دوامة المصطلحات بين جيلين
دوامة المصطلحات بين جيلين
نبيل شبيب
إنّ من أخطر ما يصنعه جيلنا المعاصر أنّه لا يورّث جيل المستقبل -وهو مناط بناء المستقبل لا نحن- عواقبَ ما صنعناه من كوارث ونكبات فحسب، بل يورّثه أيضا دوّامة المصطلحات، التي إن سقط فيها كما سقطنا، بقي غارقا في الخلاف حول الكلمات كما غرقنا، وهيهات أن يتحقّق هدف النهوض، دون أن تنصبّ عليه الجهود، لا الكلمات، عملا وإنجازا، فليس الكلام ما يصنع النهوض، ولكن يمكن أن يعيقه، بأن يشغل عن العطاء والإنجاز التراكمي المطلوب بلا انقطاع.
بناء المستقبل لا يتحقّق إلاّ جماعيا، فلا مستقبل لفئة، أو تيّار، أو طائفة، أو تنظيم، أو فرد من الأفراد، بمعزل عن مستقبل سائر الفئات والتيّارات والطوائف والتنظيمات والأفراد الآخرين. وقد يختلف العاملون وهم يعملون فيتحقّق الإنجاز ويكمل بعضه بعضا، ويقع الخطأ ويجد التصحيح، إنّما يستحيل العمل عند انتظار الشروع فيه إلى ما بعد تجاوز الاختلافات، فتغييبها هو المستحيل.
إنّما يتطلّب العمل الجماعي -رغم الاختلاف- أرضيّة مشتركة تضبط بقواعد مشتركة المنطلقات والمسيرة والأهداف، والتعامل من وراء الاختلاف بتلك القواعد. وليس من سبيل للوصول إلى ذلك دون حوار وتفاهم، وبالتالي لا مندوحة عن تثبيت قاعدة أولى بسيطة وبالغة الأهمية، أن تُفهم الكلمة عند سامعها أو قارئها على نحو مطابق لمقصد قائلها أو كاتبها، سواء اتفق الطرفان على تأييد مضمونها أم اختلفا.
والمصطلح هو ما اصطلح على دلالته المتخصّصون في باب من أبواب التخصّص، فيسري مفعوله نتيجةَ منهجيّةِ تثبيتِ المفهوم لمضمونه، ووضوح دلالته، والالتزام به. وذاك ما كان عليه الأقدمون من هذه الأمّة، عند مطلع نهضتها الأولى، وطوال مراحل تلك النهضة من بعد، وكانوا يطلقون كلمة المواضعة على ما نسمّيه المصطلح، فهو ما تواضع عليه الحكماء، كما وصفوا المتخصّصين في كل باب من أبواب العلم والمعرفة.
هذا ما نشأت عليه العلوم الإسلامية الأولى، وتابعت خطاه سائر العلوم من بعد، كالطب والفلك والفيزياء والرياضيات، وما تزال المصطلحات التي ثبّتوا دلالاتها آنذاك، سارية المفعول إجمالا حتّى اليوم. ومن فضل القول التنويه هنا بأنّ المقصود بهذا الحديث ليس البحث في مصطلحات العلوم الطبيعية والتقنية، وهي قليلا ما تتعرّض للاختلاف والتزييف، بل مصطلحات ما يُسمّى العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والآداب والثقافات والأفكار والسياسة والاقتصاد وغيرها. المقصود ما يُؤثّر في الإنسان نفسه وفي تصوّراته ومناهجه وقيمه وثقافته وأذواقه وأخلاقه وأساليب عمله وتعامله مع سواه، وذاك ما يفتح طريق النهوض فيصنعه الإنسان المؤهّل للنهوض، إن توافرت له أسبابه الأخرى، وذاك ما نحتاج إليه أمسّ الحاجة في المرحلة الراهنة.
النخب والشعوب
من جوانب استيعاب المرحلة والتعامل مع معطياتها العمل على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمّى النخب الفكرية والأدبية والثقافية، بالإضافة إلى السياسية والحزبية والاقتصادية، وبين جماهير الأمّة، لا سيما جيل المستقبل منها.
إنّ ما يُطرح في الساحة الفكرية والأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة بدأ يتجاوز حقبة الصراع المطلق لتتداخل فيه محاور متعدّدة للحوار والبحث عن إمكانات التلاقي، وهو ما تختلف أساليبه وتتفاوت حدّة الاختلافات فيه والمساعي المبذولة لتجاوزها، ولكن تبقى الصورة بمجموعها مؤشّرا إيجابيا في الاتجاه الصحيح. رغم ذلك يبدو للمتأمّل في ساحات الحوار أنّه يجري بين فئات محدودة العدد بمعزل عن عامّة الشعوب، لا سيّما جيل الشبيبة الذي يمثّل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل.
وليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتهام القائل إنّ العزوف عن القراءة والمتابعة الجادّة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا. إنّ عزلة النُخب لا ينبغي اختزالها بتحميل المسؤولية على الجماهير، بل توجد عوامل عديدة أخرى ليست موضع الحديث هنا، إنّما يبقى العنصر الحاسم هو أنّ مسؤوليّة الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري، هي مسؤوليته التي تفرض عليه هو أن يراعي واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره. ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إنّ هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكّن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.
