التقمص والتناسخ
التقمص والتناسخ
الشيخ أحمد الجمال الحموي
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
في مقابلة قديمة مع أحد الأدباء الذين فارقوا الدنيا أواخر القرن العشرين كلام يقرر فيه عقائد ليس لها دليل من بحوث علمية ولا من الآيات القرآنية ولا من الأحاديث النبوية الشريفة.
ومما جاء في هذه المقابلة:
(اعتقادي الخاص بالتقمص يعود إلى أنني عشت أعواماً عديدة قبل أن أكون الآن، وليست ولادتي هي أول ولادة لي. لماذا سيكون فلان والدي، وفلانة والدتي بين كل رجال ونساء الأرض، إلا إذا كانت هناك علاقة سابقة بيني وبينهم. والعلاقة السابقة لم تكن في هذا العمر بل في حياة سابقة عشتها أنا قبل أن أولد).
وهذا كلام سريع التداعي أمام البرهان توحي به خيالات وأوهام ليس إلا.
ومع أن الرد سيأتي بعد قليل لكننا نسأل الأديب الأريب إذا كان فلان والدك، وفلانة والدتك دون سائر الناس في ولادتك هذه لأنهما – كما تزعم - كانا كذلك في حياة سابقة فلماذا كانا والديك في تلك الحياة السابقة أيضاً، وما أراك إلا ستحيلنا على حياة سابقة على هذه السابقة ويبقى السؤال قائماً ما الذي جعل هذين والدين لك في أول ولادة ظهرت بها، تلك الولادة التي لم يك قبلها ولادة، مهما تباعدت في الزمن الماضي وأوغلت فيه.
ولعل الأديب العجيب يريد أن يقول إن الناس جهلة، أما هو فليس بجاهل فقد عرف التقمص الذي ظنه حقيقة جهلها الناس وآمن به حيث كفر بهذا التقمص مليارات البشر على مدى العصور.
ويتابع هنا الأديب حديثه عن التقمص فيقول: (تفكيري يرشدني إلى أن الأشياء التي حصلت معي في أعوامي هذه إنما هي تتمة لأشياء حصلت معي في أعوام سابقة... واسأل أي إنسان من أين لك هذه المعرفة، مستحيل أن تأتيك خلال السنوات التي عشتها، كل معرفتك تتوقف على حياتك السابقة).
إن تفكير هذا الأديب هو الذي يرشده كما يظن، ولو عرف أن تفكيره يضله لأراح واستراح، وها هو تفكيره يتخبط به فيزعم أن معرفته نشأت من حياته هذه ومن حيوات قبلها، ومن اللافت للنظر أنه لم يشعر بهذا الوسواس إلا هو وأمثاله من التناسخيين، ولو صدق قوله لولد الإنسان متعلماً ولوجدنا مخترعين عظماء وهم لا يزالون في سن الرضاع.
ثم يتابع الأديب وكأنه يريد إقناع نفسه، فيقول (أومن بالتقمص لكني "لم أصل درجة المعرفة القصوى" لأتبين حياتي السابقة بالتفاصيل الدقيقة إنما لدي "شعور عميق" بأنني لست ابن البارحة، عمري الآن 98 سنة ومن الخطأ أن أقول ذلك فأنا عمري الزمان كله.)
ولا يخفى على اليقظ اللبيب تخبط هذا (الأديب) فبعد أن زعم أن تفكيره هو الذي أرشده إلى التقمص إذا به الآن يرجع هذه العقيدة إلى (الشعور) وليقدر كل عاقل فداحة المصاب عندما تبنى عقائد خطيرة على المشاعر العليلة. وإذا شئنا أن نحسن الظن نقول إن (الأديب) أراد أن يضم الشعور إلى الفكر لا أن يلغي أحدهما بالآخر، ومع هذا فإن الضعف بدا واضحاً عندما اعترف أنه لم يصل درجة المعرفة القصوى ولذا فهو يجهل تفاصيل حياته بل حيواته السابقة وكأني به يدفع سؤالاً توقع أن يوجه إليه عن حياته بل حيواته التي عاشها من قبل فاحتاط للأمر قبل وقوعه.
