذات الوقت، بل ينسجم مع اتجاه العهد القديم، الذى ينسب إليهم الزنا والقتل والدياثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة فى مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان فى بيوتهم...إلى آخر ما سوَّد به اليهودُ الملاعينُ صفحاتِ كتبهم التى يزعمون أنها وحى إلهى، ملطخين بذلك الصورَ النبيلة لتلك الصفوة من عباد الله.
وقد رجعتُ، بعد الفراغ من كتابة ما تقدم، إلى "الفِصَل فى المِلَل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم لأسترجع ما قالت الفرق الإسلامية فى هذا الموضوع، فوجدته يذكر أنهم اختلفوا فى ذلك: فقالت طائفة إن الرسل عليهم السلام يعصون الله فى جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب فى التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضا، كما جوَّزوا أن يكون فى أمة محمد عليه السلام من هو أفضل منه. وفى رأى ابن حزم أن هذا كله كفر وشرك وردة عن الإسلام. وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط بالعمد، أما الكبائر فلا. أما الذى تدين به أمة الإسلام من سنة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية (كما قال العلامة الأندلسى) فهو أنه لا يَجُوز البتةَ أن يقع من نبىٍّ معصيةٌ أصلا لا كبيرة ولا صغيرة. وهذا رأيه هو أيضا، وإن قال إنه قد تقع من الأنبياء الهفوة عن غير قصد، كما قد يقع منهم قَصْدُ الشىء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب منه فيوافق خلافَ مراده عز وجل، إلا أنه تعالى لا يقرّهم على شىء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه. وهذا الذى ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من تحليل النصوص القرآنية تقريبا، ويسعدنى أن ينسجم رأيى مع رأى هذا العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد فى مثل هذا خشية أن يكون مخطئا فى اجتهاده لا يبغى إهانة الأنبياء أو التطاول عليهم والتحقير من شأنهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، ولكنى فى ذات الوقت لا أهضم وقوعه فى هذا الخطإ الأبلق.
وفى النهاية أود أن أضيف أننا لا نجد هذا الرأى الغريب لأسد فى الأنبياء فى الكتب التى تُرْجِمَتْ له إلى العربية. لقد لمس مثلا بشريةَ الرسول عليه الصلاة والسلام فى موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا ما قاله فى الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه (أى الرسول عليه السلام) لم يدَّع يوما إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التى تؤكد إنسانية محمد: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم؟". وكذلك فإن القرآن الكريم قد دلل على عجز النبى المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله تعالى: "قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء. إنْ أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون". ولا ريب فى أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس: يتمتع بملذات الوجود البشرى ويعانى آلامه". وهو تقريبا نفس ما نقرؤه فى الموضع الثانى حيث يقول إنه عليه السلام كان "كائنا بشريا مليئا بالرغبات والدوافع الإنسانية وبوعى حياته الخاصة، وفى الوقت عينه أداة طيعة لتلقى رسالته"[4]. والنصان، رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لانلمح فى عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف كان يرى أنه عليه السلام عرضة للوقوع فى الذنوب والآثام كأى شخص عادى. فهل هذا دليل على أن فكره قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة من صلب عقيدته أوانذاك لكنها، لسبب أو لآخر، لم تَشُقّ طريقها إلى الظهور فى ذلك الكتاب؟
الهوامش:
[1] الأنعام/ 112.
[2] ص 591/ هـ 15.
[3] ص 785/ هـ 2 .
[4] محمد أسد/ الطريق إلى الإسلام/ ترجمة عفيف البعلبكى/ دار العلم للملايين/ 1981م/ 297، 303.