إنّ النماذج المعروفة من الإبداع العالمي، التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميّزة بخصوصيّتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضموناً يمسّ احتياجات إنسانيّة جامعة، والعطاءِ أسلوباً تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.
ليس القارئ هو المسؤول الأوّل عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، بل بداية المسؤولية عند صاحب القلم، أن يوجد الشروط التي توصله إلى القارئ كما هو في واقعه الآني، ليؤثّر عليه بقدر ما يتأثر هو بواقعه واحتياجاته، وهذا ما يسري على كلّ عطاء، قوليّ وعملي.
غربة لغوية
كذلك فإنّ تقديم الأفكار -بغضّ النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلاّ عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسمّيه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلّعاتها المستقبلية. ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعدّدة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجدّدا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجّح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر.
تساهم في ذلك كثرةُ استخدام بعض الكتب الفكرية المنشورة حديثا مفرداتٍ من قبيل: "الميتافيزيقي، الأنثروبولوجي، الإبستمولوجي، البروميثيوثي، الكوسموبوليتي، الهرمينوطيقا، السيميوطيقا.."، أو من قبيل "العضواني، المواطنوي، الطوباوي، الدولتانية، التاريخاني، القيامي، الجنساني.."، والقائمة طويلة. ويشير سياق الكلام أنّ الكاتب ينطلق غالبا من أنّ القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفيّاتها الفلسفية، وربّما بتناقض استخداماتها بين الكتّاب أنفسهم، ثمّ عليه التسليم بما يقصده هو من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلاّ فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟..
المفروض أن يدرك الكتّاب الذين يرون أنفسهم في موقع النخبة، أنّ القارئ ليس من نخبتهم بالضرورة، أم أنّهم لا يكتبون إلاّ لها؟.
ليست المشكلة محصورة في مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية. ويستحيل على أيّ حال تعريبُ مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرّد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية. كما لا تنحصر المشكلة في استخدام اشتقاقات قد يصلح القليل منها ولا يصلح الكثير، ممّا لم يعرفه الأقدمون ولا ابتكره المعاصرون ابتكارا سويّا. إنّما هي -في جوانبها الأخرى- مشكلة أنّ الكاتب ينتظر من عامّة القراء أن يحمل كلّ منهم تحت إبطه عدّة معاجم وقواميس، من أجل أن يفهم ما يخاطبهم به، أو أنّه لا يخاطب عامّة القرّاء أصلا، وذاك أدهى، والأمرُّ منه أنّ من الكتّاب من يريد أن ينسلخ القارئ العربي من جلده ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبّه صبّاً في عقله وقلبه!.
ونمضي خطوة أبعد، فلعلّ مِن الكتّاب مَن يريد استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علوّ كعب(!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة. قد يوجد من يظنّ فعلا أنّ هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكّل النصُّ حاجزا بين كاتبه وقارئه. هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنّن صاحبه في التصنّع والتنطّع والتعقيد فيه، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكّين تعالي معلّمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبّر اعتدادا بالنفس وتعصّبا.
ثمّ إذا بصاحب تلك المفردات والأساليب يشكو من غربة أفكاره جماهيريا، فيتّهم الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانيّة عالمية" أو ما شابه ذلك.
ونتجنب في هذا المقام الإطالة بالوقوف عند اعتبارات أخرى ممّا يتّصل بوجود مَن ينقل مصطلحات ومقولات أجنبية دون استيعابها إلا استيعابا سطحيا، وما يتّصل بالعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري عموما، وجميع ذلك يجعل مَن يعزلون أنفسهم بالإصرار عليه يعجزون عن الوصول إلى أمّةٍ لسانُها عربي، ومكوّنات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكوّنات المنطقة الحضارية الإسلامية، الشاملةُ بتأثيرها سائرَ سكّانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.
إنّ قيمة الإبداع تضيع وإن كانت عالية، في أيّ إنتاج أدبي أو ثقافي، إذا كان مضمونه بعيدا عن اهتمامات الفئات المستهدفة به، وما دام المبدعون يكتبون لبعضهم بعضا فلا يمكن أن يجدوا جمهورا من عامّة القراء، ولا يمكن لإنتاجهم أن يترك أثرا كبيرا، سلبيا أو إيجابيا، على صعيد المجتمعات التي ينتمون إليها، وإن أثاروا فيها موجات تعلو وتهبط مع تقليعات ما، منها ما يعتمد على الغرائز أو الشهوات أو العواطف وحدها، بل ربّما حصل بعضهم على جوائز التقدير والتكريم داخل نطاق أوساطهم نفسها غالبا، أو من جانب أوساط غربية يعجبها إنتاجهم فتوظّفه عبر الجوائز، لتدعم المزيد من ترويج ما يخدم التغريب. وما يسري على صعيد الإبداع الأدبي والثقافي يسري على صعيد العطاء الفكري، فالنخب لا تصنع التغيير عبر تبادل الأفكار فيما بينها، سواء اختلفت عليها أو توافقت، إنّما عبر الوصول بأفكارها إلى الشعوب التي تصنع هي التغيير في نهاية المطاف.