ولم يك هذا الجهل والعجز عن معرفة التفاصيل نابعاً من كبر سنه وخرفه بل لأنه لا وجود لهذه الحياة المزعومة، ولذا عجز عن تذكرها عندما كان في ريعان شبابه.
وحسبنا هذه المقاطع من كلامه الكثير فإنه لا يخرج عما نقلناه وسنكتفي بالرد على فكرة التقمص –التي ألح عليها وأبرزها- خشية علوقها بعقول بعض البسطاء. وقد كان في حديث ذلك الأديب سقطات وضلالات أخرى لكننا لن نعرض لها فقد احتل التقمص الساحة وغطى على غيره.. وإنني أخشى أن يكون الذي أجرى اللقاء مع الأديب من تلك الفرق الباطنية التي تؤمن بهذه القصائد وإلا فكيف نفسر استسلامه في المقابلة وعدم مناقشة الأديب وعدم التعقيب عليه ولو بكلمة واحدة، أو لعله في أحسن الاحتمالات مسلم جاهل عافانا الله من الجهل.
وقبل أن نمضي قدماً في الرد نشير إلى أن هناك فرقاً تقول بالتقمص وفرقاً تقول بالتناسخ وبين التناسخ والتقمص فروق يسيرة لكن الجوهر والمآل واحد.
ويجمع الفريقين اسم (التناسخيين) وقد اتفق التناسخيون على أصل هو الأساس في تعريف التناسخ ثم اختلفوا في فروع لا تتناقض مع الأصل، بل هي إما توسع في مفهومه وإما نتيجة تكاد تكون لازمة من لوازمه أو تكون الهدف من القول بهذه العقيدة الباطلة.
الأصل الذي اتفق عليه التناسخيون
أما الأصل الذي يتفق عليه القائلون بالتناسخ والذي يشكل لب هذه العقيدة فهو (أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر) فلو مات إنسان ما –مثلاً- فإن روحه في زعم التناسخيين تنتقل إلى جسم آخر تطلع إلى الحياة وزحف نحوها، ثم تبقى فيه حتى يحين حينه فتفارقه إلى جسم آخر اشرأب إلى الحياة، وهكذا دونما انقطاع.
وهذا هو التعريف الجامع للتناسخ، والقدر الذي يتفق عليه التناسخيون جميعاً.
الفروع التي اختلف فيها التناسخيون
نستعرض الآن ما اختلف فيه القائلون بالتناسخ من جزئيات لا تمس الأصل المشار إليه آنفاً. حيث افترقوا في ذلك فرقتين.
1- أجازت أولاهما انتقال الأرواح بعد مفارقتها أجسادها (إلى أجساد أخر وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت)(1) وهو قول القرامطة وأشباههم، فيجوز بناء على رأيهم انتقال روح الإنسان بعد موته إلى حيوان، كما يجوز انتقال روح الحيوان بعد موته إلى إنسان، وهذا كما هو واضح توسع في مفهوم التناسخ ونشر لظلاله (وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب، قالوا: فالفاسق السيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار والسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح)(2) حتى نقل ابن حزم عن أحدهم وهو محمد بن زكريا الرازي الطبيب قوله (لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان ألبتة).(3)
وبناء على زعمهم الفاسد لا حاجة لليوم الآخر والحساب وما يتلوه من ثواب وعقاب على الطريقة التي فهمها أهل السنة والجماعة الذين هم لب الإسلام وحقيقته إذ أن الحساب في زعمهم يجري هنا على الأرض ويتحقق الثواب والعقاب فيما تخيلوه من التناسخ.
ويختلف انتماء أتباع هذه الفرقة فنرى بعضهم ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه من أهله، ويعد هؤلاء تاريخياً من الفرق الإسلامية. ونرى آخرين من ملل متعددة ومذاهب مختلفة لا صلة لها بالإسلام.
2- أما الفرقة الثانية فقد (منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت)(4) فلا يمكن عندهم انتقال روح الحيوان بعد موته إلى الإنسان ولا يمكن العكس أيضاً (وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيء من الشرائع وهم الدهرية)(5) وقد انطلق هؤلاء أساساً من الكفر والجحود المطبق فقد أنكروا وجود خالق لهذا الكون وانتهوا إلى ما انطلقوا منه بإنكارهم الآخرة بما فيها من حساب وجزاء.
