خطاب مفتوح إلى د. ميكلوش مورانى المستشرق الألماني

خطاب مفتوح إلى

د. ميكلوش مورانى المستشرق الألماني

د.إبراهيم عوض

[email protected]

الأستاذ الدكتور ميكلوش مورانى، بعد التحية:

دعانى الأستاذ عبد الرحمن الشهرى المشرف على موقع "شبكة التفسير والدراسات القرآنية" (tafsir.net) بمبادرة كريمة منه، بعد تعارفنا منذ أيام قلائل من خلال البريد المشباكى، إلى أن أشترك فى الملتقى العلمى للشبكة المذكورة، لافتًا نظرى إلى الحوار الذى أجرته الشبكة مع سيادتك. وقد أثارت إجاباتك على أسئلة الحوار عقلى فأخذت أقلب الفكر فيه وأتصور أننى جالس معك أناقلك الرأى وأبادلك الحجة فنختلف تارة ونتفق أخرى. ثم بدا لى أن أكتب هذا الذى دار فى ذهنى ثم أنشره على  الناس فى هيئة رسالة تطالعها سيادتك مع سائر القراء، وإن كنتَ أنت صاحب الفضل الأول فى كتابتها والمقصود رقم واحد بها. وها هى ذى الرسالة المذكورة بين يديك، ولسوف ترى أنى ركزت هنا على نقطتين لا غير، والسبب فى ذلك أنى لم أجد تقريبا فى باقى كلامك ما يمكن أن يكون موضع أخذ ورد بيننا، أو على الأقل: لن يكون حوله خلاف كبير.

وقد جاء فى كلامك أن  "المستشرق هو الباحث الذي يُحاول دراسةَ الحضارات الشرقية وتفهُّمَها على المستوى الجامعي الأكاديمي. وما نحن بصدده في هذا المَجال هو الاستشراقُ بمعناه الأصلي والأكاديمي: دراسة الحضارة الإسلامية بصورة عامة، ودراسة العلوم الإسلامية باعتبارها أَساسًا لهذه الحضارة على جَميع مستويات الحياة العامة. إذاً فإِنَّ هذا المجالَ واسعٌ ، يشمل جميع فروع العلم: الفلسفة، الأدب على مختلف فنونه، الشعر من العصر الجاهلي إلى الشعر الحديث، الطب وعلومه وغير ذلك. ولن يتأَتى للمستشرق الوصول إلى تائج سليمة وعلمية في هذا المضمار ما لم يُتقن لغات هذه الحضارة العظيمة: العربية، وهي اللغة الأساسية والمنطلق الرئيس للدراسات الإسلامية والعربية، وأيضًا اللغة الفارسية واللغة العثمانية التركية. وإلى جانب ذلك هناك تخصصات في الاستشراق تتطلب معرفةَ اللغة الحبشية واليمنية القديمة ولهجاتها. ومَنْ تخصَّصَ في الفلسفة والكلام فعليه دراسة اللغة اليونانية القديمة، ويُمكن دراسة جميع هذه اللغات في مختلف المعاهد الاستشراقية في ألمانيا حسب تخصصها. وكثيرًا ما يستخدم الإعلامُ مصطلح "المستشرق" في غير موضعه، فيزعمُ أَنَّ كلَّ فردٍ يُدْلي برأيه في شؤون العالم العربي والإسلاميِّ، أو يُدْلي بدلوهِ في الأمور السياسيةِ في الشرق الأوسط يُعتبرُ مُستشرقًا حتى ولو كان صَحفيًّا، أو عالمًا في العلوم الاجتماعية، أو سياسيًّا غير ناطقٍ باللغة العربية، وهذا غير صحيح".

والآن اسمح لى أن أختلف معك فى تحديدك للمستشرق، إذ أراك تشترط أن يكون أستاذا جامعيا، مع أن هذا ليس بلازم، فضلا عن أن الواقع خلاف ذلك. والمهم أن يكون محور اهتمام الباحث هو دراسة الشرق لغةً ودينًا وسياسةً واقتصادًا وتاريخًا وجغرافيةً وأدبًا وعاداتٍ وتقاليدَ وزعماءَ وعلماءَ...إلخ، ثم لا عليه بعد هذا إن كان أستاذا فى الجامعة أو صحافيا أو سفيرا أو وزيرا أو رحالة أو فنانا أو حتى جاسوسا. المهم أن يكون مهتما بالشرق وبدراسة الشرق ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وأن يقرأ عن الشرق ويعرف ما كُتِبَ عنه ويحتك به... وهكذا، مع ملاحظة أن الشرق فى حالتنا الآن هو الشرق الإسلامى بطبيعة الحال. أما إذا ضيَّقنا واسعا وحَجَّرْنا ما جعله الله ليِّنا، فأين نضع أشخاصا كواشنطن إرفنج أو جورج سيل أو إدوارد لين أو ريتشارد بيرتون أو جرترود بل أو بلنت أو كرومر أو محمد أسد أو أسد بك أو مارمادوك بكثال أو مارتن لنجز أو ديزموند ستيوارت أو مراد هوفمان أو روجيه جارودى أو روبرت فيسك أو الجنرال دوتى أو إتيين دينيه أو جينو أو موريس بوكاى على سبيل المثال؟ إن كلامك لا يعنى إلا أن فى الأستاذ الجامعى سرًّا إلهيًّا لا يتوفر لغيره، مع أن الذكاء والعلم والاهتمام والمقدرة على الإنجاز فى هذا المجال متاحة للجميع كما يقول الواقع والتاريخ. بل إن المؤلفات التى خلّفها وراءه هذا النوع غير الأكاديمى من المستشرقين لا تقل أهيمة عن الاستشراق الأكاديمى فى التعريف بالشرق، إن لم تزد. ذلك أن الشرق ليس كتبا قديمة أو تاريخا ماضيا أو أدبا فقط، وهذا بافتراض أن المستشرق الصحفى مثلا لا يهتم بهذه الأشياء، بل هو شوارعُ وأبنيةٌ وملابسُ وأطعمةٌ، وتعاملاتٌ يوميةٌ من كل لون،ٍ وأحداثٌ حيّةٌ معاصرةٌ، وآمالٌ وتطلعاتٌ وتخطيطاتٌ للمستقبل...مما لا يهتم به المستشرق الجامعى عادة، بخلاف المستشرق الرحالة أو المستشرق السياسى وأمثالهما. من الممكن أن نقول إن هناك استشراقا جامعيا، واستشراقا سياسيا، واستشراقا صحفيا...وهلم جرا، أما أن نقول إن الاستشراق لا يكون إلا جامعيا، فماذا نفعل إذن يا ترى بغير الجامعيين ممن يكتبون عن الشرق ويهتمون به، ولهم نتاجٌ مهمٌّ يلقى الضوء على الشرق ويبحث فى ثقافته وتاريخه وحاضره وأوضاعه وسائر قضاياه؟ كذلك اسمح لى أن أنبه القراء إلى أن العربية والفارسية والتركية، رغم أهميتها وتفوقها فى مجال الاستشراق على غيرها من لغات المنطقة، ليست هى كل ما يحتاجه المستشرق الإسلامى، إذ هناك الأوردية والبنغالية واللغات الإفريقية التى يتكلمها المسلمون من غير الشعوب التى تتحدث وتكتب باللغات الثلاث المذكورة. إننى قد أفهم اقتصارك فى حديثك هنا على أنه رغبة فى اختصار الكلام، ولا أظنك تقصد أن اللغات الأخرى التى يتكلمها ويكتب بها المسلمون الآخرون لا تهم المستشرق فى شىء، وإلا فهل يُعْقَل أن يهمل أىُّ مستشرقٍ جادٍّ التراثَ الذى تركه علماء كأبى الأعلى المودودى أو مولانا عبد الماجد دريابادى أو مولانا أبو الكلام أزاد أو حتى كاتبة كتسليمة نسرين؟ لكننى رغم هذا أوافقك تماما فى الإنكار على من يزعمون أن "كلَّ فردٍ يُدْلي برأيه في شؤون العالم العربي والإسلامي، أو يُدلي بدلوهِ في الأمور السياسيةِ في الشرق الأوسط يُعتبرُ مُستشرقًا، حتى ولو كان صَحفيًّا أو عالمًا في العلوم الاجتماعية أو سياسيًّا غير ناطقٍ باللغة العربية"، وهذا نص كلامك. إلا أن هذا غير ذاك كما ترى!

وجوابًا على السؤال التالى:"كيف يمكن تلخيص طبيعة الفهم الاستشراقى للقرآن الكريم، وتوثيق القرآن عند المستشرقين؟ وهل يختلف هذا الفهم عن الفهم للقرآن عند الباحثين المسلمين؟" قلتَ إن "الفهم الاستشراقيّ للقُرآنِ يختلفُ كُلَّ الاختلافِ عنهُ عندَ المسلمين عامةً، والباحثين المسلمين خاصةً، وذلك ما أَثارَ تَوتُّرًا، بل حقدًا إنْ صحَّ التعبيرُ، بينَ الطرفين الإسلاميِّ والأُوروبيِّ. إنَّ المستشرقَ الذي يدرسُ نصَّ القرآنِ وعُلومَه لا ينطلقُ من الحقيقةِ المطلقةِ لدى المسلمين أَنَّّ هذا النصَّ وحيٌ مُنَزَّل، أَي لا يدرسهُ مِن زاويةِ الإيمانِ، بل مِنْ زاوية العلمِ المنفصلِ مِن جَميع ما يدخلُ في باب الإيمان والعقيدةِ. الاستشراقُ يُعالج النصَّ القرآنيَّ وِفقًا لِمَعاييرِ علومِ الدياناتِ العامةِ، وَوفقًا لعلوم التأريخ، فمِن هنا يُمكنُ القولُ: إِنَّ نصَّ القرآنِ في رأي الاستشراقِ ليس إِلاَّ وثيقة تاريخية ثَمينة، باعتباره مبدأً أساسيًّا في إيمان المسلمين وعقيدتهم. وهذا ما ينبغي على الباحث المسلم مراعاته عند القراءة في دراسات المستشرقين أو مناقشتهم  حتى لا يحصل الخلل في الفهم والنتائج".

ولى هنا تعليق أرجو أن يتسع صدرك له، ألا وهو أن الباحثين المسلمين لا تفوتهم هذه الملاحظة أبدا، وإلا فهل تستطيع أن تتذكر أن أحدهم مثلا قد عرض عليك ذات مرة الدخول فى الإسلام؟ لا أظن أن هذا قد حصل، وحتى لو كان حصل فهو أمر نادر بل شاذ لا يقاس عليه كما تعرف. ومعنى هذا أنهم يسلِّمون باختلاف وجهات النظر، وهذا راجع فى الأساس إلى ما جاء فى القرآن الكريم من أن كل أهل دين أو شريعة أو مذهب حتى الذين ضلَّ سَعْيُهم فى الحياة الدنيا "يحسبون أنهم يحسنون صنعا" (الكهف/ 104)، ومن أن كل أمة قد زُيِّنَ لها عملها: "ولا تسُبّوا الذين يَدْعُون من دون الله فيسُبّوا اللهَ عَدْوًا بغير علم. كذلك زيَّنّا لكل أمةٍ عملهم. ثم إلى ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون" (الأنعام/ 108)، وراجع إلى قوله سبحانه أيضًا مخاطبًا نبيّه: "ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا. أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟" (يونس/ 99)، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين* إلا مَنْ رَحِمَ ربُّك، ولذلك خلقهم" (هود/ 119)...إلخ. كما أنهم مأمورون من دينهم ألا يحاولوا فرضه على أحد.

على أن هذا لا يمنع أنهم يفرحون بمن يعتنق دينهم، وهو شعور بشرى فطرى لا غبار عليه، وكل منا يحس بالحُبُور حين ينجح فى كسب الآخرين إلى صفه فى أية قضية، بله أن تكون هذه القضية هى الدين! وفى كلامك فى هذا الحوار الذى نحن بصدده ما يشى بفرحتك لأنك استطعت أن تؤثر على الدارسين العرب الذين يشتغلون معك حتى لقد أصبحوا ينظرون إلى الحضارة الإسلامية من زاوية علمانية غير دينية. وهذا نصّ ما قلتَ: "ما هي الفائدةُ التي تترتب على هذه البعثات والدراسات في الكليات الأوروبية؟! وهل هناك حاجة تدعو إلى هذه البعثات من الدول الإسلامية؟! نعم، إِنَّنا لسعداءُ أَن نقبلَ ونُضيفَ طلبةَ العلمِ من الدول العربية لكي يشاركونا في الدراسات الإسلاميةِ، وهي في الغالب تختلفُ من حيث المنهجية عن الدراسات في الجامعات الإسلاميةِ كُلَّ الاختلاف. إنَّ الإقامةَ والدراسة في المعاهد الاستشراقية قد تكونُ مفيدةً لِمَن يستطيع التمييزَ بين المنهجينِ العِلميينِ: الإسلاميِّ كما في بعض الدول العربية والإسلامية، والعَلمانيّ كما هي عندنا في أوربا. لقد شاركني بعض الإخوة من الدول العربية في أبحاثي، وقد استفدتُ من علمهم لأَنَّهم كانوا من المتخرجين من جامعاتٍ إسلاميةٍ، ولديهم إلمامٌ بدرجةٍ ما، وهم في الآنِ نفسهِ تعلّموا مِنّا الاقترابَ اللاديني من هذه الحضارة الإسلامية، التي لا يَشكُّ في عَظَمتِها أَحدٌ من المستشرقينَ المنصفين على المستوى الأكاديمي. والفائدة من هذه البعثات قد تكونُ الحوارَ المتبادلَ الجِدِّيَّ في مسائلِ البحث العلمي من أجلِ المعرفةِ، لا مِنْ أجلِ إقناعِ الطرفِ الآخرِ بأَولويةِ مَعاييرِ دِينه".

لكن أترانى أريد أن أقول إن المسلمين لا يضيقون حين يَرَوْن المستشرقين والمبشرين يهاجمون القرآن؟ أكون كاذبا إذا أجبت بالإيجاب، إذ هم يضيقون بالفعل ضيقًا شديدًا من جرّاء هذا، لكن لا لأنهم يريدون من المستشرق أو المبشر أن يشاركهم الاعتقاد بأن هذا القرآن من عند الله، بل لأنهم يَرَوْن أنهما لا يراعيان، فى كتاباتهما عنه، قواعد العلم والتفكير المنهجى السليم، وأنهما قد دخلا ميدان الدراسات القرآنية بنيّةٍ جاهزة هى التخطئة والانتقاد أيا كان الوضع! هذا هو السبب، ولا سبب غيره فى حدود علمى وملاحظتى. وفى كلامك ذاته ما يومئ بقوةٍ إلى صدق ما ذكرتُ، فأنت تقول إن "الاستشراق يُعالج النصَّ القرآنيَّ وِفقاً لِمَعاييرِ علومِ الدياناتِ العامةِ، وَوفقاً لعلوم التأريخ، فمِن هنا يُمكنُ القولُ: إِنَّ نصَّ القرآنِ في رأي الاستشراقِ ليس إِلاَّ وثيقة تاريخية ثَمينة، باعتباره مبدأً أساسيًّا في إيمان المسلمين وعقيدتهم". معنى ذلك أنك تدخل الميدان، وفى ذهنك أن هذا النص غير مقدس ولا يمكن أن يكون مقدسا، على حين أن الحيادية العلمية تقتضيك أن تدخل بقلب محايد يمكن أن يغير اتجاهه فى أى وقت تبعا لما يتكشف له من الحقيقة أو ما يرى مخلصًا أنه الحقيقة، اللهم إلا إذا قلتَ إن العلم قد انتهى انتهاء مطلقا لا رجعة عنه ولا مثنوية فيه إلى أن الأديان، أو على الأقل: إلى أن الإسلام لا يمكن أن يكون صوابا. فهل يمكنك بوصفك رجلا عالما أن تجزم بهذا؟ وحتى لو كان بعض العلماء الطبيعيين يقولونه، بل لو افترضنا المستحيل وقلنا إن جميع العلماء الطبيعيين يقولون به، أوَيمكنك أنت أو غيرَك أن تقطع بأن هذه هى الحقيقة المطلقة، وضميرك مطمئن؟ إن الأمر فى أسوإ حالاته لهو أمرٌ خلافىّ! وعلى كل حال فليس هناك ما يقطع بأن الرسول محمدا لم يكن فعلا رسولا من عند رب العالمين. وبطبيعة الحال أنا لا أتكلم هنا عن كل المستشرقين بل على قطاع منهم، وإن لم يكن هذا القطاع صغيرا بالمناسبة.

ثم إن كثيرا من العلماء الغربيين يدخلون الإسلام رغم كل الهوان والخزى الذى يحيط بالمسلمين من كل جانب فى هذا العصر العجيب! فلم لا يضع المستشرق من هؤلاء فى ذهنه منذ البداية أنه مقبل على دراسة دين يمكن، رغم كل شىء، أن يتضح أنه دين حق! ونحن، والحمد لله، أكبر من أن نتصور أن سَبْق محمد لنا فى التاريخ وانتماءه إلى مجتمع بدوى متخلف أشواطا هائلة عن مجتمعاتنا المعاصرة، وبخاصة المجتمعات الغربية الصناعية، يسوّغان النظر باستهانة إلى التعاليم والعقيدة والقيم التى أتى بها، فما هكذا يفكر العلماء! وإلا لَنَأَى واحد مثلى بعِطْفه عن دين محمد جانبا (وعن الأديان الأخرى من باب الأولى)، وشمخ بأنفه عاليا، لأنه تعلم تعليما جامعيا راقيا، وسافر إلى أوربا ودرس فى أحسن جامعاتها حتى حصل على الدكتورية، ثم ترقَّى إلى الأستاذية بعد ذلك، وقرأ آلاف الكتب، ويعرف بعض اللغات، وله عدد غير قليل من الكتب...إلى آخر هذا الكلام الذى لا يؤكّل "عَيْشًا" ولا يجوز إلا فى عقول الحمقى والمغفلين الذين أعوذ بالله أن أكون واحدا منهم! فمحمد، إذا كان رسولا حقا، فــ"طُظْ" وأَلْف "طُظْ" فى الشهادات الجامعية والألقاب العلمية والمعارف المختلفة التى حصّلها الإنسان إذا أوعزت إليه الكِبْر على دين الله والكُفْر برسوله. لكن فلنَعُدْ إلى ما كنا بسبيله، وإلا ظُنَّ أنى أنتهز الفرصة لأدخل فى فاصل من العزف الدِّعائى المنفرد، مع أنى لا أحسن الدعوة إلى الدين رغم أنه شرف، وأى شرف! وعلى كل حال فلست أذكر، كما أشرتُ من قبل، أن أحدا من الباحثين، أو حتى المثقفين، العرب أو المسلمين بوجه عام قد فكر فى دعوة نظير له إلى اعتناق دين الرسول الكريم، اللهم إلا المرحوم أحمد حسين زعيم "مصر الفتاة"، الذى وجه رسالة مفتوحة فيما أذكر إلى "الحاج محمد هتلر" شيخ عموم قبائل جرمانيا العظمى، الذى صنّف أمم العالم فكان كرمًا ولطفًا منه أنْ لم ينزل بالعرب إلى مستوى الحيوانات، بل وضعهم هم واليهود قبل الكلاب وسائر العجماوات بدرجة! والله فيه الخير! ولذلك لا ترانا ننبح مثل الكلاب كما لعلك لاحظت أثناء دراستك فى مصر عندما كنت تترك المحاضرات فى الجامعة وتحتكّ بالناس فى الشوارع والدكاكين كى تتأكد أن عدم النباح ليس مقصورا على المتعلمين وحدهم، بل يشمل كذلك العامةَ خارج المعاهد العلمية! ولقد استطاع اليهود أن يأخذوا حقهم ثالثًا ومثلّثًا من الألمان وما زالوا وسوف يظلّون يستنزفون الألمان ودم الأمان إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، أما نحن فناسٌ على نياتنا: كلمة تؤدّينا، وكلمة تجىء بنا! أو بالبلدى: ناسٌ هُبْل (مقلوب "بُلْه" كما يقولون)!

ما علينا من هذا كله! نعود لما كنا فيه مرة أخرى: كنا نقول إن الباحثين العرب والمسلمين، حين يعيبون المستشرقين لانتقادهم القرآن، لا يفعلون ذلك لأنهم يريدون منهم أن يؤمنوا بأنه كتاب سماوى مثلما يؤمنون هم، بل لأنهم يرون أنهم إنما يدخلون الميدان وقد شمروا عن ساعد التخطئة بأية وسيلة، على طريقة الذئب الذى خرج إلى جدول الماء، وهو مصمم ألا يرجع إلى أولاده إلا باثنين ثلاثة كيلو ضأن. لزوم الموسم، كل سنة وأنت طيب، فقد كانت ليلة النصف من شعبان أو شيئا من هذا القبيل! وأنت تعرف باقى القصة، فلا داعى للمضى فيها. ستقول لى: أبدا، فأقول لك بدورى: أَبَدَيْن اثنتين لا أَبَدًا واحدة، وهاك الدليل، ومن كلامك ذاته هذه المرة أيضا!

لقد قلتَ إن نولدكه المستشرق الألمانى "ما يزال يُعتبَر حتى اليوم من كبار المستشرقين المتخصصين في العلوم القرآنية. ولم يكن اقترابُ نولدكه من القرآن اقترابًا مضادًّا للوحي، بل قام بدراسات تحليلية ومنطقية ولغوية للنص نفسه، وأشار إلى ما جاء في النص القرآني من المزايا اللغوية والخصائص. كما أشار إلى بعض الظواهر اللغوية التي  لا تتماشى برأيه مع قواعد اللغة المسلّم بها نظرًا لمعرفتهِ باللغات الساميَّةِ الأُخرى: العِبرْانية، السيريانية، الحبشية، واليمنية القديمة". وإنى سائلك سؤالا بسيطا جدا: ولماذا لم نر مستشرقا، نولدكه أو غير نولدكه، يخطِّئ امرأ القيس مثلا أو طرفة أو حسان بن ثابت كما يخطئون القرآن لو كانت المسألة هى أن رصيفك الألمانى قد حلل أسلوب القرآن وخرج بأنه لا يتماشى مع القواعد اللغوية المسلَّم بها؟ لماذا تخطئة القرآن فحسب؟ فليكن القرآن من عند محمد أو من عند الشيطان نفسه، أيمكن نولدكه أن يزعم أنه يعرف لغة محمد خيرا مما كان محمد يعرفها؟ ولنفترض أنه قد ركبه العناد والغرور، بل بالحَرَى: الجنون، وقال: نعم، أنا أذكى من محمد وأَعْرَف منه بلغة قومه، وأستطيع أن أكتشف أخطاءه الأسلوبية، أَوَتظنّ أنت أن هذا موقف علمى سليم بعد أن لم نر أحدا من العرب المعاصرين لمحمد، مَنْ آمن منهم به ومَنْ لم يؤمن، يخطِّئه فى لغته؟ إن أقصى ما بدر منهم، فى قمة حِرَانهم وردّهم على تأكيده لهم أنهم أعجز من أن يأتوا بسورة من مثله، أن قالوا: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"! ثم إنهم لم يقولوا مثل هذا ولا أفضل من هذا! أما الطنطنة باللغات السامية وغيرها فما دخلها فى الأمر؟ أترى العرب لم يكونوا يتكلمون بشىء من لغتهم إلا بعد الرجوع إلى "مجمع اللغات السامية المقارن" فى سوق عكاظ وأخذ الإذن منه مُوَقَّعًا من نولدكه ومختومًا بخاتمه؟ إننى أحتكم هنا إلى ضميرك العلمى: أهذا الذى حاولتَ الدفاع به من تحت لتحت عن نولدكه كلام منطقى وليس حذلقة علمية يراد بها بصراحة، ودون لف أو دوران، الإيهام بوجود أخطاء فى لغة القرآن؟ فهذا، يا دكتور مورانى، هو الذى يضايق الباحثين العرب والمسلمين، إذ يَرَوْن المستشرقين يخرجون على مناهج العلم وقواعد المنهج عند دراستهم لكتاب الله!

ثم كيف عرف نولدكه يا ترى قواعد اللغة المسلَّم بها؟ هل استقصى كل جوانب اللغة العربية ومضى فطاف بقبائل العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام مَضْرِبًا مَضْرِبًا وسجَّل كل شىء فاهوا به وتأكد أنه لم يترك شاردة ولا واردة من لغتهم إلا غذّى بها حاسوبه، ثم تأكد مرة ثانية أن محمدا قد خرج على ما كانت العرب تنطق به؟ وحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إن نولدكه قد استطاع هذا فعلا، أليس من حق محمد، بوصفه ابنا من أبناء تلك اللغة، أن يشارك فى صنعها وتطويرها مثلما يفعل أى أديب أو كاتب فى أية لغة من لغات العالم قديما وحديثا ومستقبلا؟ ألا يعرف نولدكه أن ما يقوله محمد وأمثاله هو المعيار اللغوى الذى ينبغى أن يقاس عليه لا العكس، وبخاصة أن العرب لم يكونوا قد استخلصوا قواعد لغتهم بعد؟ إننى لا أستطيع أن أنسى كيف كنت فى صغرى سريعا إلى تخطئة ما كنت، لسذاجتى، أحسب أنه هو اللغة الصحيحة الوحيدة، وكيف أنى كلما كبرت واتسع إدراكى اللغوى والأسلوبى اتضح لى أن ما نجهله من اللغة أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف...ما نعرفه. ثم إن اللغة لا يحكمها المنطق الصارم دائما، بل فيها ما فى الحياة من مورانٍ وغليانٍ وتأبٍّ على القوالب الجامدة فى غير قليل من الأحيان. ولا أنسى مثلا أن د. رمضان عبد التواب قد خطّأنى ذات مرة فى ثمانينات القرن الماضى حين رآنى أدافع عن تكرير "بين" مع اسمين ظاهرين، قائلا إن هذا الاستعمال لم يرد فى القرآن، فما كان منى إلا أن رددتُ عليه بعفوية شاب يظن أنه يستطيع أن يفكر أحيانا ويشغّل مخه: ومن قال إن القرآن يستوعب كل الإمكانات اللغوية فى لسان العرب؟ فعاد يقول إن العلماء متفقون على تخطئة تكرار "بين" فى هذا السياق. وبدورى عدت فقلت له: لكن هناك استعمالات تقتضى الكاتب هذا التكرار منعا للَّبس. ثم أعطيته مثالا سريعا خطر لى آنذاك. وانتهت المناقشة دون أن نتفق على شىء.

وتصادف أنى كنت أقرأ فى أحد كتب التفسير بعدها بفترة قصيرة (ولعله تفسير البيضاوى) فألفيته يقول إن هذا الاستعمال صحيح، وإن لم يكن حسنا. فكتبت هذا النص وأعطيته له. ثم تصادف مرة أخرى بعدها بشهور طويلة أن كنت أقرأ فى تفسير الطبرسى حين وقعتُ على بيتين جاهليين تكررت فيهما "بين" فى هذا السياق أيضا، فكتبتهما وزوّدته بهما. لكنى فوجئت بطلابى يقولون بعدها بقليل إن سيادته يؤكد لهم أن هذا الاستعمال خاطئ تماما، وهو ما اضطرنى إلى أن أحكى لهم، وأنا أضحك، القصة كلها من "طق طق" لــ"سلام عليكم"، لكنهم لم يقتنعوا. "طُظْ" فيهم وفى عدم اقتناعهم! ثم مرت الأيام، وذهبتُ فى إعارة للسعودية، وبينما كنت أكتب فصلا هناك عن "معجم البلدان" لياقوت الحموى، خطر لى بعد الفراغ من البحث أن أراجع، فى ذلك المعجم، الأبيات الشعرية التى كان الشعراء الجاهليون والإسلاميون يحدّدون فيها مواقع أطلال حبائبهم مستخدمين كلمة "بين" لأفاجأ بأنهم كانوا يكررونها أحيانا مع الاسمين الظاهرين. وقد وضعت يدى وقتها على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى، وأوردت معظمها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية"، وحكيت القصة باختصار ودُون ذكر أسماء فى الفصل الخاص بكتاب ياقوت. لكن المضحك أكثر أننى عندما عدت من السعودية وأطلعت الأستاذ الدكتور على الشواهد التى وصلتُ إليها كان رده: وهل راجعتَها فى دواوين الشعراء أنفسهم؟ فقلت له: كلا. ولكن لماذا؟ فكان جوابه أن ياقوتا كثيرا ما كان يخترع مثل هذه الأبيات!!! فقلت له: وهل تظن يا دكتور أن ياقوتا كان يضع فى ذهنه منذ ذلك التاريخ أنك ستكون من الذين يقولون بخطإ هذا الاستعمال، فاخترع كل تلك الأبيات كى يغيظك مقدما، ثم سكت عليه العلماء طوال هاتيك القرون فلم يفضحوا تدليسه؟

وعلى أية حال هأنذا أسوق هنا للقراء الكرام بعض الشواهد على هذا التركيب من شعر عصور الاحتجاج، وهى مستقاة من "الموسوعة الشعرية" القرصية هذه المرة لا من ياقوت المتهم بالتدليس ظلما وعنادا، وأغلبيتها الساحقة شواهد جديدة. من ذلك قول الأخطل:

وَكَأَنَّما نَسِيَتْ كُلَيبٌ عَيْرَها     بَينَ الصَريحِ وَبَينَ ذي العُقّالِ

وقول الأعشى:

هُوَ الواهِبُ المُسمِعاتِ الشُّرو      بَ بَينَ الحَريرِ وَبَينَ الكَتَن

وقول الشَّنْفَرَى:

خَرَجْنا مِنَ الوادي الَّذي بَينَ مِشْعَلٍ      وَبَينَ الجَبا. هَيهاتَ أَنشَأتُ سُرَبتي

وقول العجير السَّلُولِىّ:

 

أَبـلِـغ كُلَيْبًا بأنَّ الفَجَّ بينَ  صَدَىً
وَلِـلـعـادِياتِ القَهْقَرى بين  رِيِّهِ

وبـيـنَ  برقةِ هُولي غيرُ مسدودِ
وبينَ الوِحافِ مِن كُماتٍ وَمِن شُقْرِ

وقول الفرزدق:

وَطِئَتْ جِيادُ يَزيدَ كُلَّ مَدينَةٍ   بَينَ الرُدومِ وَبَينَ نَخلِ وَبارِ

وقول النمر بن تولب:

بَـيـنَ الـبَدِيِّ وَبَينَ بُرقَةِ  ضاحِكٍ
يـا  وَيلَ صُهْبى قُبَيلَ الريحِ  مُهذِبَةً

غَـوثُ الـلَـهـيفِ وَفارِسٌ  مِقدامُ
بَينَ النِجادِ وَبَينَ الجَزْعِ ذي الصوحِ

وقول النميرى:

تَراءَت لَنا يَومَ فَرعِ الأَرا        كِ بَيْنَ العِشاءِ وَبَيْنَ الأَصلْ

وقول امرئ القيس:

قَعَدتُ لَهُ وَصُحبَتي بَينَ ضارِجٍ     وَبَينَ تِلاعِ يَثلُثٍ فَالعَريضِ

وقول بشار:

بَينَ أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الــ
*             *              *
بَينَ  أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الــ
*             *              *
فَـشَتّانَ  بَينَ العامِرِيِّ اِبنِ  واقِدٍ
*             *              *
فَـلَـهُ زَفـرَةٌ إِلَـيـكِ  وَشَوقٌ






عَـبّـاسِ ذاكَ الشِتا وَذا  المَطَرُ
*             *              *
عَـبّـاسِ  مِثلُ الرِئبالِ مُحتَجِبا
*             *              *
وَبَينَ اِبنَةِ الزَيدِيِّ إِذ كامَها  عَفدا
*             *              *
حـالَ بَينَ الهَوى وَبَينَ  الهُجودِ

وقول توبة بن الحميّر:

وقسورةَ الليلِ الذي بينَ نصفهِ        وبين العِشاء قد دأبتُ أسيرُها

وقول حاتم الطائى:

أَيُّها المُوعِدي، فَإِنَّ لَبُوني          بَينَ حَقلٍ وَبَينَ هَضبٍ ذُبابِ

وقول حسان بن ثابت:

نَغدو بِناجودٍ وَمُسمِعَةٍ لَنا       بَينَ الكُرومِ وَبَيْنَ جَزْعِ القَسطَلِ

وقول عامر بن الطفيل:

وَسَعَّت شُيوخُ الحَيِّ بَينَ سُوَيقَةٍ          وَبَينَ جَنوبِ القَهرِ ميلَ الشَمائِلِ

وقول عبيد بن الأبرص:

إِلى ظُعُنٍ يَسلُكنَ بَينَ تَبالَةٍ        وَبَينَ أَعالي الخَلِّ لاحِقَةِ التالي

وقول عدى بن يد:

وَجاعِلُ الشَمسِ مِصْرًا لا خَفاءَ بِهِ      بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيلِ قَد فَصَلا

وقول عمر بن أبى ربيعة:

حَيِّ المَنازِلَ قَد تُرِكنَ خَرابا       بَينَ الجُرَيْرِ وَبَينَ رُكنِ كُسابا

وقول قيس بن الخطيم:

بَينَ بَني جَحْجَبي وَبَينَ بَني        كُلفَةَ أَنّى لِجارِيَ التَلَفُ؟

وقول كعب بن مالك:

فلْيأتِ مَأْسدَةً تُسَنُّ سُيُوفُها        بينَ المذادِ وبين جِزعِ الخَنْدقِ

وقول لبيد بن ربيعة:

 

بَينَ اِبنِ قُطْرَةَ وَاِبنِ هاتِكِ عَرشِهِ
فَـالـتَفَّ  صَفْقُهُما وَصُبْحٌ تَحتَهُ

مـا  إِن يَـجـودُ لِوافِدٍ بِخِطابِ
بَـينَ  التُرابِ وَبَينَ حِنْوِ  الكَلكَلِ

وقول يزيد بن معاوية:

مُقابِلَةً بَينَ النَبِيِّ مُحَمَّدٍ        وَبَينَ عَلِيٍّ وَالجَوادِ اِبنُ جَعفَرِ

وقول أوس بن حجر:

أَم مَن لِقَومٍ أَضاعوا بَعضَ أَمرِهِمِ
عَـلاةٍ كِـنازِ اللَحمِ ما بَينَ  خُفِّها

بَـينَ القُسوطِ وَبَينَ الدينِ  دَلْدالِ؟
وَبَـينَ مَقيلِ الرَحلِ هَولٌ  نَفانِفُ

ثم مثال آخر وأخير على ما أقول: فقد قرأ د. صلاح كَزّارة (زميلى السورى هنا بجامعة قطر) منذ عامين كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وهو عالم مدقق (ومن تلامذة الدكتور فشر، ويثنى كسائر تلاميذ هذا المستشرق عليه ثناء شديدا)، وإذا قرأ شيئا أمسك تلقائيا بقلم رصاص وأخذ يدون ملاحظاته على ما يقابله، فوجد لى هذه الجملة: "من هنا فإننا من الوجهة التاريخية الموثقة نجد أنفسنا، كلما اقتربنا من هذه المسألة، نصطدم بالصمت"، فما كان منه إلا أن صححها فى الهامش إلى "اصطدمنا" قائلا إن من غير المقبول استعمال المضارع فعلاً أو جوابًا لــ"كلما". فقلت له: غريبة أنى استخدمت المضارع هنا رغم أنى لم أكن على وعى بهذا الذى تقول، إذ أشعر أن هذه ليست طريقتى فى الكتابة. ثم عدت فنظرت فى التركيب فوجدت أنه، حتى لو سلّمنا بما يقول، فإن المضارع فيه لم يأت جوابا لــ"كلما"، بل هو خبرٌ للفعل "نجد"، على حين أن "”كلما” وفِعْلها" عبارة اعتراضية. وزِدْتُ على ذلك أَنْ أوردتُ له من أحد المعاجم النحوية شاهدا على مجىء جواب "كلما" فعلا مضارعا، لكنه قال إن هذا الشاهد، فيما يبدو، من الشعر الحديث لا القديم، ومن ثَمَّ لا يجوز الاحتجاج به. فسكتّ، وماذا كان بإمكانى أن أصنع؟ ثم مضت الأيام، وهززت رأسى، وهى حركة ذات دلالة خطيرة، إذ تعنى أننى شرعت أفكر تفكيرا مستقلا، ويمكننى إذن أن أصل إلى شىء جديد. وقد كان، فقد رجعت للموسوعة الشعرية القُرْصِيّة وبحثت فيها، فإذا ببنت الحلال (أى الموسوعة، فلا يذهبنّ ذهن القراء بعيدا) تقدّم لى فى دقيقة أكثر من عشرة شواهد من الشعر القديم على استعمال المضارع مع "كلما". وقد أخذتُ الشواهد فى اليوم التالى إلى الزميل المذكور الذى لم يُحْوِجْنى إلى طويل جدال، بل سلّم من الوهلة الأولى قائلا ببساطة عظيمة: "إذن فما كنا نقرؤه عن خطإ هذا الاستعمال لا أصل له"! فهذا، يا دكتور مورانى المحترم، هو الموقف العلمى السليم لا الطيران إلى تخطئة القرآن الكريم بحجة أن نولدكه كان يعرف اللغات السامية!

وها أنذا أورد بعض تلك الشواهد التى عثرت عليها من عصور الاحتجاج على استعمال المضارع مع "كلما". فمن ذلك قول أبى نواس:

صَهباءُ تَبني حَباباً كُلَّما مُزِجَت       كَأَنَّهُ لُؤلُؤٌ يَتلوهُ عِقيانُ

وقول الأخطل:

يَخْشَيْنَهُ كُلَّما ارتَجَّت هَماهِمُهُ      حَتّى تَجَشَّمَ رَبْوًا مُحْمِشَ التَعَبِ

وقول الأعشى:

تَخالُ حَتْمًا عَلَيها كُلَّما ضَمَرَتْ      مِنَ الكَلالِ بِأَن تَستَوفِيَ النِّسعا

وقول الفرزدق:

إِذا حارَبَ الحَجّاجُ أَيَّ مُنافِقٍ       عَلاهُ بِسَيفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ

وقول الكُمَيْت بن زيد:

تكاد العُلاة الجَلْس منهن كلما      تٌِرمرمُ تُلقِي بالعَسِيب قَذَالَها

وقول جرير:

بانَ الخَليطُ بِرامَتَينِ فَوَدَّعوا        أَو كُلَّما رَفَعوا لِبَينٍ تَجزَعُ؟

وقول حُمَيْد بن ثور:

وَما لِفؤادي كُلَّما خَطَرَ الهَوى      عَلى ذاكَ فيما لا يواتيهِ يَطمَع؟ُ

وقول خفاف بن ندبة السلمى:

جُلْمودُ بصرٍ إِذا المِنقارُ صادَفَهُ        فَلَّ المُشَرْجَعُ مِنها كُلَّما يَقَعُ

وقول عمر بن أبى ربيعة:

إِذا زُرتُ نُعْمًا لَم يَزَل ذو قَرابَةٍ

كُـلَّـمـا تـوعِـدُني  تُخْلِفُني

يَـجري عَلَيها كُلَّما اغتَسَلَتْ بِهِ

لَـهـا كُـلَّـمـا لاقَيْتُها  يَتَنَمَّرُ

ثُـمَّ  تَأتي حـيـن تَأتي  بِعُذُر

فَضْلُ  الحَميمِ يَجولُ  كَالمَرْجانِ

وقول كعب بن زهير:

أَلا لَيتَ سَلمى كُلَّما حانَ ذِكرُها       تُبَلِّغُها عَنّي الرِياحُ النَوافِحُ

وقول لبيد بن ربيعة:

نَعْلوهُمُ كُلَّما يَنمي لَهُم سَلَفٌ         بِالمَشرَفِيِّ وَلَولا ذاكَ قَد أَمِروا

وقول مجنون ليلى:

فَـلَو  كانَت إِذا احْتَرَقَتْ  تَفانَتْ

فَـيـا  لَيتَ أَنّي كُلَّما غِبتُ لَيلَةً

وَطالَ امتِراءُ الشَوقِ عَينِيَ  كُلَّما

وَلَـكِـن  كُـلَّما اِحتَرَقَتْ  تَعودُ

مِنَ الدَهرِ أَو يَوْمًا تَراني عُيونُها

نَـزَفـتُ  دُموعًا تَسْتَجِدُّ  دُموعُ

المهم بالنسبة لما نحن فيه الآن أنها قد أصبحت تقليعة بين طائفة من المستشرقين أن يأخذوا فى تخطئة القرآن أسلوبيا ولغويا بغشمٍ مضحكٍ يذكِّرنى بما تهكم به الشدياق على أمثالهم فى بعض كتبه. ومن هؤلاء ريجى بلاشير، الذى وقفتُ فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن" إزاء ما قاله فى هذا الصدد، وبينتُ مقدار السخف والتنطع فى تخطئاته للقرآن. ثم لم يفت محمد أركون الجزائرىَّ العربىَّ لسانا رغم أصله البربرى أن يجرب حظه هو أيضا فى هذا المجال حتى لا يُتَّهَم بأنه مقصِّر فى الهجوم على كتاب الإسلام! فوجدناه يردد، بجهلٍ طفولىٍّ أرعنَ، ما قاله بلاشير فى ترجمته للقرآن المجيد من أن قوله تعالى (أو قول محمد إذا أحببتَ) فى سورة "الكهف": "ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين، وازدادوا تسعا" هو خروج على الاستعمال الصحيح للأعداد مع التمييز...إلخ  مما دفعنى إلى تبيين جهله للقراء وأنه يهرف بما لا يعرف رغم الطنطنة الدعائية التى يحاط بها لتسويقه بين العرب والمسلمين بوصفه أستاذا جهبذا عبقريا لم تلده ولاّدة (ليست ولاّدة بنت المستكفى كما لا أحتاج إلى توضيح، بل الولاّدة التى تولِّد السيدات). وهذا نص ما كتبتُه عن هذا الموضوع ضمن دراسة لى تناولتْ ما قاله ذلك العبقرى فى القرآن بعنوان "المهزلة الأركونية فى المسألة القرآنية: القرآن مخيال جماعى أم وحى إلهى؟": "كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم: "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص"  كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). ثم يضيف درويشه المتيَّم هاشم صالح فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء". يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة! … إن بلاشير، وأركون مِنْ ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى. لكن هذا، وإن كان هو ما يعرفه التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر  الجمعُ اشتهار الإفراد. وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء. إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه لأنه لا يحدث فى أية لغة فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله! وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاث مئاتٍ من السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية.

 وأحب أن أقف عند التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون: فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً. إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة. ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا: "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية: "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا…

 وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل:

فكان فيها ما أتاك وفى     تسعين أسرى مقرنين وصُفَّد

وقول عمرو بن كلثوم:

رددت على عمرو بن قيس قلادة      ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب

وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:

إذا عاش الفتى مائتين عامًا         فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ

وقول عمر بن أبى ربيعة:

أَبْرَزُوها مثلَ المهاة تَهَادَى          بين خمسٍ كواعبٍ أترابِ

وقول السيد الحِمْيَرى:

ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا         عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا

وقول الوليد بن يزيد:

بَينَ خَمْسٍ كَواعِبٍ        أَكرَمُ الجِنسِ جِنسُها

وقول أبان اللاحقى:

يُجْرِى على أولاده خمسة      أرغفةً كالريش طيارة

وقول ابن المعتز:

وأجّلونى خمسةً أياما         وطوّقونى مثلكم إنعاما

وقول ابن أبى الحديد:

عام ثلاث ثم أربعينا         من بعد ستمائةٍ سنينا

وقول إبراهيم الحضرمى:

وخمس مثين بعد خمسين درهما

وقول أحمد بن مأمون البلغشى:

من عام خمسة وأربعينا       بعد ثلاث عشرةٍ مئينا

وقول أحمد بن على بن مشرف:

إلى ثلاثمائةٍ سنينا       يخادعون الله والذينا

غير أنى لا أكتفى بهذا على كفايته، بل أُضِيفُ إليه الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس"، وقد يبدو ذلك غريبا، فالمفروض أن أربأ بالقرآن عن أن يكون أىُّ شىء آخر حاكمًا عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصومٍ سخفاءَ لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتابٌ نصرانىٌّ كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه. جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18)".

وبالنسبة لقولك، يا دكتور مورانى، عن بُوهْل ودعواه بتحريف القرآن: "وأَمَّا بحث Buhl حول تحريف القرآنِ فلم أَجدِ المصدرَ المذكور إلى الآن، لأَنَّ ما بأيدينا هو "دائرة المعارف الإسلامية" الجديدة ، وليس فيها هذا"، فقد رجعتُ إلى مادة "قرآن" التى كتبها هذا المستشرق فى "Shorter Encyclopaedia of Islam" (ط. بريل ولوزاك/ 1961م)، فوجدته يقول إن الوحى الذى كان محمد يتلقاه ليس هو القرآن الذى نقرؤه الآن، إذ يدَّعِى أن ذلك الوحى قد أعيدت صياغته بحيث أخذ الشكل الحالىّ المسجوع (ص 273/ النهر الأول). كما جاء أيضا فى مادة "محمد" بنفس الموسوعة وبقلمه هو نفسه كذلك أن ما كان محمد يسمعه من وحى ليس هو ما نراه اليوم فى القرآن، إذ كان لا يتلقى إلا الأساسيات، التى كان يتوسع فيها فيما بعد (393/ 2، و394/ 1). فهل هذا كلام علمى؟ أم هو، كما ينبغى أن نصفه دون أدنى تردد، كذب وتدليس واختراع حاقد سخيف؟وإلا فكيف عرف بوهل بما كان يحدث؟ أكان يتجسس على محمد من ثَقْب الباب فيراه وهو يبدّل ويحوّل فى النص القرآنى، وقد تصبب العرق من جبهته، وزوجته تسعفه بأكواب عصير الليمون البارد "لزوم ترويق الدم" حتى يستطيع أن يُتِمّ المهمة الشاقة؟ إن ذلك لو كان حدث كما يزعم بوهل لشنّع به الكفار تشنيعا رهيبا على النبى الكريم ولأبدى المسلمون استغرابهم على الأقل وتساءلوا عن السبب الذى حدا به إلى تغيير نصوص الوحى على هذا النحو! ثم هل عثر بُوهْل على شىء من نصوص الوحى الأصلية حسب زعمه الأخرق جَعَله يقول ما قال؟ أم على الأقل هل هناك رواية فَهِم سيادته منها هذا؟ إنه لا هذا ولا ذاك، لكن الشياطين لا يستحون! وإلا فما الذى يمكن قوله فى رجل يأتى بعد أربعة عشر قرنا فيدَّعى حدوث أشياء قبل هذه القرون المتطاولة لم يذكرها أحد أيا كان، ولا أثارها أحد أيا كان؟

 إن العجيب أن يقول بوهل عن القرآن إنه، عند نزوله، لم يكن ذا فواصل، مع أن المستشرقين، ومنهم بوهل نفسه، يتهمونه صلى الله عليه وسلم بأنه كان يسجع فى القرآن (أى منذ بداية الدعوة) تقليدا للكهان (المرجع السابق/ 293/ 2، و27/ 2). فأىّ تناقض هذا؟ ألا يرى القارئ أن الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم هى المقصودة فى الحالتين؟ ثم أليست هذه، يا دكتور مورانى، وأرجو ألا تغضب منى، هى السفاهة بذاتها وعينها وقضّها وقضيضها؟ يا أستاذ بوهل، أنت حرٌّ فى كفرك بمحمد، لكنك (ثلاثة أيمان بالله العظيم) لستَ حرًّا فى هذه المزاعم الكاذبة التى لا يقبلها العلم فى أى مكان أو زمان وتحت أىّ مسوِّغ! وأرجو مرة أخرى ألا تغضب منى يا دكتور مورانى! لاحظ أننى لم أطالب بُوْهل بالإيمان بالقرآن، وكذلك لن أطالبه أبد الآبدين، على الأقل لأنه مات منذ وقت طويل وشبع موتا! ويمكن القراءَ الكرامَ أن يرجعوا، بغية المزيد من التفصيل فى هذه النقطة، إلى كتابىَّ: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى" (مكتبة زهراء الشرق/ القاهرة/ 1417هـ- 1997م/ 190- 196)، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" (مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1491هـ-  1989م/ 7- 9).

كذلك يكذب بوهل حين يزعم أن علماء النفس يوافقون المؤلفين البيزنطيين الذين اتهموا الرسول عليه السلام بأنه لم يكن ينزل عليه وحى ولا يحزنون، بل كان مصابا بالصَّرْع، وإن حاول المستشرق الماكر بعد هذا أن يتظاهر بالحياد والتواضع قائلا: "إن علينا بطبيعة الحال أن نترك لأولئك المحللين مهمة تحديد الطبيعة الدقيقة لحالته" (393/ 2)، وذلك دون أن يذكر لنا أسماء هؤلاء المحللين النفسانيين المزعومين، ولا على أى أساس قالوا ذلك إن كانوا قالوه فعلا، وهل عُرِضَتْ عليهم أعراض الوحى التى كانت تنتاب الرسول عليه الصلاة والسلام حين نزول القرآن عليه عرضًا أمينًا. وقد كان جيبون حاسما فى وصف هذا الاتهام للرسول عليه السلام بالصَّرْع بأنه "ادعاء سخيف من اليونانيين" (Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, William Benton, Chicago- London, 1978, Vol.  , P. 243)، كما رفض وليم موير تفسير ظاهرة الوحى بالصَّرْع قائلا إن نوبة الصَّرْع تمنع المصروع من تذكر ما مر به أثناءها (Sir William Muir, Life of Mohammad, John Grant, Edinburgh, 1912, PP. 14- 29). ولقد استقصيت بنفسى أعراض الصَّرْع فى أحد المعاجم الطبية الإنجليزية وفى "دائرة المعارف البريطانية" فلم أجد شيئا منها ينطبق على حالة النبى الكريم، مما يعزز ما قلتُه فى بوهل حين وصفت ما صنعه بأنه كذب! ومن الممكن للقارئ أن يراجع ما كتبتُه فى هذا الصدد بالتفصيل فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" (ص 28- 32).

 أترى ما فعله بوهل، يا دكتور مورانى، هو من العلم فى شىء؟ إننا لا نطالبه هو ولا غيره بالإيمان بأن القرآن وحى إلهى، بل نستسمحه ونقبّل رأسه حتى يقبل ألا يكذب، على الأقل ألا يكذب هذا اللون من الكذب المفضوح الذى لا يمكن تجميله! أترى هذا شرطا تحكميا من جانبنا؟ وهأنتذا ترى، يا دكتورنا العزيز، أن الخلاف بيننا وبين بوهل، وما بوهل إلا مثال، هو خلاف فى تطبيق المنهج العلمى والالتزام بالقيم العلمية، وهذا كل ما هنالك! إننا لم نقل له مثلا إن محمدا رسول من عند رب العالمين، ومن ثم لا ينبغى أن تتهمه بالصَّرْع، بل  قلنا له إن أعراض الصرع لا تصدق على حالته، وإنك حين زعمت أن المحللين النفسانيين قد أثبتوا أن حالته هى فعلا حالة المصاب بهذا المرض كنت تكذب، فضلا عن أنك سرعان ما فضحت نفسك حين قلت: فلندعْهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة، وهو ما يعنى بكل صراحة أنهم لم يقولوا بعد شيئا فى هذا الموضوع! وفى النهاية أحب أن أذكر أن كتّاب مادة "MOHAMMED" فى "JewishEncyclopedia.com" يتهمون هم أيضًا الرسول عليه السلام بأنه كان يعانى منذ صغره من الإصابة بالصَّرْع، أى أن ما يسمَّى بنزول الوحى عليه لم يكن إلا نوباتٍ صَرْعِيّةً تعتريه! ولم لا يفعلون هم أيضا يا ترى، وقد هُزِلَتْ حتى سامها كلُّ مُفْلِس؟

شىء آخر يفعله المستشرقون بالقرآن ولا يتفق مع المنهج العلمى، وليس فى انتقادنا له أدنى دلالة على أننا نحن المسلمين نريد منهم أن يعاملوه بوصفه كتابًا سماويًّا، وهو ما يُقْدِم عليه بعضهم من ترتيب القرآن ترتيبا يقولون إنه ترتيب تاريخى. ووجه مخالفة هذا الصنيع للمنهج العلمى أن مؤلف "ذلك الكتاب" (كما تسمون الرسول الكريم) قد وضعه على الترتيب الذى أمامنا الآن، وعلينا نحن الدارسين أن نحترم ترتيبه. ثم لماذا لم نر أحدا منكم أتى للكتاب المقدس ورتبه تاريخيا مثلما يفعل بعضكم مع القرآن؟ وممن فعل هذا بكتاب الله داود ورودويل، وكذلك بلاشير فى الطبعة الأولى من ترجمته للقرآن. وهذه مجرد أمثلة.

وما دمنا نتكلم عن بلاشير، أيصحّ فى نظر العلم أن يُقْدِم هذا الرجل على إضافة جملتَىْ: "إنهن الغرانيق العُلَى* وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى" إلى ترجمته لسورة "النجم"، وهما الجملتان اللتان تمدحان أوثان قريش واللتان يقال فى إحدى الروايات إن الشيطان قد ألقاهما فى القرآن ثم حُذِفَتا فى الحال؟ أنا لا أريد الآن أن أجادل فى مدى صحة هاتين الجملتين من الناحية القرآنية، بل سأفترض أنهما كانتا فعلا جزءا من القرآن! لكن ألم يحذف مؤلف القرآن (كما تسمون النبى محمدا) هاتين الجملتين من كتابه؟ وعلى هذا ألم يكن من الواجب الالتزام بالنص كما انتهى إلينا؟ أليس هذا هو ما يطالبنا به العلم؟ ثم إن كان الدكتور بلاشير لا يطيق سكوتا على هذه المسألة، ويرى أن الدنيا لن يصلح حالها إلا بالإشارة إلى ما كان رغم أنه ليس إلا رواية واحدة من روايات فى هذا الصدد، فضلاً عن أنها رواية لا تدخل العقل كما سيتضح حالا، لقد كان له فى الهامش مندوحة يقول فيها ما يشاء دون أن يسىء إلى النص أو إلى أمانة العلم! ( Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, 1957, P.561)

وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يُعْقَل أن يبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى: " ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره!  كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل!

هذا، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة. كيف ذلك؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج  و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : "وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع ، تغنى ، يملك ".

كذلك فقد بدأتْ مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم ...؟"، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد  التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما؟ قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟" (يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 10)، " أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" (الواقعة/ 68– 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟  وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة إلى اسمٍ مُضْمَر) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".

وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ "ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) إلا مع زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله  كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم  السفهاء/ إنه هو التواب  الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب  الرحيم/  إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم  الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/  وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم  العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.

مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن  كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.

ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم" وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحـــديث إلى المـدح بـدلا من الــذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك  الباب. ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة  كنت من شهودها، إذ كان رئيسٌ ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: "إن ما بينى وبينك عميق!"، فما كان من زميلٍ معروفٍ بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ  لا  يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه! ومن ذلك  أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن "وراء كل عظيم امرأة"، يجيبهن مرة: "طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة لـه"، ومرة : "فعلا وراءه، والزمان طويل" ، ومرة : "وراءه مسوِّدة عيشته" ... وهكذا .

كذلك زعم "بلاشير" أن سورة "الكهف" قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف جنابه أن الآيات 9- 25 من سورة "الكهف" ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها. بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتان 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16، عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحدٌ أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها (Blachere, Le Coran, PP. 318- 319). من الذى أفتى لبلاشير بهذا؟ لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف! وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أَوَلم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له؟ لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ على أن يتعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى. ومن هنا أراد بلاشير أن يكون هو "الفأر الزردوق" الذى يعلّق الجُلْجُل فى رقبة القط ويحصل له الشرف، شرف الإساءة إلى العلم والحق، بل إلى الشرف نفسه!

وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة البلاشيرية: "أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1) - "نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2). والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟ إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا! ثم كيف عرف سيادته بما جرى؟ أهو من ضاربى الودع ومُوَشْوِشِى الذَّكَر وفاتحى المنَْدَل؟

والآن نحب أن ننظر فى أمر هذا البلاشير لنرى مدى تمكنه من اللغة التى يتجرأ ذلك التجرؤ العجيب على كتابها المقدس كى نعرف هل تؤهِّله معرفته إياها لمثل هذا التجرؤ أو لا، وسوف يكون فَحْصِى لقدرته من خلال ترجمته لهذا الكتاب ذاته ومدى فهمه له: إنه مثلا يترجم "ألا" الاستفتاحية فى كل مواضعها من القرآن المجيد على أن معناها: "أليس...؟"، فمثلا "ألا إنهم هم السفهاء!" (البقرة/ 11) تتحول على يديه المباركتين إلى "أليسوا هم السفهاء؟"، و"ألا لعنة الله على الظالمين!" (الأعراف/ 21) تصبح "أليست لعنة الله على الظالمين؟"...وهلم جرا. أما كلمة "كبيرة" فى قوله تعالى عن أولئك الذين لم يستطيعوا أن يستوعبوا مغزى تحويل القبلة فى المدينة من الشَّمال ناحيةَ بيت المقدس إلى الجنوب جهةَ الكعبة المشرفة: "وإنْ كانت (أى مسألة تحويل القبلة) لَكبيرةً إلا على الذين هَدَى الله" (البقرة/ 143)، أى أمرًا كبيًرا لا يفهمون بعقولهم الغبية العنيدة مغزاه ولا يسهل على نفوسهم فيه تقبل حكم الله، فإنه بذكائه الحاد يترجمها على أساس أن معناها: " كبيرة من الكبائر". وفى قوله سبحانه من نفس الآية: "وما كان الله لِيُضِيع إيمانكم"، أى لا يمكن أن يظلمكم، يترجمها السيد السَّنَد بمعنى "إن الله لا يستطيع أن يضيع إيمانكم". أى أنه فى الوقت الذى تنفى فيه الآية عن الله الظلم، ينفى بلاشير عنه سبحانه الاستطاعة! كما أنه فى قوله تعالى: "قل: يا أهل الكتاب، تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تَوَلَّوْا فقولوا :اشهدوا بأنا مسلمون" (آل عمران/ 64)، يترجمه بما يجعل معناه: "تعالوا إلى كلمة سواء: أننا، مثلَكم، لن نعبد إلا الله"، محوِّلاً الآية هكذا من التبكيت للنصارى ودعوتهم إلى نبذ التثليث واتباع سنة الإسلام فى التوحيد الذى جاء به المسيح عليه السلام من قبل فحرّفوه، إلى العمل على استرضائهم وجعلهم هم الأصل الذى يتعهد الرسولُ بأن يضعه نصب عينيه ويحتذيه! كذلك ففى قوله سبحانه مخاطبا الرسول: "وإمّا يُنْسِيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (الأنعام/ 68)، بمعنى أنه إن حدث أيها المؤمنون أن نسيتم فلم تغادروا المجالس التى يستهزئ فيها المشركون بآيات الله، فلا تكرروها بعد ذلك، نراه يترجمها بــ"ولسوف ينسيك الشيطان هذا النهى بكل تأكيد..."...إلخ. ويستطيع القارئ أن يجد أمثلة أخرى لهذه الأخطاء البلاشيرية العبقرية فى كتابى "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه" (دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 55- 66). والغريب بعد ذلك كله أن نجد لبلاشير كتابا فى النحو العربى (بالاشتراك مع ديمومبين)، فكيف يكون الحال لو لم يكن مؤلفا لمثل هذا الكتاب؟

هذا ما عنّ لى أن أكتب به إليك، والآن أتركك فى رعاية المولى وحفظه، مع تمنياتى الطيبة، والسلام!