ويظهر لدى التأمل أن هذا الإنكار للآخرة من لوازم التناسخ، أو هو الهدف الحقيقي من اعتقاده والقول به. وهؤلاء أبعد عن الإسلام من الفريق الأول وأكثر إيغالاً في الكفر منه، وعلى كل فالفكر وصف جامع لهما.
أدلة التناسخيين
تشبث التناسخيون على اختلاف آرائهم بأوهام حسبوها أدلة كافية لإثبات مزاعمهم وسنشرع الآن بسرد هذه الأدلة مرجئين مناقشتها إلى فقرة تالية.
الفرقة الأولى:
فقد احتجت الفرقة الأولى التي أجازت انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت بحجج تنقلب عليهم لدى تأملها والنظر فيها. وهذه هي حججهم:
1- احتجوا ببعض النصوص التي فهموها فهماً يخالف فهم المسلمين جميعاً على مر العصور حيث تشبثوا بقول الله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فَعَدَلَكْ في أي صورة ما شاء ركبك) وبقوله تعالى: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه) وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (قيامة كل أحد موته).
2- ويتردد في أوساط بعض أتباع هذه الفرقة كالنصيريين ما نستطيع أن نسميه (دليل الشعور) حيث يدعي بعضهم تذكره لحياة سابقة كان يحياها قبل سنين طويلة، وذلك وقت إذ كانت روحه في جسد ملك مدينة كذا أو في جسد العالم المشهور فلان كما يهذون.
3- أما الذين لا ينتسبون إلى الإسلام أصلاً من هذه الفرقة الأولى فقد احتجوا بالفلسفة أو بكلام قد يسميه بعضهم دليلاً عقلياً وما هو كذلك فقالوا (إن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد، فالنفس منتقلة أبداً وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها)(6).
4- وترى طوائف من هذه الفرقة أن عدد الأرواح في العالم ثابت لا يمكن أن يزيد ولا أن ينقص، ومن ثم ذهبوا إلى الادعاء بوجود توازن بين الحيوان والإنسان، فعندما يكثر الموت في الحيوان يزيد عدد الإنسان حسب اعتقادهم وعندما يكثر الموت في الإنسان يزيد عدد الحيوان.
الفرقة الثانية:
وحجة الفرقة الثانية التي منعت انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت (هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها القائلة إنه لا تناهي للعالم فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبداً، قالوا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلقها به)(7) فهؤلاء أقروا مبدأ انتقال الروح من جسد إلى جسد لكنهم اشترطوا أن يكون انتقال الروح إلى جسد من نوع جسدها الذي فارقته.
مناقشة أدلة التناسخيين
يكفي في بطلان فهم الفرقة الأولى للآيتين اللتين أوردوهما إجماع الأمة كلها على أن المراد بهما غير ما ذكروه فالمراد بقوله تعالى: (في أي صورة ما شاء ركبك) الصورة التي رتب الإنسان عليها من طول أو قصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد وما أشبه ذلك. فهي الصور المختلفة من جنس صور الإنسان. وليس المراد قطعاً حلول الروح الإنساني في صور غير صورة هذا النوع.
ولم يخالف في هذا الفهم الذي أوردناه أحد من أهل الحق خلال القرون المتعاقبة...
وأما الآية الأخرى فإن معناها: (إن الله تعلى امتن علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً نتولد منها. ثم امتن علينا (كما في آية أخرى) بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج. ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا. فتبين من ذلك بياناً ظاهراً لا خفاءَ فبه أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا، ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا)(8) ولا بد من بيان أن كلام التناسخيين دعوى بلا برهان وأنه مخالف لما فهمه أهل العلم سلفهم وخلفهم دون استثناء. وحسبك هذا برهاناً على فساد تأويلهم للآية ومجافاته للصواب.
أما المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولاً لا يبلغ درجة أن تبنى عليه أحكام فرعية فضلاً عن أن تبنى عليه عقيدة خطيرة كهذه. وهو ثانياً، لا يؤدي إلى ما زعموه. وغاية ما يفيده –بعد تذكر أن القبر أول منازل الآخرة وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وفيه سؤال الملكين- غاية ما يفيده أنه لا عودة إلى الحياة بعد خروج الروح وأن الإنسان يبدأ بمعاينة آثار أعماله التي فعلها في الحياة الدنيا منذ انتقاله إلى عالم البرزخ، وهذا المعنى يناقض ما وجهوا الحديث إليه مناقضة تامة.
مبدأ مهم في التعامل مع النصوص
وهناك شيء لا يغيب عن تفكير المسلم، هو أنه لا يجوز أن ينظر الإنسان إلى نص ما في موضوع ما ثم يغمض عينيه عن مئات النصوص في الموضوع ذاته.
ولو نظروا نظرة شاملة مستوعبة مع حسن القصد وسلامة الطريقة المتبعة في الدراسة لعدلوا عن هذه العقيدة عدولاً كاملاً، وواضح أن النصوص الصريحة تذكر نفخة أولى تنهي الحياة ثم نفخة ثانية يعقبها البعث ثم يحشر الناس إلى أرض نقية ثم يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبدأ الحساب وبعد هذا إما إلى جنة أو إلى نار فكيف تترك هذه النصوص الصريحة كلها ويعدل عنها إلى استنتاجات سخيفة وإلى تحميل النصوص ما لا يمكن أن تحتمله. وهنا نقطة مهمة جداً وهي أن عقيدة خطيرة كعقيدة التناسخ لا يمكن أن تأتي مبهمة ضمن إشارات غامضة مرفوضة تنسف النصوص القطعية الواضحة. وليس من طريقة الإسلام أن يأتي بالعقيدة على هذا النحو ولا بهذا الأسلوب.
وإن المرء ليعجب من أقوام يدعون أنهم يؤمنون بالله ثم يعتنقون هذه الفكرة فيتساءل وحق له أن يتساءل ما الذي يحملهم على ذلك ومن أين جاءتهم هذه اللوثة؟
وإن النظرة الشاملة إلى النصوص تؤكد أن الحياة ستنتهي دفعة واحدة بنفخة الصور ثم تعود مرة أخرى في ظروف مختلفة، ثم يحاسب الناس معاً في وقت واحد إلا ما استثنى الله من الحساب ثم يكون الجزاء في دار ورد وصفها تفصيلاً، ولا تنطبق الأوصاف الواردة في وصفها على هذه الدنيا بل هي مغايرة لها أشد المغايرة.
دليل الشعور:
ونأتي إلى الدليل الذي أسميناه دليل الشعور فنقول في شأنه: إنه تلقين لا قيمة له يتلقاه الأبناء عن الآباء في تلك البيئات بأسلوب مباشر أو غير مباشر.
فكثيراً ما يسمع الصغار من الكبار قصصاً وأحاديث تقرر هذا المعنى بطريقة عاطفية تؤثر في النفس فيندفع الصغار في هذا السبيل. ولو كان التناسخ حقيقة من الحقائق لأحس الناس جميعاً بأنهم كانوا في حياة سابقة على حياتهم التي يحيونها الآن.
فإن رد المعجبون بهذه العقيدة إن هذا الشعور لا يناله إلا من كانوا على درجة عالية من الصفاء الروحي والقلبي وأنهم وحدهم متصفون بهذا أجيبوا بأن الروح الحال في جسم إنسان هو روح في حالِ نعيمٍ جزاءً على حياة سابقة عُمرت بالخير –إذ لو كان الأمر خلاف ذلك لحلت الروح في صورةٍ غيرِ بشرية- وهذا يستدعي أن يكونَ الصفاءُ والشفافية حليفين لها في المراحل الأولى منْ حياة الإنسان على الأقل وهي التي تسبق البلوغَ والتكليف، حيث يتفق أرباب الأديان والفلاسفة على ثبوت الطهارة والبراءة فيها للإنسان فلماذا لا يحس الأطفال والفتيان من مختلف الأديان والألوان وفي مختلف البيئات بما يدعي التناسخيون؟
ومن المآخذ الكبيرة على هذه الفكرة تصادمها مع العلم. فكم سمعنا بعضهم يقول إن فلاناً ولد لما مات فلان، مشيراً بذلك إلى انتقال روح المتوفى إلى المولود. وقد جهلوا أن الروح تكون قد نفخت في هذا المولود قبل خروجه من رحم أمه بزمن طويل.
ولا ندري هل يغير التناسخيون كلامهم بعد الاكتشافات العلمية التي سبق القرآن إليها، أو أنهم سيظلون في غيهم وضلالهم.. ولا بد أن نقول في هذا الموطن: ما الفائدة من القول بأن حياة الإنسان الحالية هي جزاء على حياة سابقة عاشها إذا كان لا يحس بذلك لا من قريب ولا من بعيد.
ثم لنفترض أن كوارث كبيرة وقعت أودت بحياة مئات الألوف من الناس في مدة وجيزة كما حدث في هيروشيما، وكانت نار الحرب التقليدية إبان ذلك تلتهم الجمَّ الغفير من الناس كل يوم إضافة إلى من يموت حتف أنفه، وكما حدث في زلزال آسيا أواخر عام 2004 عندما اندفعت أمواج الساحل فأزهقت أرواح مئات آلاف البشر والحيوانات في وقت قصير جداً، فأين انتقلت أرواح هؤلاء الموتى وهنا يجيب من يجيزون انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت بأنها انتقلت إلى أجساد إنسانية أو حيوانية غير التي كانت فيها.
والخلل بين في الجواب ففي مثل حالة إلقاء القنبلة الذرية يعم الموت الإنسان والحيوان ولا ينفع التناسخيين قولهم إن الأرض واسعة والتوازن والتكامل ليسا محصورين في رقعة صغيرة منها. فهذا مردود بأنه من غير المألوف ارتفاع عدد الولادات أو الحمل فجأة في عالمي الإنسان والحيوان في الأرض بمقدار كبير يستوعب الأعداد الهائلة من الأرواح المفارقة لأجسادها في مثل هذه الحالات.
طوفان نوح:
ونتابع فنقول إن دراسة طبقات الأرض التي أجريت في القرن العشرين أثبتت أن الطوفان قد عم الأرض كلها في فترة من الفترات ومن أراد التأكد فليرجع إلى تلك الدراسات وهذا ما قرره الإسلام والديانات السابقة، فكيف أمكن تحقيق التوازن حينئذ؟ في الوقت الذي هلك فيه معظم الإنسان والحيوان. أما الأسماك فقد كانت موجودة من قبل ولا تستطيع أن تتكاثر في يوم أو يومين تكاثراً يفي بالغرض ويلبي الحاجة الناشئة. فإن قالوا: لا مانع من بقاء الأرواح مسلولة من أغماد الأجساد إلى حين، ريثما يتاح لها جسد تتغلغل فيه. قلنا: ما دام قد جاز هذا التجرد عن الجسد مدة من الزمن فهو إذن ممكن غير مستحيل ولا فرق في بقاء الروح طليقة من قفص الجسد بين المدة القصيرة والمدة الطويلة.
ومن المفيد الإشارة إلى أن نظرية التوازن هذه مبنية في رأي بعضهم على نظرية أخرى هي ثبات عدد الأرواح مطلقاً وهذا رأي لا يمكن إثباته فالشرع لم يرد بذلك، والعلم لم يستطع تحديد طبيعة الروح وهذا يجعله عاجزاً عن مراقبتها وعن القيام بعملية إحصاء لها.
نعيم هو سبب للعذاب:
ولنا سؤال نطرحه على الذين قالوا إن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب وهو: إذا كانت حياة الإنسان الحالية جزاءً حسناً على حياة قضاها بالتقى والصلاح إذ إن ظهوره في صورة إنسانية دليل على هذا أفلا يمكن أن تصدر منه في حياته الحالية مخالفات وإساءات؟ والجواب إما بالإثبات أو بالنفي لا محالة.
فإن كان بالإثبات فههنا إشكال كبير. إذ كيف تكون هذه الحياة التي هي نعيم باعتبارها جزاء حسناً لحياة سابقة فاضلة، كيف تكون متضمنة لأسبابِ عقاب يأتي في حياة مقبلة وذلك إذا عصى وخالف؟ وهل يكون الإنسان في نعيم بينما هو يتورط من حيث لا يدري في أسباب شقاء سيلحقه وهو في غفلة عن ذلك؟
وإن كان الجوابُ بالنفي فالإشكال قائم أيضاً. لأن معنى هذا أن الإنسان إذا أحسن في حياته الأولى فسيبقى محسناً على الدوام ما دام صدور الإساءة منه في حياة تالية غير ممكن لكن هذا المنع مردود بقوله صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطاء) وبالمشاهدة التي تؤكد عدم خلو إنسان من الخطأ والزلل.
هل تنتقل الروح من جسد إلى آخر بما تحويه من علوم ومعارف؟
وما رأي التناسخيين عموماً بعالمٍ واسعِ الإطلاع على فنون العلم المختلفة يموتُ ثم تنتقلُ روحه في زعمهم إلى إنسان آخر. هل يصافح المولودُ الجديدُ الذي انتقلت إليه وحلت فيه روح هذا العالم الكبير الحياة بذلك العلم الغزير لأن روحه مشبعة بتلك المعارف والعلوم التي اكتسبتها لما كانت رهينة هيكل بشري سابق. ونحن نلاحظ أنه ما من مولود يأتي إلى الدنيا بهذه الصفة. (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعملون شيئاً).
ولا عبرة بما حصل من خوارق العادات كالكلام في المهد فإن له شأناً لا يخفى على أرباب العلم والفهم، إذ أنه يدخل في باب الخوارق وهو محصور في أضيق نطاق وأقل عدد خلال عمر الدنيا الطويل المديد.
وبعد تفنيد ما تشبث به التناسخيون من حجج نقرر بصوت الحق العالي أن الروح بعد مفارقتها جسدها لا تعود في الدنيا إلى جسد آخر البتة وليس هناك دليل من عقل أو نقل على عودها إنما هو الهوى يعصف بهؤلاء الباطنيين وهو الحقد الدفين الذي يدفعهم إلى الكيد للإسلام فيدعون الانتساب إليه ليتاح لهم القيام بالتخريب من الداخل،ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون.
سؤال يوجه إلى الدهريين:
ولئن كانت الردود السابقة تشمل مَن ينتسب إلى الإسلام من التناسخيين وتشمل الدهريين منهم على حد سواء فإن ثمة كلاماً يوجه إلى الدهريين خاصة، وهو: كيف يتم اختيار الروح لجسدها ما دمتم لا تؤمنون بوجود خالق يوجهها ويسوقها. وما هي الأسس التي يتم على ضوئها امتزاج روحٍ ما بجسد ما. وما من شك أن هؤلاء عاجزون عن استغلال العلم في الإجابة على هذا السؤال. ولا قيمة للخرص والتخمين في مثل هذا الأمر الخطير.
النتيجة:
وبهذا يتضح بطلان انتقال الأرواح سواء إلى أنواع أجسادها التي فارقت أو إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت. بل إن الثاني أظهر فساداً من الأول مع أن كليهما موفور الفساد.
وإن الرد على الأول يتضمن رداً على الثاني من باب أولى، علماً أننا رددنا على المذهبين جميعاً.
ولا ننسى أن عامة فرق الباطنية تقول بالتناسخ وتؤمن به ثم تتمسح بالإسلام –في عالمنا الإسلامي- لكن العلماء مجمعون على ضلالهم وعلى أن من قال بقولهم ليس بمسلم ولو نطق بالشهادتين وأتى بأركان الإسلام –فكيف إذا تخلص منها بالتأويل الشنيع – لأن القرآن الكريم والسنة الشريفة تقرران بجلاء خلاف هذا، وفيهما من التفاصيل الوافية عن الموت وحياة البرزخ وعن البعث والحشر والحساب والجزاء ما يدمغ الباطنية بطابع الضلال الأسود، ويبدو كلامهم بإزائه هزراً قبيحاً، وسماً زعافاً يجب اجتنابه والتحذير منه.
وليست هذه هي الفكرة الوحيدة الفاسدة في سجل هذه الفرق المدسوسة على الإسلام والمسلمين وإنما بجوارها ما هو أدهى وأمر ولعلي أوفق إلى الكتابة عنه في مستقبل الأيام بعون الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
ملحوظة:
النقول من 1-8 من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم.