المهزلة الأركونية في المسألة القرآنية

المهزلة الأركونية في المسألة القرآنية

القرآن: مخيال جماعي أم وحي إلهي؟

د.إبراهيم عوض

[email protected]

الدكتور محمد أركون أستاذ جزائرى من أصل بربرى، وُلِد عام 1928م، وتعلم العربية وآدابها على يد المستشرقين فى جامعة الجزائر التى أسسها الفرنسيون أيام احتلالهم لبلد "المليون شهيد"، ثم تابع دراساته العالية فى فرنسا حيث حصل على الدكتورية، وانتهى به الأمر إلى تعيينه أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامى فى جامعة السوربون فى العاصمة الفرنسية. وكانت أول مرة أسمع فيها بالدكتور أركون فى أواخر سبعينات القرن الماضى حين كنت أتمشى فى بعض شوارع لندن عصر أحد الأيام الصيفية الجميلة، وفجأة وجدت مكتبة لبيع الكتب فدخلتها أسأل عما إذا كان لديهم ترجمات قرآنية، فتصادف أن وجدت ترجمة كازيميرسكى الفرنسية، وفيها مقدمة كتبها د.أركون. وكنت أرجع لتلك الترجمة بين الحين والحين، لكنى لم أعكف على دراستها كما عكفتُ على تلك التى قام بها سافارى أو مونتيه أو بلاشير أو بو بكر حمزة، ومن ثم لم تأت فرصة لقراءة المقدمة المذكورة. وفى الفترة الأخيرة تكررسماعى لاسم الرجل فى بعض الكتابات العربية مقرونا فى بعضها بالمدح الشديد، وفى بعضها الآخر بالذم الحاد، ولا أدرى بالضبط ما الذى دفعنى إلى الاهتمام به اهتماما خاصا حتى إنى فكرت أن أقرأ ما استطيع أن أُحَصِّله من كتبه وأكتب عنها إذا وجدت فيها ما يدفع لذلك. وقرأت فوجدت أن الرجل، رغم انتمائه إلى أسرةٍ وبلدٍ مسلمين، يعمل بكل جهده ووسعه للتشكيك فى القرآن، وإن ادعى وأغرق فى الادعاء أنه يريد دراسته دراسة علمية محايدة، فهو مثلا يسميه: "أساطير"، مما يذكِّرنا بالقرشيين، الذين كانوا كلما حَزَبَهم أمر هذا الكتاب ولم يستطيعوا أن يقفوا فى طريقه أو يردّوا على حُجَجه أو يأتوا بمثله حسبما تحداهم أكثر من مرة صاحوا قائلين: "أساطير الأولين" (الأنعام/ 25، والنحل/ 24، والمؤمنون/ 83، والفرقان/ 5، والنمل/ 68، والأحقاف/ 15، والقلم/ 15، والمطففين/ 13). يقصدون بذلك أن القرآن الذى نزّله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس إلا قصصا نقلها النبى عما خلَّفه السابقون وراءهم من قَصَص مسطور. يريدون أن يقولوا إن القرآن ليس وحيا إلهيا بل إنتاجًا بشريًّا، وإن محمدا ليس هو مؤلفه، إنما هو مجرد مردِّد له.

ولهذا كان النضر بن الحارث يعمد إلى الأماكن التى يتردد عليها الرسول بغية دعوة المكيين إلى دينه، فإذا ما فرغ، عليه الصلاة والسلام، من تلاوة آيات الذكر الحكيم على جمهور الحاضرين شرع هذا الشيطان يقرأ عليهم من كتاب يتضمن قصص رستم وإسفنديار وملوك الفرس، زاعما أن قصصه أحسن من قصص محمد حسبما ورد فى التفاسير وكتب أسباب النزول . فـ"الأساطير" هنا معناها الكلام المسطور، أى المكتوب. وفى "لسان العرب" و"تاج العروس" على سبيل المثال أن "الأساطير" جَمْع "سطر" أو جمع "أسطار"، الذى هو بدوره جمع لـ"سطر"، وإن كان هناك من يقول إنها جمع "أسطورة"، ومن يقول إنه جمع لا واحد له من لفظه. وقد ذكر بعض اللغويين أنها "الأباطيل" كما جاء فى "الصحاح" و"لسان العرب" أو "الأباطيل أو الأحاديث التى لا نظام لها" حسبما ورد فى "تاج العروس"، وإن لم يكن هذا شرطا فى رأيى، فهو ليس من أصل المادة، بل مجرد إسقاط لموقف الكفار، الذين كانوا يتعنتون على النبى الكريم ويعملون جهد طاقتهم على تكذيبه صلى الله عليه وسلم، على كلمة "أساطير"، لأن المادة التى اشتُقَّت منها هذه الكلمة ليس فيها معنى البطلان، بل هى مادة "السطر والتسطير" أى الكتابة لا غير. وكان ابن عباس يتأولها بهذا التأويل على ما ورد فى تفسير الطبرى للآية 25 من سورة "الأنعام" والآية 24 من سورة "النحل" مثلا. ولو كانت تعنى "البطلان" لقد كان النضر إذن يكذّب نفسه أيضا حينما كان يأتى بقصص رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة ويقرؤها على الجمهور ليصرفهم عن آيات القرآن التى كان يتلوها على مسامعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متصوَّر بطبيعة الحال!

جاء فى تفسير القرطبى أثناء كلامه فى الآية 25 من سورة "الأنعام" عن ابن عَبَّاس: أن المشركين "قَالُوا لِلنَّضْرِ بن الْحَارِث: مَا يَقُول مُحَمَّد؟ قَالَ: أَرَى تَحْرِيك شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُول إِلا أَسَاطِير الأَوَّلِينَ مِثْلمَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ الْقُرُون الْمَاضِيَة، وَكَانَ النَّضْر صَاحِب قَصَص وَأَسْفَار، فَسَمِعَ أَقَاصِيص فِي دِيَار الْعَجَم مِثْل قِصَّة رُسْتُم وإسفنديار فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ". وقد أتاها هذا "البطلان" من موقف المشركين نفسه لا من شىء آخر كما قلنا، إذ كانوا يقصدون باستعمالها أن يقولوا إن ما يتلوه محمد ليس وحيا نزل من عند الله، بل هو كلام منقول عن السابقين مسطورٍ فى الكتب ويُتَعلَّم تعلّما ويستطيع أن ينسخه من يريد. فتكذيبهم بالوحى هو الذى خلع، من حيث الواقع العملى، على الكلمة معنى "البطلان"، وإلا فلو كانوا يقصدون أن يتهموا آيات القرآن بأنها قصص باطلة لا أساس لها لقالوا مثلا: "خُرافات" أو "أحاديثُ خُرافة".

وقد تعلق أركون بهذه الكلمة وعضّ عليها بالنواجذ ليصف بها القرآن الكريم بعد أن أعطاها المعنى الذى نستعملها به الآن، وهو معنى "الخرافة" كما سنوضح لاحقا، فلما هاجمه بعض الكتاب المسلمين الذين يغارون على دينهم وعلى الحقيقة التى يمثلها هذا الدين فى أصفى مجاليها وتجلياتها وأظهروا سخف ما صنع، أخذ يتمحّك قائلا إن المسؤول عن ذلك الالتباس هو د.عادل العوا (مترجم كتابه "الفكر العربى"). كما زعم فى محاضرة له بدمشق ضمن نشاط "أيام الفرنكفونية" أنه قد وقع بينهما خصام ومشادة بسبب ترجمته لعبارة "كتاب قصصى" بـ"كتاب أسطورى"! (انظر مقال أنور بدر فى صفحة "أدب وفن" من صحيفة "القدس العربى" اللندنية/ الجمعة 26 مارس 2004م). وهذا كلام عجيب لا يجوز ولا فى عقول البُلْه، إذ الدكتور العوا لم يصنع شيئا أكثر من أنه ترجم الكلمة التى استعملها أركون فى وصف القرآن مرارا وتكرارا فى كتبه ومقالاته وحواراته المختلفة، ألا وهى كلمة "un mythe, mythique"، التى لا تعنى ولا يمكن أن تعنى إلا "أسطورة، أسطورى" حسبما ترجمها العوا. ترى ماذا كان د.أركون يريد من الأستاذ المترجم؟ أكان يريد منه أن يلغى عقله وضميره حتى لا يكشف للقارئ العربى المسلم هذه العورة الفكرية؟ لكن ما الذى أدرى العوا بأن أركون لا يريد أن يعرف ذلك القارئ بهذا الذى يقوله فى القرآن؟ أكان يشمّ على ظهر يده؟ أتراه كان كاهنا، فهو يطلع على الغيب ويعرف مقدما أن د. أركون سوف يغضب من هذه الفضيحة غير المقصودة؟ جاء فى حوار أجراه محمد البنكى مع د. أركون فى عدد 6 يناير 200م من مجلة "أوان" التى تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين إشارة إلى ما كان الكاتب الجزائرى المتفرنس قد قاله فى كتابه الذى ترجمه عادل العوا: "الفكر العربى"، وهو أن "The Quran is a discourse with mythical structure"، ونقله العوا إلى لغة الضاد قائلا: "القرآن خطابٌ أسطورىُّ البنية"، وهى ترجمة سليمة ودقيقة ولا يمكن أن ينتطح فيها عنزان، أو حتى يتصارع دِيكان!

وقد ادعى أركون أن هذه الترجمة خاطئة، إذ القرآن يميز (حسبما قال) بين الأسطورة والقصص، فالكتب الدينية، وكذلك الفلسفية، تعتمد القصص والاستعارات والمجازات والرموز لقديم الحقائق والتعاليم الدينية بصورة أدبية، فكيف تترجم هنا بـ"الأسطورة"؟ هكذا يقول ويتساءل كاتبنا الأمين، وقد ارتسمت براءة الأطفال فى عينيه الجريئتين، وكأن الدكتور العوا قد اخترع كلمة "الأساطير" من لدنه وألبسها النص بعد أن لم تكن فيه! الواقع أن الدكتور أركون هو الذى يريد أن "يُلبسنا العِمّة"! لكن للأسف "خَرَجَتْ آوِتْ" يا دكتور! فالمعاجم الفرنسية، وكذلك المعاجم الفرنسية – العربية، تُجْمِع على أن معنى "mythe" هو "أسطورة، خرافة، وهم، تُرَّهة، شخص أو شىء خرافى" كما جاء بالنص فى معجم "المنهل" لجبور عبد النور وسهيل إدريس مثلا، ويؤيد ذلك ما أورده بتوسعٍ كلٌّ من "petit Larousse en couleurs" و"Grand Larousse encyclopedique" و"La Grande Encyclopedie (Larousse)" فى شرح الكلمة ذانها. فأين تهرب يا دكتور أركون؟ أما زلت مصرا على أن الغلط هو من صنع العوا؟ أهذا هو المنهج العلمى الذى تصدغ أدمغتنا بأنك جئتنا به لتعلمنا من خلاله كيف ندرس القرآن؟ يا رجل، إنك لا تقبل ما يقوله الإسلام من أن الوحى وما يتضمنه من عقائد وأخلاق وتوجيهات هو من الله، بل تنحاز إلى تفسير علماء النفس واللغة والأنثروبولوجيا له على أنه نتاج "الذات الجماعية الكبرى المعبرة عن مِخْيالٍ مصعَّد أو متسامٍ" (فى كتابك "الإسلام- أوربا- الغرب"/ ترجمة حبيبك وحواريّك ومروّجك فى السوق العربية د. هاشم صالح/ دار الساقى/ بيروت/ 1995م/ 112)، كما قلت إن الأديان (ومنها بل على رأسها الإسلام بطبيعة الحال لأنه هو المقصود بكلامك وانتقاداتك أولا وآخرا) تقوم على المعرفة الأسطورية لا العلمية (نفس المرجع/ 75)، فأنت إذن تضع "الأسطورى" فى مقابل "العلمى"، مثلما وضعته (فى كتابك "تاريخية الفكر العربى الإسلامى") فى مواجهة "العقلانى" (ترجمة هاشم صالح/ مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 16- 17). كما دعوتَ إلى وضع إستراتيجية تربوية لأكبر عدد من البشر تكون مهمتها "تغيير عقو ل الناس وتفكيك الأراء اللاهوتية القديمة والراسخة فى الذهن أبًا عن جَدّ منذ مئات السنين"، أى استبدال التفسير الأنثروبولوجى بالنظرة القديمة التى تقوم على الإيمان بالوحى الإلهى، وإن غلب عليك التشاؤم فقلتَ إن "الإنتاج المِخْيالى للمجتمعات البشرية والتأسيس الاجتماعى للروح والفكر يستمران فى الهيمنة سوسيولوجيا وسياسسيا"، وإن "التجليات التقليدية للأديان سوف تظل لوقت طويل وسائل جبارة للتعبئة الاجتماعية، وسوف تستمر التصورات التقليدية الموروثة عن الأنظمة اللاهوتية فى تحريك ملايين البشر" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الطليعة/ بيروت/ 2001م/ 78- 79/ هـ1). بل لقد وصفتَ كلام القرآن الكريم عن زيارة إبراهيم عليه السلام لمكة بأنه "خيال اسطورى" لا علاقة له بالتاريخ الحقيقى (الإسلام- أوربا- الغرب/ 75- 76).

وهذا موقف طبيعى جدا ممن يؤكد أن "الوظيفة النبوية والخطاب الذى يوضحها أو يجسدها لا يمكنهما ممارسة فعلهما إلا داخل سياق معرفى ومؤسساتى يفضل الأسطورة على التاريخ، والروحى على الزمنى، والعجيب المدهش أو الساحرالخلاب بصفته بنية أنثروبولوجية للمخيال على العقلانى الوضعى" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 86). وبالمناسبة فإن كاتبنا يأخذ على طه حسين أنه لم يطبق النظرية الأنثروبولوجية الخاصة بالمعرفة الأسطورية حين نفى زيارة الخليل إبراهيم لمكة هو أيضا فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، الذى صدر سنة 1926م (المرجع السابق/ 75). ونحب أن نعرّف د. أركون أن رائده المصرى لم يقصّر كما ظن (وبعض الظن إثم)، فقد قام بالواجب وزيادة، إذ قال عن هذه الزيارة وبناء الخليل عليه السلام للبيت الحرام هناك إنها ليست إلا أسطورة يهودية استغلها العرب لأسباب سياسية (فى الشعر الجاهلى/ مطبعة دار الكتب/ 1926م/ 28-29). ليس ذلك فقط، بل إنه زعم أيضا نفس الزعم الذى ينحاز إليه أركون، إذ قال إن الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض، فهو نتاج اجتماعى، وإن الجماعة حينما تعبد الله فإنما تعبد (أو فلنقل: تؤله) نفسها (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1976م/ 24).

لكن يبدو أن معرفة د. أركون بالموضوعات التى يتحدث عنها هى معرفة ضحلة، ومن ثم فهو يحاول أن يغطى على هذا العوار المعرفى بكثرة ترديد المصطلحات الفارغة التى يحسب أنها قادرة على إرباك عقولنا ودفعنا إلى الإقرار بأستاذيته والاستسلام لما يهرف به. مسكين، ورب الكعبة! ثم إن درويشك وقرة عينك ولاعب الدور الأكبر فى تسويقك بين العرب "هاشم صالح" يا د. أركون قد ترجم كلمة "mythe"، فى كل مرة رآك تستخدمها، بـ"الأسطورة"، فلماذا قبلتَها منه ولم تتشاجر معه كما فعلت، أو تدَّعى أنك فعلت، مع د. عادل العوا لو كنت صادقا فى إنكارك على هذا الأخير؟ ألا ترى أنك تتخبط على غير هدى؟ من حقك أن تقول ما تشاء فى القرآن، سواء كان ذلك بعلم أو بجهل، لكن ليس من الحق ولا مما يتسق مع نبل العلم وجلاله أن يلجأ أحد ممن ينتسب للعلماء إلى أسلوب الحواة الذين يلاعبون المغفلين لعبة الـ3 ورقات! إذا كنت تظن أن عندك عقلا فالناس أيضا عندها، والله العظيم، عقول وذكاء قد يفوقان عقلك وذكاءك! ثم هذا هو درويشك وتابعك يقول فى موضوع الأساطير إن "عقلية الناس فى القرون الوسطى كانت ميالة إلى تصديق الحكايات الأسطورية بسهولة، ولم تكن تستطيع أن تميز بين ما حقيقى وما هو أسطورى كما نفعل اليوم، فينبغى ألا نُسْقِط عليهم عقليتنا المعاصرة، وإلا فلن نفهمهم. ولذلك نرى الطبرى يستتشهد بالحكايات الأسطورية الرومانية للبرهنة على صحة ما ورد فى القرآن من قصص! ولا يشعر القارئ بأى تناقض إذ يفعل ذلك. وحتى الحكايات التى رواها عن النبى موسى معظمها أسطورى ولا علاقة له بالحقيقة التاريخية. وأما جلجامش، الذى هو بطل الملحمة الآشورية- البابلية الشهيرة بنفس الاسم، فإنهم ينظرون إليه وكأنه شخصية واقعية أو تاريخية. ينبغى ألا ننسى أن الأديان التوحيدية ظهرت فى منظقة غنية بالأساطير والأديان القديمة من مصرية وبابلية وآشورية..." (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 163 فى الهامش). ألا تزال تظن أن بإمكانك المراوغة؟

ولقد حاول د. أركون أن يوحى لنا بأن المقصود هو اعتماد القرآن فى أسلوبه على القصص والاستعارات والمجازات والرموز. لكن هذه أيضا لعبة مكشوفة وسقيمة، فالعب غيرها من فضلك، فالقرآن لا يعتمد دائما على هذه الأدوات، إذ هناك التشريعات والتوجيهات الأخلاقية، وجانب كبير من العقائد أيضا، فأين المجاز أو القصص فيها؟ وحتى مع إدخال القصص والمجازات والاستعارات فى هذا المجال، أيمكن أن يعنى هذا أن بنية القرآن هى بنية أسطورية؟ ثم لماذا يقال هذا فى القرآن وحده، على حين أن الأدب يعتمد كثيرا على هذه الأدوات، ولم يقل أحد ولا حتى كاتبنا الهمام إنه أسطورى البنية؟ إن الناس جميعا يدركون الفرق بين الأسطورة والمجاز والقصص، إلا أن أركون يتعمد خلط الأوراق رغبة منه أن يربكنا ويشتت انتباهنا فلا نستطيع أن نرى يديه وهما تغيران الورقة التى تربح من بين الورقات الثلاث بورقة لا تربح! لكن الحاوى المسكين لا يدرى أنه قد جاء يبيع الماء قى حارة السقائين الذين لا يَرُوج بينهم سقّاء مبتدئ لم يتعلم الصنعة على أصولها! لو أنك قلت لنا منذ البداية فلربما كنا عهدنا بك إلى أحد صبية الحارة ليعلّمك كيف تحمل القربة وتدور بها فى الشوارع وتنادى على الماء بطريقة منغمة تصغو إليها الآذان وتنفتح لها القلوب، وكيف تُفْرِغ الماء فى الأزيار والطُّسُوت والقُلَل والأباريق دون أن تريقه على الأرض أو تبلّ به ملابسك وتجعل من نفسك أضحوكة الحارة! ما كل من ذهب لفرنسا، حتى لو أعطاه المستشرقون درجة الدكتورية ورَقَّوْه وجعلوه منه بروفيسيرا وعيَّنوه فى السوربون، يصلح أن يكون سقّاء أو حاويا فى حارتنا أُمّ البِدَع! فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى!

وفى النهاية هأنتذا تقول فى موضع آخر، وبعَظْمَة لسانك أيضا، إن ترجمة الجملة السابقة التى وردت فيها كلمة "أسطورة" وعِبْتَها على د. العوا هى ترجمة "صحيحة وسليمة لغويا" (تاريخية الفكر العربى/10). وهذا نص كلامك كاملا: "فعندما يقرأون ترجمة جملة كهذه: "Le Coran est un discours de nature mythique"، أى "القرآن خطاب أسطورى البنية" كما جاء فى ترجمة الدكتور عادل العوا، فإنهم يصرخون ويدينون... فى الواقع إن الترجمة صحيحة وسليمة لغويا، إلا أن مفهومات "خطاب" و"أسطورة" و"بنية" لم يفكَّر فيها بعد كما ينبغى فى الفكر العربى المعاصر. ولن تؤدى المناقشة إلى أية نتيجة إذا ما تمسك هذا الطرف المذكور بأحكام فقه اللغة التقليدى والتاريخ الروائى- الخَطّىّ واستخدام القرآن لمفهوم الأسطورة". طبعا علينا أن نلغى عقولنا والمعاجم التى بين أيدينا وما اصطلح عليه الناس فى استعمالاتهم اللغوية وننسى ما شرح به د. أركون نفسه معنى "الأسطورة" كما رأينا، ونصدق هذه البهلوانيات. وفوق ذلك كله علينا أن نمسح من ذاكرتنا أنه هو ذاته قد خطّأ عادل العوا فى هذه الترجمة التى يؤكد الآن أنها صحيحة وسليمة لغويا. مسكين أركون! يظن أنه أذكى من الناس مع أنهم قد يفوقونه ذكاء وانتباها! كما يظن أن فى مستطاعه اختراع عربية وفرنسية جديدتين غير اللتين نعرفهما ويعرفهما معنا أصحابهما!

وبالمناسبة فإن كلمة "الأساطير" ليست استخداما قرآنيا كما يزعم أركون فى النص الذى فرغنا منه لتونا، بل هو مجرد حاكٍ لما كان الكفار يقولونه. وهذا يذكرنى بما قاله الحاطبُ فى حبله وحبل أمثاله خليل عبد الكريم، إذ زعم هو أيضا أن القرآن الكريم سمَّى أتباعَ نوح بـ"الأرذلين"، مع أن أى طفل صغير قرأ القرآن يعرف تمام المعرفة أن الذى قال ذلك إنما هم الطائفة الكافرة من قوم ذلك النبى الكريم لا القرآن. وقد رددتُ عليه وأشبعتُه ما يحتاجه من تقريعٍ جرّاءَ هذا الجهل الفاضح الذى ارتكبه، وهو الذى لا يريحنا من ثرثراته وطنطناته البغيضة الثقيلة عن المنهجية والعلمية والتوثيقية والمهلَّبية ، والذى سُقْتُ من الأدلة القوية ما يجعلنى أستبعد أن يكون هو مؤلف الكتب التى تحمل اسمه. وهو ما يجده القارئ فى كتابىّ: "لكن محمدا لا بواكىَ له- الرسول يهان فى مصر ونحن نائمون"، و"اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، الذى كتب هو نفسه عنه عَرْضا فى مجلة "أدب ونقد"مدح فيه العبد لله مدحا لم يمدحنيه أشد الناس حبا لى، ورفعنى للسماء السابعة وجعلنى أوحد زمانى فى الأستاذية، ثم استغفلنى وكتب فى عنوان المقال أن اسم الكتاب هو: "اليسار الإسلامى وتطوراته..." (هكذا بالنص! فانظر، أيها القارئ الكريم، التدليس على أصوله، وكيف يمارسه جَنَابه عينى عينك، مغيرا "تطاولاته" إلى "تطوراته"، وحاذفا بقية الكلام مع الاستعاضة عنها بثلاث نقاط، حتى إذا ما اعترضتُ عليه ادعى أن "تطوراته" هى مجرد غلطة مطبعية، والقلم يغلط يا أخى كما يقولون عندنا فى القرية!).

خلاصة القول أن د. أركون قد أخذ كلمة "الأساطير" التى استعملها المشركون فى تكذيب النبى عليه السلام، ثم أفرغها من محتواها اللغوى القديم وأعطاها معنى الخرافة، وهو المعنى الذى شاع لها الآن ولم نعد نفكر فى غيره، فضلا عن أن نقصده. ثم لم يكتف الدكتور بهذا على فداحته، بل ادعى أنه لا يستعمل هذه الكلمة بالمعنى السئ الذى استعملها به القرآن. وكل دعاواه، كما وضحتُ ورأَى القراءُ معى، هى دعاوى غير صحيحة. كما أنه حريص على تغيير المصطلحات الإسلامية بمصطلحات أنثروبولوجية وألسنية كى يتسلل كالثعلب إلى عقول قرائه المسلمين المقصودين بكل هذه "الهيصة" التى يحدثها هو ودرويشه المنقطع له فلا يثيرهم شىء من انتقاده وتكذيبه للوحى. وقد تناول هاشم صالح هذه النقطة، ولكنه تمحك بالمنهجية والحيادية العلمية فقال فى أحد تعليقاته إن "أركون يستخدم مصطلحات ألسنية محضة للتحدث عن القرآن، فهو يقول: "المنطوقة" أو "العبارة اللغوية" بدلا من "الآية القرآنية"، ويقول: "المدوَّنة النَّصِّيّة" بدلا من "القرآن"...إلخ. وسبب ذلك هو أنه يريد تحييد الشحنات اللاهوتية التى سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن. فالقداسة اللاهوتية أو الهيبة اللاهوتية العظمى التى تحيط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو، أَىْ نَصّ لغوى مؤلف من كلمات وحروف وتركيبات لغوية ونحوية وبلاغية... بمعنى آخر إن المادة اللغوية للقرآن اختفت تماما أو غابت عن أنظارنا بسبب الهيبة العظيمة التى تحيط به. وميزة القراءة الألسنية هى أنها تحيِّد الهيبة، ولو للحظة، من أجل فهم التركيبة النصية واللغوية للقرآن" (القرآن من التفسير الموروث إلىتحليل الخطاب الدينى/ 119 فى الهامش). والذى يسمع كلام صالح دون أن تكون عنده فكرة عن حقيقة الأمر سوف يظن أنه، فى الوقت الذى يتحدث أركون عن القرآن وهو متمالك قواه العقلية والمنطقية، إذا بواحد مثلى ينخرط أثناء الرد عليه فى فاصل لا ينتهى من النهنهات والشهقات والتأوهات ولطم الخدود والرقص والتطوح والصراخ والزعيق كما يفعل المتواجدون فى حلقات الذكر بسبب ماحدث له من "لُطْف وانجذاب" بتأثير من "الهيبة اللاهوتية الأنثروبولوجية المخيالية" التى تلغى العقل وتُشِلّ الفكر والمنطق، مع سيول من الدموع المنهمرة التى لا تُعَدّ الدموع التى ذرفتْها مريم فخر الدين فى جميع أفلامها مع فريد الأطرش والعندليب الأسمر شيئا بالقياس إليها، والتى استهلكتُ لها قناطير من ورق الكلينكس المستورد كَلَّفَتِ الخزانة العامة مقدارا هائلا من العملة الصعبة كان يمكن أن يُنْفَق على البرنامج الأركونى الهادف إلى تغيير المخيال الجماعى واستبدال "الخيبة" الألسنية بـ"الهيبة" اللاهوتية حسبما مر منذ قليل!

وبهذا نكون قد "فكَّكْنا" اللعبة التى أراد سيادته أن يضحك بها على ذقوننا ظنًّا منه أننا "برِيَالة"، وعليه هو أن يلُمّ قِطَعها ويركّبها من جديد إن استطاع! أقول: "فكّكنا" رغم كراهيتى لهذا المصطلح لما أعرفه عمن يستخدمونه من بيننا والنيات التى يضمرونها من وراء هذا الاستخدام! هذا، وأكرر ما سبق أن قلته من أن كلمة "أساطير" لا تعنى "الباطل" فى أصل اشتقاقها، وأنها إن كانت تعنى هذا فى كلام المشركين فهو من أثر موقفهم المتعنت من رسول الله عليه الصلاة والسلام وتكذيبهم له واتهامهم إياه بأنه إنما يتلو عليهم قصص الأولين المسطورة فى الكتب لا وحيا إلهيا.

وإذا كنتُ قد سقتُ قبلا الأسباب التى حاجَجْتُ بها عن هذا الفهم، فهأنذا أضيف لما قلته شواهد من الشعر العربى وردت فيها هذه الكلمة بالمعنى الذى شرحته، وليس فيها معنى "البطلان". قال أُحَيْحَة بن الجلاح:

فلم يتركا إلا رسوما كأنها أساطير وحىٍ فى قراطيس مُقْتَرِى

أى سطور كتاب فى يد قارئ. وقال ابن الرومى:

سطَّر العابثون فيها أساطيــ ــر عَفَتْ متنها فما يُسْتبان

أى سطورًا امَّحَتْ، فلم تعد ظاهرة للعيون. وقال ابن الزقاق البلنسى:

سِيَرٌ تذكِّرنا أساطير الأُلَى كانوا الدعائم فى الزمان الأولِ

وقال الشريف الرضى:

تمحو أساطير الخطوب كما محا مَرّ الشمال من الغمام المثقلِ

أى ما خَطَّتْه الشدائد. وقال مهيار الديلمى:

نشرْتَ أساطير الكرام فشوهدَتْ أخابير كانت تُستراب مع النقلِ

أى ما كُتِب عنهم وعن كرمهم. يقصد أنه بكرمه قد أعاد إلى واقع الحياة ما كان الناس يسمعونه عن الكرام السابقين مجرد سماع، فأصبح أمرا يشاهده المشاهدون لا كلاما يسمعونه دون معاينة. وقال ناصيف اليازجى:

سواد الليالى فى بياض نهارها أساطير لا تُقْــرَا لهنّ حــروف

وقال نقولا الترك:

بدا عذار النهار فى سعد طلعته يحكى أساطير "بسم الله" فى الصحفِ

ولذلك فعندما أراد رفاعة الطهطاوى، فى كتابه "تخليص الإبريز"، أن يترجم مصطلح "mythologie"، الذى سمع به لأول مرة فى حياته فى عاصمة الفرنسيس لم يستخدم كلمة "أساطير"، بل قال ببساطة إنه "علم جاهلية اليونان وخرافاتهم" (المطبعة الأميرية ببولاق/ 1265هـ/ 164)، وهى الكلمة التى قلتُ إن الكفار كان ينبغى أن يستعملوها لو أنهم كانوا يقصدون أن الآيات التى يتلوها عليهم الرسول عليه السلام هى قصص خرافية باطلة بالمعنى الذى نفهمه نحن الآن من كلمة "أسطورة". كذلك حاولتُ أن أجد كلمة "أسطورة" بين موادّ "دائرة معارف البستانى" فلم أجد إلا مادة بعنوان "خرافة: superstition"، ذكر فيها كاتبها أن المترجمين قد عرَّبوا مصطلح "ميثولوجيا" بـ"الخرافة"، ثم أضاف أن "خرافةَ رجلٌ من بنى عذرة استهوته الجن على زعم بعضهم، فلما رجع أخبر بما رأى فكذّبوه حتى قالوا لما لا يُصَدَّق من الأحاديث: "حديث خرافة". وعليه قول بعض الجاهليين:

حياةٌ ثم موتٌ ثم نشرٌ حديث خرافةٍ يا أم عَمْرِ"

(دار المعرفة/ بيروت/ 7/ 356- 257). أما فى مقدمة سليمان البستانى للترجمة التى عملها للإلياذة فقد تحدث عن "أساطير" العرب وأخلاقها وعاداتها وآدابها فى الجاهلية، كما وصف كلامهم عن أول من نظم الشعر عندهم وهل هو عاد أو ثمود أو حِمْيَر قائلا إن هذا مما لا يتجاوز "الأساطير" الموضوعة ويأباه العقل ويعجز النقل عن إثبات شىء منه" (إلياذة هوميروس منظومة شعرا/ دار المعرفة/ بيروت/ 1/ 7، 108). كذلك نجد عند محمد فريد وجدى فى "دائرة القرن العشرين" (مادة "سطر") أن "أساطير الأولين" هى "ما سطروه من أعاجيب أحاديثهم، وهو جمع "إسطار"، وقيل: "جمع "أسطورة"، وهى ما يعبر عنه الأوربيون بالميتولوجيا" (دار الفكر/ بيروت/ 5/ 128). كما تحدث العقاد عن موضوعنا هذا فى مقال له بعنوان "آراء فى الأساطير" كرر فيه ذكر هذا المصطلح مرارا، وإن كان قد ترجم عنوان كتاب "Myth and Science" لـ Vignoli الإيطالى بـ"الخرافة والعلم" (الفصول/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 34- 35. وقد صدر هذا الكتاب للمرة الأولى فى 1922م).

وبالمناسبة فما زال من الكتّاب إلى وقت غير بعيد من يقول: "أسطورة" للـ"legend"، أما الـ"myth" فيقول عنها: "ميثة" كما فى قاموس "المعجم الأدبى" لجبور عبد النور. ومن ثم كان كل من عبد الله يوسف على (فى ترجمته الإنجليزية للقرآن) ود. ماسون (فى ترجمتها الفرنسية) موفقا كل التوفيق فى ترجمة "أساطير الأولين" حين قال الأول: "tales of the ancients"، وقالت الثانية: "Anciensdes contes d" فى بعض المواضع، و"histoires racontees par les Anciens" فى المواضع الأخرى، فلم يخلعا على الكلمة شيئا من خارجها ليس لها فى الأصل.

والواقع أننى لا أدرى لم يحاول د. أركون أن يحدث كل هذا الضجيج حول الانتقادات التى وُجِّهت إليه بسبب استخدامه لمصطلح "أسطورة" للقرآن الكريم. أتراه يؤمن أن هذا الكتاب هو من عند الله؟ إن الرجل يعمل على التشكيك فى كل ما يتعلق بالقرآن: نصا وتاريخا وجمعا وتفسيرا وقدرة على أن يكون موضع استلهام للمسلمين فى محاولتهم النهوض من سباتهم كرة أخرى، فلم إذن هذه الضجة المستحدثة حول نقطة لا تقدم ولا تؤخر ما دام هذا موقفه من القرآن؟ تعالَوْا لنرى: إنه أولا يثير زوبعة حول إمكانية دراسة تاريخ النبى عليه السلام والوحى الذى كان ينزل عليه. لماذا يا ترى؟ يقول جَنَابه العالى إن "المعرفة التاريخية بـ"لحظة النبوة" أصبحت خارج نطاق إمكانياتنا إلى الأبد بسبب ضياع وثائق أولى أساسية كثيرة، ضياع لا مرجوع عنه ولا تعويض له" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115. وانظر كذلك كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"/ 106 فى المتن والتعليق فى الهامش). كما يؤكد أنه ما من أمل أى أمل فى بعث المشروعية الإسلامية (أو "المشروعية التقليدية" كما يسميها على سبيل المراوغة)، وأن المشروعية الوحيدة الحقيقية والعادلة هى التى لا تدين بالولاء إلا للعقل الحر المستقل عن أى ولاء أو خضوع لهيئة أخرى تتجاوزه (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115- 116). وهو ما يعنى فى حالتنا هذه رفض الوحى والنبوة المحمدية، إذ ليس الوحى والنبوة من نتاج العقل، بل آتيين من خارجه، وإن لم يكن فيهما بالضرورة ما يرفضه هذا العقل بعد التفكير والتمحيص السليم حسب اعتقادنا نحن المسلمين فى ديننا وفى النبى الذى أتى به. لكن ما هذه الوثائق التى يقول كاتبنا إنها ضاعت ضياعا أبديا، ومن ثم لم يعد بإمكاننا دراسة "لحظة النبوة" كما يسمى الرسالة المحمدية على طريقته فى تغيير المصطلحات وابتداع مصطلحات أخرى بديلة لا يثير انتقادُ مفاهيمها، فيما يَتَصَوَّر، حساسيةً عند المسلمين؟ أليس القرآن بين أيدينا، وكذلك الأحاديث وكتب السيرة والتاريخ والنصوص الشعرية؟ بلى، بَيْد أن الدكتور أركون الذى لا يعجبه العجب يشكك فى النص القرآنى تشكيكا لم يشككه، فى حدود ما أذكر، أعتى المستشرقين والمبشرين كراهية لهذا الدين ونبيه والكتاب الذى أُنْزِل عليه، ودَعْنا من الحديث والسيرة وغيرهما، فما دام القرآن قد أصبح غير ذى موضوع من حيث الثقة به كوسيلة للاقتراب من فهم الرسول ورسالته، فإن أمر تلك الكتب لا يعود يساوى شيئا. أم تراه يقصد أنه كان للنبى عليه السلام متحف وطنى كانت محفوظة فيه وثائق الدولة التى لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ثلاثين عاما من حفظها، ثم شَبَّ فيه حريق بيد فاعل مجهول من الذين يكثر أمثالهم فى بلادنا أيام جَرْد العُهْدة؟

لكنْ أية وثائق "أولى" و"أساسية" و"كثيرة" تلك التى تتحدث عنها يا دكتور؟ أأنت جاد فيما تقول؟ لقد أضحكتنى فى هذه الأيام السوداء التى تمر بها أمة محمد بن عبد الله الذى تشكك فيه وفى دينه والقرآن الذى نزل عليه، ظنًّا منك أنك ستفعل ما لم يستطعه أحد من أعداء الإسلام، من الوثنيين والشيوعيين واليهود والنصارى وعبّادِ الشياطين وعبّادِ البقر وعبّادِ الخنافس والثعابين وعبّاد ما لا أدرى ماذا أيضا (وكذلك عبّاد ما أدريه، ولكنه لا يقال على الملإ) على مدى أربعة عشر قرنا، ألا وهو تدمير الإسلام، انخداعا بالزَّلَمَة الذى باع لك ترام العتبة ومبانى الميدان كلها بما فيها المطافئ وقسم الشرطة، وأخذ يتخيل ويحلم أنه سيأتى الوقت الذى يتبين فيه أن الفكر الإسلامى والعربى بعد أركون شىء آخر مختلف تماما عن الفكر الإسلامى والعربى قبل أركون، أو بعبارته هو: "ربما راح هذا العمل يشطر تاريخ الفكر الإسلامى، وبالتالى العربى، إلى شطرين: ما قبل أركون، وما بعد أركون"! (انظر كتاب أركون: "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد"/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/ 1990م/ 230). أما إن كنت تقصد بالوثائق الضائعة نُسَخَ القرآن التى تخلص منها المسلمون على عهد عثمان درءًا للفتنة، فقد فاتك، لكونك قليل البضاعة من العلم بالموضوع الذى تتناوله رغم كل الطنطنات والمصطلحات العجيبة التى تكثر منها، أن كتب علوم القرآن، وبخاصة تلك التى تتناول تاريخه وطريقة جمعه، قد احتفظت لنا بأشياء كثيرة جدا جدا من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع بصراحة تامة. ليس هذا فحسب، بل إن تلك الكتب قد أوردت حتى القراءات الشاذة والقراء الذين كانوا يقرأون بها... إلخ دون أدنى حرج، اللهم إلا إذا كان د. أركون يقصد بالوثائق المذكورة شيئا آخر، وهو ما لا أستطيع إزاءه شيئا لأنى لا أُنَجِّم ولا أضرب الودع! ومن هذه الكتب، إذا أحب أن يرجع إليها: "تاريخ القرآن" للزنجانى، و"البرهان فى علوم القرآن" للزركشى، و"الإتقان فى علوم القرآن" للسيوطى، و"مناهل العرفان فى علوم القرآن" للزرقانى، و"الجمع الصوتى الأول للقرآن الكريم" للدكتور لبيب السعيد، و"مباحث فى علوم القرآن" للدكتور صبحى الصالح.

إن أركون يزعم أن ثمة تلاعبات قام بها العقل الإسلامى فى النص القرآنى أثناء "المرور من حالة الكلام الشفوى إلى حالة الكلام المكتوب...وهذا ما فعله أيضا ناشرو السيرة النبوية كابن هشام (مات عام 213 أو 218هـ/ 828 أو 833م)" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 85)، كما يزعم أنه لم يحدث "إجماع، بعد فترة طويلة من الاحتجاج والاختلاف، على شكل ومضمون النص القرآنى، الذى انضم إليه مؤخرا الحديث النبوى المُنْجَز من قِبَل البخارى ومسلم بالنسبة للسنيين، ومن قِبَل الكلينى بالنسبة للشيعيين" إلا فى القرن الرابع الهجرى (المرجع السابق/ 95). وبالمثل نراه يدّعى "أن المسلمين يرفضون منذ القرن العاشر الميلادى (أى منذ القرن الرابع الهجرى الذى قال إنهم قد أجمعوا فيه أخيرا على نص واحد للقرآن كما رأينا) أن يفتحوا تلك الإضبارة الشائكة المتعلقة بتاريخ تشكل المصحف الرسمى، أو بكيفية تشكل هذا المصحف الرسمى تاريخيا" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 79). ولكن أية تلاعبات تلك التى تعرَّض لها النص القرآنى؟ كنا نحب لو أفصح الدكتور حتى نكون على بينة مما يقول ومما ينبغى أن نناقشه، لكنه للأسف لم يحاول أن يبصرنا بما يقصد! وأنا، فى الواقع، لا أستطيع إلا أن أرى فى هذا حيلة ماكرة (حسبما قدَّر، وإن كانت مكشوفة بل مفضوحة عندنا) لإيهام القارئ المسلم أن المسألة من الوضوح والبيان بحيث لا تحتاج لأى تحديد أو تفصيل!

والعجيب أنه يحدد القرن الرابع الهجرى، ولا أدرى على أى أساس ما دام قد أقر قبل ذلك بعدة أسطر بأن عثمان، رضى الله عنه وأرضاه، قد استطاع أن يضع حدا للخلاف فى قراءة القرآن فى فترة خلافته، أى بعد الهجرة بسنوات لا بقرون أربعة كما يحاول الكاتب الأمين أن يلقى فى رُوع قرائه! على أنه لا بد أن نوضح للقارئ الذى لا إحاطة له بمسألة جمع القرآن أن الحديث عن الخلاف فى قراءة القرآن لا يعنى أكثر من أن الرسول قد أخبر المسلمين بنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، إذ رُوعِىَ أن الأغلبية الساحقة من العرب آنذاك كان يصعب عليهم أن يتبعوا فى نطقه لهجة واحدة إذ لم يكن لهم قبل الإسلام دولة تضم شتاتهم ولها لغة رسمية يتبعها الجميع. ثم لما تحققت هذه الوحدة فى ظل الإسلام وترسخت مع الأيام، وأصبحت هناك لغة رسمية واحدة لهذه الدولة، رأى الخليفة وكبار الصحابة أنه لم تعد هناك حاجة للحروف السبعة إلا فى أضيق نطاق، كجمع كلمة أو إفرادها مثلا مما تحتمله الطريقة التى كُتِب بها القرآن وتواترت به الروايات، وإلإبقاء على الهمزة أو تسهيلها، وإخلاص المد بالألف أو إمالته، وهو ما يعرف الآن بالقراءات القرآنية، وهى مسألة محسوبة ومقنَّنة وتم مراعاتها فى طريقة كتابة المصحف التى تسمح بالنطقين عادةً دون أية مشاكل. هذه هى حقيقة المسألة التى يتعمد د. أركون أن يكون حديثه عنها مملوءا بالغموض كى يوحى للقارئ أنه بإزاء قضية خطيرة، وما هى بالخطيرة ولا يحزنون. أما بالنسبة للتلاعب الذى يزعم أنه قد وقع فى النص القرآنى عند انتقاله من المرحلة الشفاهية إلى المرحلة الكتابية فهو كلام لا معنى له ولا وجود إلا على ألسنة من يريدون استبلاهنا، فالقرآن إنما تم تسجيله كتابةً منذ اللحظة الأولى إلى جانب حفظه فى الأذهان مما يجعل من المستحيل التلاعب فيه، وبخاصة فى ظل تقديس المسلمين التام له حتى لقد كان الواحد منهم يفزع أشد الفزع إذا سمع أحدا يقرأ على حرف غير الذى يعرفه، ولا يهدأ له بال إلا حين يتضح له أنه حرف صحيح نزل به أيضا القرآن الكريم، وحين تُوُفِّىَ الرسول عليه السلام قام الصحابة بجمعه فى كتاب واحد بعد أن كان مكتوبا لكن دون أن يشكل كتابا يضمه غلاف...إلى أن جاء عثمان ووجد أن بعض المسلمين لم يتنبهوا إلى الحكمة من "الأحرف السبعة" التى نزل بها القرآن فى البداية تيسيرا عليهم، وظنوا أن القراءة التى يقرأ بها غيرهم على حرف مختلف عن الحرف الذى يقرأونه به هى قراءة خاطئة، مما كان من الممكن أن تترتب عليه فتنة لا يعلم مداها إلا الله، فقام بعد استشارة كبار الصحابة بجمع المسلمين على حرف واحد من هذه الحروف تقريبا وألغى الباقى، وقام بهذا العمل، كالعادة فى كل جمع قرآنى، لجنة وضعت لنفسها منهجا علميا سارت عليه كما يعرف ذلك كل من قرأ تاريخ جمع القرآن، وبهذا انحسمت المسألة. لكن د. أركون يتجاهل هذا كله زاعما أن كتابة القرآن (مجرد كتابته: لاحِظْ) لم تحدث إلا فى عهد عثمان (انظر كتابه "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/77).

فانظر، أيها القارئ الكريم، الفرق بين ما حدث على أرض الواقع وبين ما يهوّل به الدكتور أركون، الذى لم أر، على طول ما قرأت للكتاب من مستشرقين وعرب، من يدانيه فى المقدرة على اللف والدوران حول الموضوع الذى يتناوله وإرهاق ذهن القارئ بإدخاله فى دوامة لا تكاد تنتهى من تفصيلاتِ تفصيلاتِ التفصيلات دون أن يصل به إلى شىء غير الطنطنة بأسماء العلوم الجديدة ومصطلحاتها، وعلى إحداث الفرقعات المخيفة تقليدا للطريقة التى اتبعتها أمريكا عند احتلالها العراق، طريقة "الصدمة والترويع". لكنْ فات الأستاذ الدكتور أن الرصاص الذى يطلقه فى الهواء هو من النوع الفِشِنْك الذى لا يصلح إلا للعب الصبيان!

ثم نصل إلى حكاية الإجماع على النص القرآنى الواحد الذى يقول إنه لم يحدث إلا فى القرن الرابع الهجرى، وكأننا بإزاء مجامع مقدسة كالتى عرفتها النصرانية والتى كانت تبدِّل وتخترع العقائد والطقوس، وتحلّل وتحرّم كما يحلو لها، وكأن الدين مسألة سياسية تخضع للمؤامرات والتربيطات، وليس عقائد وتشريعات ومبادئ خلقية موحًى بها من الله، وينبغى الحفاظ عليها كما أُنْزِلت من لدنه سبحانه وتعالى. وأرجو ألا يظن القارئ أننى، بإشارتى إلى المجامع المقدسة، أعطى كلام أركون معنى أبعد مما يقصد، فهاهو ذا الدرويش التابع يقول بصريح العبارة تعليقًا على كلام شيخه الذى لا يقوم على رجلين: "القرآن لم يُثَبَّت كليا أو نهائيا فى عهد عثمان على عكس ما نظن، وإنما ظل الصراع حوله محتدما حتى القرن الرابع الهجرى حين أُغْلِق نهائيا باتفاق ضمنى بين السنة والشيعة، وذلك لأن استمرارية الصراع كانت ستضر بكلا الطرفين. بعدئذ أصبح معتَبَرًا كنَصٍّ نهائى لا يمكن أن نضيف إليه أى شىء أو نحذف منه أى شىء، وأصبحوا يعاملونه كعمل متكامل على الرغم من تنوع سوره واختلافها فيما بينها من حيث الموضوعات والأساليب" (محمد أركون/ القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114- تعليق بالهامش). وهذا كلام ككلام السكارى لا قيمة له! هل رأيت سكران وهو يتطوح فى الخمارة ثم يسقط تحت الأقدام صائحا بملء فمه: "أنا جدع"؟ فهذا مثل هذا، وإلا فليقل لى أركون أو تابعه: أَنَّى لهما بهذا الكلام الذى لم يرد فى كتب الأولين ولا الآخرين؟ ومتى اتفق السنة والشيعة على ما اتفقوا عليه؟ وأين؟ ربما كان ذلك فى شقة الدكتور أركون وبحضور هاشم صالح فى تلك الجلسة التى نزل الدرويش بعدها إلى شوارع باريس يستعجل فى حسرة تقطِّع القلوب (قلبى أنا على الأقل حتى لقد كدت أبكى لولا بقية من تماسك، رغم نفورى من أم الخبائث نفورا فطريا) مجىء اليوم الذى تصبح فيه المدن العربية مثل باريس تعج بخمارات كتلك التى تتلألأ أضواؤها من حوله؟ (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ 229- 230). أقول: "ربما"، فأنا لم أكن حاضرا هذا اللقاء التاريخى الذى كان شيخ الطريق ودرويشه يقرران فيه مصير الإسلام.

فانظر أيها القارئ الكريم لهذه البهلوانيات التى يراد منا أن نأخذها بجِدٍّ واهتمام بوصفها آخر المنجزات الفكرية. لكن، أيها الدرويش، هل نفهم من أن القرآن ظل نصًّا مفتوحا إلى القرن الرابع الهجرى أنه قد دخله مثلا بعض من رسائل عبد الحميد، على شىء من عبارات الجاحظ، على سطور من سهل بن هارون، على عدة سجعات من أبى العلاء...إلى آخر هذه الزمرة من الكتاب؟ فكيف يا ترى يمكن أن تختلط أساليب أمثال هؤلاء وأفكارهم بأسلوب القرآن وفكره، ومخيالُهم الجماعى (الله يخرب بيت هذا المخيال الجماعى الذى رَبَّى لى العَصَبِىّ!) أكثرُ تحضرا وأعمق ثقافة من مخيال المجتمع الذى كان ينتمى إليه محمد عليه السلام؟ طيب، هل تستطيع أنت أو شيخك العبقرى أن تتشطَّر وتدلّنا على رقعة من تلك الرقع الأسلوبية والفكرية التى دخلت القرآن طوال تلك القرون الأربعة؟ ثم أين كانت أمة المسلمين من ذلك كله حتى إنها لم تعترض أو حتى تعلق مجرد تعليق؟ أكانت مغيَّبة عن الوعى كلها على بكرة أبيها (إلا أنت وأستاذك طبعا، وإلا فكيف عرفتما ما عرفتماه؟) إلى أن تم المراد فأعطَوْها حقنة منبِّهة فقامت لتجد نفسها قد فقدت الذاكرة فى تلك الأثناء فلم تعرف ماذا تم؟

وعلى نفس النحو من اللامبالاة بالعلم وحقائق التاريخ يدعى د. أركون أن المسلمين لم يحاولوا قط منذ القرن الرابع الهجرى أن يفتحوا الملف الشائك الخاص بقضية جمع القرآن، وهى دعوى كاذبة، فالمعروف أن الكلام والبحث فى تاريخ القرآن وجمعه وقراءاته ورسمه ومكّيّه ومدنيّه وناسخه ومنسوخه وتلاوته وأسباب نزوله وإعرابه لم يتوقف يوما حتى هذه اللحظة. ومن الأسماء التى يمكن أن نذكرها بعد القرن الرابع ممن كتبوا فى ذلك الموضوع هذه العينة الضئيلة جدا، وهى مجرد مؤشّّر لما وراءها: مكى بن أبى طالب (ق 4- 5هـ) والواحدى (ق 4- 5هـ) والدانى (ق 5هـ) والشاطبى (ق 6هـ) والسخاوى (ق6- 7هـ) وابن أبى الإصبع المصرى (ق 6-7هـ) والخراز (ق 7- 8هـ) والعُكْبَرى (ق 7هـ) والزركشى (ق 8هـ) وابن القاصح (ق 9هـ) وابن الجزرى (ق 9هـ) والطبلاوى (ق 10هـ) والسيوطى (ق 10هـ) والدمياطى البنا (ق 12هـ) والصفاقسى (ق 12هـ)، وحفنى ناصف والزرقانى ومحمود خليل الحصرى ولبيب السعيد وصبحى الصالح ومحيى الدين الدرويش وعبد الصبور شاهين (ق 20 م). وهذه الأسماء لم تترك شيئا يتصل بالقرآن من غير أن تناقشه فى حرية وتفصيل ودون أية جمجمة، وقد وُجِد من بين العلماء من يبدون آراء تخالف ما عليه الجمهور بوجه عام قديما وحديثا، وهذا معروف عند دارسى علوم القرآن، علاوة على كتب التفسير المختلفة، وهى لا تكاد تُحْصَر، وتمثل محيطا زخّارا يضم فى جوفه الهائل المهول لآلئ لا تقدَّر بثمن من كل أنواع العلوم القرآنية كما هو معلوم. والقائمة أكبر كثيرا جدا من هذا على ما يعرف الدارسون، لكن أركون يطلق الكلام على عواهنه متصورا أن لَوْكه للمصطلحات الفارغة والتفيهق بها سوف يُشِلّ منا العقول فنخرّ صرعى أمام سحر بلاغته الطنطانة الفارغة، وقد فغرتْ أفواهنا اندهاشا بل انشداها بما يقول. مرة أخرى: مسكين! كان الله فى عونه!

لقد رأينا الدكتور أركون ينحاز للرأى القائل بإرجاع الدين إلى المخيال الجماعى، بمعنى أن الأنبياء ليسوا إلا معبرين عن ثقافة أممهم وتطلعاتها وأوهامها، فلا وحى ولا اتصال بالسماء البتة! وفاته أن يتنبه للواقع الذى يخزق الأعين والذى يجرى بعكس هذا الذى يزعمه تماما، فكلنا نعرف أن الأنبياء والمصلحين إنما يسبحون ضد التيار، ويظلون وقتا طويلا مكروهين من المجتمع الذى ينتمون إليه ويحاولون أن يهدوه سواء السبيل. بل إنهم ليتعرضون أثناء ذلك إلى ضروب من العنت والمشقة والأذى والإهانة والحصار والتضييق فى لقمة العيش، بل السجن والقتل أيضا. وهذا من الشهرة بحيث لا أظن أركون أو غير أركون يستطيع أن يجادل فيه ولو للحظة. ثم إن أممهم لا تؤمن، إن آمنت، إلا بعد اللَّتَيّا والّتِى حتى إن المستشرقين والمبشرين من أساتذتك وأحبابك، وقد فوجئوا بنجاح محمد ودينه على عكس ما كانوا يرغبون، قد زعموا، ويا لبؤس ما زعموا، أنه عليه السلام إنما أكره العرب بالسيف على الدخول فى دينه! كذلك قد يموت النبى أو المصلح دون أن يَحْدُث أى تغيير فى المجتمع الذى قام من أجل تطويره. ولا أدرى كيف نَسِىَ أركون ما أخذ يبدئ فيه ويعيد فى لذة شامتة من أن المشركين، حين أتاهم الرسول بدعوته، قد رفضوا أن يؤمنوا بما يقول إلا إذا جاءهم بدليل. على حين أن الدليل الذى يلح عليه سيادته لم يكن يزيد على بعض المطالب المتعنتة التى أراد المشركون من ورائها تغيير نظام الطبيعة دون أن يحاولوا إعمال عقولهم التى وهبها الله لهم لتُسْتَعْمَل فى مثل هذه المواقف لا لتُهْمَل ويتعلق أصحابها بتلك المطالب الطفولية التى كان لا بد أن تلقيها البشرية خلف ظهرها وتستقبل مرحلة أخرى يقوم الأمر فيها على الدليل العقلى لا الدليل الإعجازى الذى لجأ إليه أنبياءُ كُثْرٌ من قبل، ومع هذا لم يكن حالهم مع أقوامهم ولا النتيجة التى وصلوا إليها مع هؤلاء الأقوام أفضل مما وصل إليه محمد، بل ولا عشر معشار ما وصل إليه محمد!

وأذكِّرك يا دكتور، إن كنت قد نسيت على عادة من يغيرون كلامهم فى كل موقف ويلبسون لكل حال لبوسها ناسين كعادتهم أيضا أن يراعوا الحكمة القائلة: "إذا كنتَ كَذوبا فكن ذَكورا"، بأنك قلت إن المشركين فى مطالبهم تلك إنما كانوا يعبرون عن "الذات الجماعية" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 97)! فمن يعبر إذن عن المخيال الجماعى (أو الذات الجماعية: لا فرق ذا بال): الرسول أم المشركون من قومه؟ لقد احترتُ واحتار دليلى معك كما احتار دليل رامى وكوكب الشرق! لكن، أيها القارئ الكريم، لا تأخذ فى بالك، فالأستاذ الدكتور لا يدرى ماذا يقول، بل كل ما يريده هو محاربة الإسلام بأى شكل، على طريقة مبدإ مدربى الكرة الفاشلين عندنا: "الذى تغلب به، العبْ به" دون أن يكون للفن أو الموهبة أو متعة الجمهور أى اعتبار. المهم النقاط الثلاث! والنتيجة هى الصفر المونديالى الكبير! كذلك كيف تفسر لنا يا دكتور أركون كيف أن دين محمد قد انتشر هذا الانتشار الواسع خارج بلاد العرب والمجتمع العربى وما زال ينتشر حتى الآن، ودخل فيه أمثال دينيه وجِرْمانوس ولِنْجز وكاوون وجارودى وماسون وبوكاى وهوفمان وكلاى ويوسف إسلام وغيرهم بالملايين من الأوربيين والأمريكيين، ومنهم الآنسة الفرنسية الجميلة التى حلقت شعر رأسها احتجاجا على القانون الجائر الذى كنتَ من كبار عَرّابيه، وكلُّ شعب من الشعوب التى دخلت الإسلام مِخْيَالُه الجماعى يختلف عن مخيال العرب ومخاييل الشعوب الأخرى؟

ثم ما دامت النبوة والإصلاح هى من بنات "المخيال الجماعى"، فلماذا لا تقول هذا لنفسك وتَرْبَع على ظَلْعك وتريحنا وتستريح معنا، إذ معنى ذلك أن كل ما تتعب قلبك وقلوبنا لكى تقنعنا به لن يكون له أى تأثير علينا ولن يدخل فى عقولنا أو قلوبنا، لأنه ببساطة ليس نتاجا لمخيالنا الجماعى، الذى لا يعرف شيئا اسمه "العلمانية" أو "الحداثة" أو "عقل الأنوار"... إلى آخر هذه الرطانات التى تمضغها وتلوكها عبثا، والتى لا فائدة منها معنا حتى لو ظللت تمضغها وتلوكها وتنقلها عن هذا الشِّدْق لذاك من هنا إلى يوم يبعثون؟ "مخيالنا الجماعى"، يا خواجه أركون، هو مخيال "الفتَّة والطَّبْلِيّة ولعق الأصابع بعد الأكل بها وصلِّ على النبى وقال الله وقال الرسول، و(لا تنس بالمرة) الثلاث طوبات!"، أما هذا الذى تهذى به فهو ليس لنا بمخيال! أرأيت أنك لا تستطيع أن تقول شيئا متناسقا بعضه مع بعض؟ إن كلامك مفكَّك يُنْكِر ذيلُه رأسَه، بل لا رأس له فى الواقع أصلا ولا ذيل، ولا يترتب عليه إلا تصديع أدمغتنا بمصطلحاتك وتحليلاتك المملوءة ثرثرة بغيضة وتعالما وحذلقة ثقيلة الظل والروح! وفضلا عن ذلك هل تحسب أننا من البلاهة بحيث يمكن أن يدور فى وهمنا للحظة واحدة أن الغرب أو تلامذة الغرب وذيوله تهمهم مصلحتنا؟ إن المسألة كلها لا تخرج عن رغبة الغرب الحارقة فى القضاء على الإسلام فى عقولنا وقلوبنا على السواء حتى يكون مضغهم لنا وهضمهم للحومنا سَلِسًا لا غصّة فيه ولا عُسْر هضمٍ أو مَغْص! إنهم ينظرون فيَرَوْن أن المسلمين، رغم كل التخلف الذى هم فيه وقِصَر ذات يدهم علميا وإداريا وعسكريا وصناعيا، ما زالوا يقاومون ويقفون فى طريق المخططات التى يراد منها تركيعهم التركيع النهائى رغم أنه ليس فى أيديهم دبابة ولا قنبلة ولا طائرة دون أن يبالوا بأى شىء مسترخصين حياتهم وأموالهم فى سبيل الحفاظ على الدين والكرامة، وهذا ما يؤرق الغرب ويعمل بكل ما لديه من قوة على تحطيمه. وهو يعرف أن السر فى هذه القوة التى يرخص فيها كل شىء على نفس المسلم هو الإيمان بالجنة، ومن ثم فلا بد من القضاء على الإيمان بجنة محمد وقرآنه، ولا بد من تجنيد كل الإمكانات التى يؤمِّلون من ورائها بلوغ هذا الهدف الشيطانى، ومنها إطلاق الأذناب التى تتخذ أسماء إسلامية على أبناء الإسلام تشككهم فى دينهم، آملين أن يكون لتشكيكها أثر أقوى وأبعد، وأن تكون مقاومة هذا التشكيك أضعف وأسرع اضمحلالا! ولا تنس، بالله عليك أيها القارئ، أن تقرأ عنّى الفاتحة لسيدى "المخيال"، فسِرّه باتع كما يؤكد الشيخ أركون!

ولكى يكتمل النَّصْب ويكون نَصْبًا على أصوله يزعم هؤلاء أنهم إنما يفعلون ذلك لتحرير العرب والمسلمين. أى أن تشكيك العرب والمسلمين فى دينهم، وهو الورقة الأخيرة فى أيديهم التى يناضلون بها عن وجودهم وكيانهم وشخصيتهم حتى لا ينقرضوا، أو على الأقل حتى لا يذوبوا فى الغربيين ويصبحوا مجرد أذناب تفقد مسوغ وجودها مع الأيام فيقوم المجرمون ببترها لكى يثبتوا صحة نظرية "البقاء للأصلح" التى جاء بها تشارلز داروين. إن هاشم صالح لا يكتفى بترجمة ما يكتبه شيخه، بل يحرص فى كثير من الأحيان على التعليق عليه فى الهوامش تعزيزا وتعضيدا لأفكار شيخه كى يقال عنه إنه قد شارك فى التأليف، أو كما يكتب هو أحيانا على غلاف الكتاب: "ترجمة وإسهام فلان"، وكأن المسألة ناقصة هاشم صالح. فى كتاب لأركون اسمه "معارك من أجل الأنسنة فى السياقات الإسلامية" (يا حفيظ! استر علينا يا رب! أهذا بالله كلام يستحق الانتماء إلى لغة العرب، لغة الوضوح والإشراق والبيان؟ إنه عنوان يذكرنا بوجه الخنزير قُبْحًا، وذنَب الضَّب تعقيدًا! ولكن ما علينا، فلنعصر عليه ليمونة تدفع عنا شعور الغثيان ولنمض فيما نحن فيه!) فى ذلك الكتاب المذكور يتناول أركون كتاب "الإعلام بمناقب الإسلام" الذى وضعه أبو الحسن العامرى (ق 4هـ) يشيد فيه بدين محمد ويثبت أنه الدين الذى يضمن للمؤمنين به سعادة الدنيا والآخرة. وبطبيعة الحال لا يعجب هذا الكلام البروفيسور أركون فيلفّ ويدور كعادته آتيًا كم شقلباظا من شقلباظاته الفكرية ومرصِّعًا كلامه بِكَمْ مصطلح من مصطلحاته الحداثية لزوم الإبهار وتدويخ القارئ العربى وإيهامه بأنه أمام أستاذ خطير نحرير صاحب فكر عميق لا يصلح معه إلا التسليم به والخُرُور عليه فى صَمَمٍ وعَمًى وبَكَم تامّ دون أن يفتح فمه بكلمة ولو ليوحِّد بها الله. ومن بين ما فعله مؤلفنا الشقلباظى فى العيب على الكتاب المذكور والحطّ من شأنه اتهامُه بالدفاع عما سماه: "السياج المغلق"، يقصد أن يقول: الجمود الغبى الذى يسوّل للمسلم بأن يرى فى دينه أفضل الأديان، تعصّبًا منه لعقيدته التى لا تسمح بالمناقشة ولا المراجعة والتى لا تستطيع أن ترى أو تسير إلا فى اتجاه واحد دون عقل أو تفكير! يعنى: كالحصان الذى وضعوا على عينيه غمامتين فهو لا يرى إلا ما أمامه وفى أضيق نطاق.

وفى هذا السياق، وبدلا من اكتفاء هاشم صالح بالترجمة بأسلوبه الـمملوء بالأخطاء اللغوية، وبخاصةٍ لازمته العجيبة: "كما وأَنّ" التى لا أدرى أى شيطان زوَّده بها ونفخ فى رُوعه أن يكثر من ترديدها لدرجة تكاد تفقدنى رشدى لولا لطف الله بعبده الضعيف، نراه يتدخل بتعليقاته التى لا يخطر فى باله مرة أن يعتقنا منها قائلا فى الهامش تعليقا على مصطلح "السياج المغلق": "يمكن اعتبار فكر محمد أركون كله بمثابة تفكيك لهذا السياج المغلق والراسخ منذ العصور الوسطى. وهذا هو معنى نقد العقل الإسلامى. إنها محاولة لتبيان كيفية تشكُّل هذا العقل فى العصور الأولى وكيفية ترسُّخه فيما بعد بصفته عقلا مثاليا مطلقا لا يناقَش ولا يُمَسّ. ومن الواضح (وأرجو أن تأخذ بالك أيها القارئ لما يلى لترى الدَّجَل الشقلباظى كما ينبغى أن يكون، وإلا فلا)، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يحصل أى تحرير فى الأرض العربية أو الإسلامية إن لم نبتدئ بتفكيك هذا الانغلاق التاريخى المزمن. فى الواقع إن العقل الإسلامى هو عقل تاريخى، أى أن له لحظة انبثاق تاريخية محددة تماما ويمكن الكشف عنها. وما إن تنكشف تاريخية العقل الإسلامى حتى تحصل زلزلة أرضية تشبه الزلزلة الفكرية التى حصلت فى أوربا بعد الكشف عن تاريخية العقل اللاهوتى المسيحى" (دار الساقى/ بيروت/ 2001م/ 252). ولقد أغنانا الحداثيون والعلمانيون والملاحدة عن أن ننتظر حتى يقع هذا الزلزال لنرى توابعه، فهاهم أولاء من حولنا فى كل مكان، ونعرف أخلاقهم وتصرفاتهم كما نعرف ظهور أَكُفِّنا وزيادة، وندرك جيدا ما الذى ينتظرنا لو نجح هذا المخطط الشيطانى نجاحا تاما ولم يقتصر أمره على هؤلاء الأكروباتيين بل عمَّ الأمة كلها. إن شقلباظيِّينا المفضوحين لا هَمَّ لهم إلا الخمر والجسد والدعوة إلى الحرية الجنسية بوصف ذلك كله وأمثاله حقا من حقوق الجسد وصاحبه.

وهاهم أولاء أيضا يقفون على النواصى ويعترضوننا فى الطرقات يسوِّقون التبعية الذليلة لأمريكا والغرب، تلك التبعية التى لا تؤدى إلا إلى الدمار والضياع. ليس ذلك فحسب، بل يقتحم كثير منهم أوطان الإسلام فوق دبابات المستعمر الذى جلبهم معه من بلاده حيث كانوا يعيشون بعيدا عن أمتهم وقد تخَلَّوْا عن دينها ونمط أخلاقها واتبعوا دينه وخلقه وسلوكه. ألم تكفنا العقود الطويلة التى اجتاح الجرادُ الغربىُّ فيها بلادنا ونهَب ثرواتنا وأذلَّنا وعمل كل ما فى طاقته للإبقاء علينا متخلفين لا نفكر فى شىء آخر غير أن نكون خدما بل عبيدا له؟ طيب يا أخى، إذا كانت أوربا قد نَضَتْ عن نفسها رداء الكهنوت الدينى فهذا أمر طبيعى كان ينبغى أن يتم منذ قرون حين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الصحيح ونبَّه أهل الإنجيل إلى ما صنعوه بدينهم من تزوير وتحريف وتوثين وتشويه للعقيدة والتشريع، أى حولوه من دين إلهى إلى فكر بشرى هو بطبيعته ابن الأرض ونتاج التاريخ، علاوة على أن دينهم قد نزل أصلا ليواجه مطالب مرحلة تاريخية فقط ولقوم معينين يعيشون فى بقعة جغرافية معينة، ثم يذهب لحال سبيله بعد أن يشرق نور الإسلام. أما نحن، أصحاب الرسالة العالمية التى لا تحدها أية حدود تاريخية أو جغرافية أو قومية، فماذا عندنا من تحريفٍ أو تشويهٍ لنصوص الوحى أو عبثٍ وتلاعبٍ بالعقائد والتشريعات الواردة فيه حتى نصنع ما صنعته أوربا؟ ألم يسمع مستشارو السوء بقول الرسول العظيم: "لا يكن أحدُكم إمَّعة"؟ بلى لقد سمعوا به وبغيره مما أتى به سيد الخلق لعزّ الدنيا والآخرة، لكنهم يكرهون العزة والكرامة ورسول العزة الكرامة، ويؤثرون عليهما الهوان والانبطاح أمام البلطجيين الدوليين.

إن الإسلام لا غيره، رغم قلة إمكانات المسلمين العلمية والاقتصادية والعسكرية والتنظيمية فى هذا الطور المخزى من تاريخهم، هو الذى حرر بلاد العرب والمسلمين من الاستعمار الغربى الكافر المجرم، وهو الذى لا يزال يقف شوكة فى حلوق هؤلاء البلطجية العالميين، وهم يريدون اقتلاع هذه الشوكة بكل الوسائل، ومن بينها أمثال هذه الكتب التى يؤلفها كاتبنا الشقلباظى، ويترجمها له ننُّوس عَيْنه. هذه هى الحكاية بالمفتشر، أما "الشقلباظات" الأركونية، وكذلك "الإسهامات" الهاشمية الصالحية (التى تريد أيضا أن تبعث من رقدة العدم منصور فهمى ورسالته التى شجعه المستشرقون على أن ينال فيها من الرسول والإسلام، إن لم يكن قد كتبوها بأنفسهم له حسبما قرأتُ مرةً لأحد العارفين بخفايا الأمر، ومنحوه عليها درجة الدكتورية، وكان مشرفه فيها هو البهودى ليفى بريل)، فهى شقلباظات وإسهامات ضالّة مضلّة لا تجوز إلا على النَّوْكَى والمغفَّلين، نعوذ بالله أن نكون من النَّوْكى أو المغفَّلين أو الشقلباظيين أو الإسهاميين. آمين، يا أكرم الأكرمين! إن ما ينادى به أركون وتابعه (...) لَيُشْبِه ما تقوم به أمريكا الآن فى العراق، الذى كان عامرا، والحمد لله. إنها تريد إعماره، وبما أنه كان عامرا فلا بد من تدميره إذن وتخريبه حتى يمكن تعميره لأن تعمير المعمَّر مستحيل كما هو معروف: فهذا شىء لزوم الشىء، أى أن الخراب هنا لازم لتحقيق العمار. وعلى نفس المنوال فلا بد أن يزلزل أركون وجماعته الإسلام (الذى يقاوم مخططات الاستعمار وعدواناته الإجرامية الوحشية وقام وما زال يقوم بمهمته التحريرية العظيمة على خير ما يرام) حتى يمكن أن يبثوا فى نفوس المسلمين الروح التحررية، إذ من غير الممكن أن تُبَثّ الروح التحررية فى نفوسهم فى الوقت الذى لا تزال هذه الروح موجودة بداخلهم. أى أن الخراب هنا أيضا لازم لتحقيق العمار! وعند خراب بصرة يكون قد تحقق، بحمدالله، تحرر المسلمين، ولكن مِنْ ماذا؟ من الإسلام طبعا، وهل هناك غيره؟ ومن ثم يكون قد تم القضاء على الروح التحررية تماما فى نفوس المسلمين. وهذا هو المطلوب، وهذه هى المهمة التى يمنّ علينا هاشم صالح بأن أركون يؤديها خدمةً لنا وعشقًا لسواد عيوننا! مسكين أركون وتابعه!

قلنا إن أركون يتباكى على ضياع "وثائق مهمة وأساسية" كانت كفيلة بأن تكشف لنا لغز النبوة لو لم تَضِع، ورغم أننا سخرنا من هذا الكلام المتهافت فإننا سنغضى على ما فيه من تفاهة وسنعامله على أنه كلام يقبل المناقشة: أتراك يا د. أركون لو وصلتْ إليك هذه الوثائق (رغم أنى لا أعرف عن أى وثائق تتحدث)، أكنتَ ستسكت فلا تكفّ عن إثارة الاعتراضات؟ لا إخال أبدا، بل أُرَجِّح، بل أكاد أجزم موقنا، أنك كنت ستتعلل بأنك لا تستطيع أن تصدر حكما فى الأمر لأنك لم تشاهد النبى وهو يمارس النبوة. وحتى لو تحققت لك هذه الأمنية فلا أحسب إلا أنك ستتحجج بأنك تريد أن تَخْبُر تجربة النبوة من الداخل بنفسك وأن تعيشها كما عاشها النبى ولا تكتفى بمشاهدته وهو يتلقى الوحى، أى أن تكون أنت أيضا نبيا. لكنك نسيت أنّ هذا، وإنْ حَلّ المشكلة بالنسبة لك، فلن يحُلّها بالنسبة للآخرين الذين سيكون من حقهم هم أيضا أن يقولوا، مثلما قلتَ، إنهم يريدون أن يَخْبُروا تجربة النبوة خُبْرًا مباشرا...وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة سوف يصبح الناس جميعا أنبياء، ولكن إلى من يتوجهون بدعوتهم؟ إلى لا أحد، وبذلك تفقد النبوة معناها. لقد فاتك، فى الواقع، شىء مهم لم تُرِد أن تلمسه رغم أنه كان ينبغى أن يكون أول شىء تتناوله، ألا وهو دراسة شخصية النبى، والظروف التى كان الوحى ينزل فيها، والأعراض التى كانت تصاحبه، والمضمون الذى اشتمل عليه، والاتهامات التى وُجِّهَتْ إلى متلقى هذا الوحى زاعمة أنه إنما كان يعلمه بشر أو أن القرآن ليس سوى كلام من تأليفه هو...إلخ. فهل فى شخصية النبى ما يجعلك تشكّ فى إلاهية المصدر القرآنى، وبخاصة بعدما فندنا نظريتك المتهافتة فى "المخيال الجماعى" ؟ أقول: "نظريتك" على سبيل المجاز، فأنت لا تزيد على أن وجدتَها فى الفكر الأوربى فوضعتَ يدك عليها وقلت: ما المانع فى أن ننتفع بها فى الشغب على الإسلام؟ ترى هل كان النبى كذابا؟ أم هل كان من المصابين بالهَلاوِس أو الصَّرْع مثلا؟

لقد درستُ هذه الاتهامات بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن" وحاولتُ أن أعثر بين أوراق الدعاوى التى يرفعها مكذِّبو النبى فى وجهه على أية شهادة، مكتوبة أو شفوية، ذَكَر فيها أحدٌ ممن اتُّهِم النبى بالإفادة منهم أنه قد تعلم على أيديهم وأخذ مادة القرآن عنهم فلم أجد شيئا من هذا البتة! بالعكس لقد اتضح لى أن هؤلاء الذين اتُّهِم النبى بالاستفادة منهم إما أسلموا أو، إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته عليه السلام، قد أسلم أبناؤهم وأقاربهم. كما كان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان قد طمع فى النبوة لنفسه زمنا، فلم يا ترى لم يقل إن محمدا قدتعلم منه، وقد كان شاعرا، وهو ما كان كفيلا أن يجعل كلامه يجلجل فى أرجاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ويفضح النبى فضيحة الأبد؟ كذلك لِمْ لَمْ يفتح فمه بحيرا، الذى طالما أبدأ المرجفون باسمه وأعادوا، ويقول: نعم، لقد تعلم محمد منى كذا وكذا؟ لقد كان الرسول فى ذلك الوقت مستضعفا أشد الاستضعاف هو وأتباعه فى مكة، ومن ثم فليس من الممكن أن يتذرع أحد من المتَّهِمين بأن هؤلاء الشهود لم يتكلموا لأنهم كانوا يخشَوْن بأس محمد وسطوته وسلطانه، إذ لم يكن له فى أم القرى أى سلطان. ثم ها هى ذى حياة النبى عليه السلام واضحة جلية تمام الوضوح والجلاء، وليس فيها ما يمكن اتهامه بسببه بالكذب أو المرض النفسى والعصبى، علاوة على أن الأعراض التى كانت تصاحب الوحى لا تشبه من قريب أو من بعيد أَيًّا من أعراض الصَّرْع أو الهلوسات أو الهستريا على ما بَيَّنّا فى كتابنا المومإ إليه.

ولعله يحسن فى هذا السياق أن نشير إلى الطريقة التى اتبعها كاتب مادة "Muhammad" فى الطبعة الأولى من "Encyclopaedia of Islam"، وهى تشبه طريقة محمد أركون فى معاندة الحق واعتماد أسلوب اللف والدوران بغية تجنب المواجهة مع ذلك الحق فى عينيه، إذ زعم أن الأطباء النفسيين المحدثين يعترفون بصحة تشخيص الأعراض المصاحبة للوحى على أنها أعراض الصَّرْع، وإن سارع عقب هذا مباشرة إلى القول بأننا "يجب أن ندعهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة"، وذلك دون أن يذكر لنا اسما واحدا (واحدا فقط) من هؤلاء الأطباء المزعومين، فضلا عما فى كلامه من تناقض ساطع يراه حتى الأكمه، إذ بعد أن يؤكد أن الأطباء قد شخّصوا حالة الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس إصابته بالصَّرْع يعود فى الحال قائلا: "فلنتركهم يقررون بأنفسهم طبيعة مرضه بدقة"، أى أنهم لم يقرروا بعدُ طبيعةَ مرضه، وهو ما يكشف أن كاتب هذا الهراء مستشرقٌ محترقٌ وكذابٌ أَشِرٌ من الذين سيَصْلَوْن جهنم فى الدرك السفل منها مع الأنذال الجامعين بين الكفر والنفاق. وغنىٌّ عن القول أن من بين المستشرقين والمبشرين من يعترض على اتهام الرسول بالصَّرْع مثل ألفرد جيوم فى كتابه "Islam" (Pelikan Books, 1964, P. 25).

كذلك عندنا مضمون الوحى، فهل فيه ما ينبئ أنه يعكس رغبات النبى وكراهاته أو آماله وآلامه أو أفراحه وأشجانه؟ أبدا، فقد ماتت خديجة مثلا هى وأبو طالب فى العام العاشر للبعثة، وكان حزن النبى عليهما من الشدة والألم أَنْ سُمِّىَ العام الذى ماتا فيه: "عام الحزن"، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع؟ وبالمثل مات ابنه إبراهيم، الذى رُزِقَه على كبر، وبعد أن سمع سخفا كثيرا ووقاحة من المشركين فى بداية الدعوة مرارا وتكرارا ينبذونه بـ"الأبتر" جَرّاءَ موت أولاده الذكور واحدا واحدا فى صغرهم، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع ولو لتعزية النبى والتسرية عن فؤاده؟ أبدا. ومعروف أنه كان يحب عائشة لجمالها وصباها وذكائها وشدة حبها له ولأنها، فوق ذلك كله، ابنة صديقه الحميم أبى بكر، فهل فى القرآن ما يمكن أن يُشْتَمّ منه رائحة الفرح حين بنى عليه السلام بها، وهو الذى قال المبشرون والمستشرقون فى زواجه منها وفارق السن بينه وبينها وتدلهه فى هواها الكثير؟ إن القرآن الكريم يخلو حتى من مجرد ذكر اسمها كما يعرف الجميع. وبالمثل هل يجد أحد فى القرآن ما يشى بوقع الانتصار العظيم الذى أحرزه المسلمون فى بدر على غير ما كانوا يتوقعون؟ أبدا...وهكذا، وهكذا مما يدل على أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من لدن محمد على أى نحو من الأنحاء.

ويزيد الأمر يقينا الدراسة الطويلة والمفصلة التى قام بها كاتب هذه السطور بعنوان "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" والتى ثبت من خلالها بطريقة علمية إحصائية أن أسلوب القرآن شىء آخر مختلف تماما عن أسلوب الأحاديث. والكتاب يقع فى 600 صفحة لمن يريد أن يرسو على شاطئ اليقين لا أن يعاند لأن هناك من كلفه بالعناد والشغب على دين محمد. ثم هناك النبوءات، والحقائق العلمية القاطعة التى ذكرها القرآن الكريم، والروح الإلهى الذى يترقرق فى كل آية من آياته والذى يخلو تماما من أى ملمح إنسانى مهما صغر. وفضلا عن ذلك كله فالمقارنة بين القرآن والكتب التى يقال كذبا إنه مأخوذ منها تبرهن بأجلى برهان وأقواه أنه لا يمكن أن يكون قد تأثر بتلك الكتب لأنه كثيرا ما يخالف تلك الكتب ويكون الحق والمنطق وحقائق التاريخ والعلم فى جانبه هو. ويجد القارئ هذه الموضوعات فى كتبى التالية: "مصدر القرآن"، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" والدراسات التى وضعتها عن سُوَر "طه" و"المائدة" و"يوسف"...إلخ. حتى النصوص التى يزعم فريق من الشيعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان، وكأن القرآن لعبة فى يد مجموعة من الأطفال يعبثون بها ويحطمونها كما يشاؤون دون أن يجدوا من يعقّب عليهم، هذه النصوص قد اخترتُ من بينها السورة الكاملة، وهى سورة "النورين" التى لا تزيد على صفحتين بحال إن لم تقلّ، وحللتها فى خمسين صفحة كاملة لأجد فى نهاية المطاف أنه لا توجد أية وشيجة بينها وبين أسلوب القرآن ولو فى آية أو جملة واحدة. وهذا، لمن يبحث عن الحق لا المشاغبة، متاح فى كتابى "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، فوق أن علماء الشيعة جميعا ينفون نفيا قاطعا أنه كان هناك فى يوم من الأيام نصوص قرآنية زيادة على تلك التى فى المصحف المعروف للناس كلهم. ومِثْلُ سورة "النورين" الجملتان اللتان تُسَمَّيان: "آيتَىِ الغرانيق" واللتان أقدم ريجى بلاشير بغَشْمٍ وتهورٍ على إثباتهما فى سورة "النجم" فى ترجمته الفرنسية للقرآن، فقد ثبت من خلال التحليل الأسلوبى المتأنى الذى قمتُ به فى كتابىَّ: "ماذا بعد إعلان سلمان رشدى توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" أنهما لا تمتان لكتاب الله بأية صلة.

وأخيرًا، وليس آخِرًا، ما الذى جاء به القرآن فى مجال العقيدة والتوجيهات الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية مما يمكن أن يكون محل انتقاد على أساس أنه يعوق سير الحضارة أو أنه يكبّل العقل البشرى بقيود تمنعه من أداء مهمته فى التفكير والاستكشاف مهما وقع أثناء ذلك من أخطاء؟ أهو التوحيدُ ومحاربةُ الثنويةِ والتثليثِ والوثنيةِ؟ أهو عالميّة الربوبية وعدم اقتصارها على قوم بعينهم مهما أثبتوا بسلوكهم الدنس وأنانيتهم البشعة أنهم لا يستحقون ذرة واحدة من هذا التركيز عليهم دون سائر الخلق؟ أهو الرحمة التى يكرر القرآن أن الله سيعامل بها عباده يوم الحساب، وأن الحسنة ستكون بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، على حين أن صاحب السيئة سيُجْزَى عليها بمثلها، وقد يغفرها الله له فلا يكون ثَمَّ حساب عليها أصلا؟ ولا نَنْسَ أيضا البعد الثقافى والافتصادى المتمثل فى الإعلاء من شأن العمل والإنتاج والإبداع والتنفير من الكسل والاعتماد على الآخرين دون موجب، هذا البعد الذى يكمّله الحث الدائم على الصبر، سواء فى ذلك الصبر على المكاره ومتاعب الحياة وحدثانها المزعجة أو على مشقات العمل والجهاد ومكافحة آفات النفس وعوامل الانهيار فى المجتمع، كما يكمّله التبغيض العنيف فى الاستسلام لمشاعر اليأس أو القنوط من رَوْح الله، مع التلويح من الجهة المقابلة بأن الرحمة الإلهية لا تغيب أبدا وأن مع العسر، مهما تكاثف واشتد، يُسْرَيْن لا يُسْرًا واحدا. وبالمثل لا ينبغى أن ننسى البعدَ الاجتماعى فى القرآن الكريم حيث جعل للفقراء والمحتاجين نصيبا مفروضا فى أموال الأغنياء يخرجونه على سبيل الوجوب لا مَنًّا ولا تفضُّلا. كذلك لا يفوتنا هنا أن نشير إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام إن المجتهد إذا أخطأ فله أجر. إنه لم يقل إن عقابه سيخفَّف، أو إنه سيحظى بالعفو، بل قال إنه يأخذ أجرا، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب فلسفى أو أى نظام سياسى أو اجتماعى. والحق أنه لو لم يكن فى الإسلام فى مجال الفكر إلا هذا المبدأ الأخير لكفاه فخرًا واستحقاقًا لأن يُقْبِل الناس عليه إقبالا ويدخلوا فى فسطاطه مباهين!

على أن مناقشتنا للدكتور أركون فى موضوع القرآن لن تقف عند كلامه النظرى فيه، إذ إن له جهودا تطبيقية أراد بها أن يقدم تحليلا للخطاب القرآنى على حد تعبيره بدلا مما سماه: "التفسير الموروث". وهو فى هذه الجهود كثير الدعاوى يركب المراكب الوعرة ملوِّحًا بسوطه فى الهواء محدثًا فرقعاتٍ تلقى الرعب فى قلوب غير المتمرسين، إذ يظنون أن الرجل سوف يكرّ على خصومه فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ويفتك بهم كما تصنع الحمم البركانية بمن قدر له حظه التاعس أن يسكن قريبا من فوهة بركانها، ليفاجأوا به فى نهاية المطاف وقد ثَنَى عِنَان جواده الهزيل "للخلف دُرْ" وأخذ يعدو بأقصى سرعته وكأنه قد برز له عفريت فجأة ألقى الجزع والفزع فى قلبه الخفيف الرهيف. كذلك سوف نراه يتناقض من موضع إلى آخر، وقد يكون مجال التناقض فقرتين متتاليتين. ثم إنه كثيرا ما يَعْلَق فى شَرَكٍ يكون قد وضعه هو بنفسه فى التراب موهما نفسه وإيانا بأنه سوف يصطاد به الذئب ويجىء به من ذيله، لكنه سرعان ما يقع هو لا الذئب فى هذا الشَّرَك، ثم لا يستطيع تخليص نفسه منه ويظل يضرب بجناحه على غير هدى ولا أمل فى الفرج بأية حال. وإليكم البيان: فى إحدى هذه الفرقعات الخنفشارية، وتحديدا فى مدخل محاولته تحليل سورة "الفاتحة"، نراه يضع عدة "إضاءات" يقدم بها لهذا التحليل، وعلى رأس هذه الإضاءات قوله: "إن القرآن مدونة متجانسة...كل العبارات التى يحتويها كانت قد أُنْتِجِتْ فى نفس الوضعية العامة للكلام أو نفس الظرف العام للخطاب" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114). وقد فسر تابعه "..." معنى الظرف العام للخطاب بأن "كل خطاب أو كلام يقال فى ظرف معين أو أحوال معينة، والذين يحضرون الجلسة التى قيل فيها هذا الكلام يفهمونه بشكل أفضل من الغائبين الذين يطَّلعون عليه قراءةً" (بالهامش). وليس لهذا من معنى إلا أن القرآن كله قد نزل فى نفس الظروف العامة للخطاب، وهى الظروف التى حددها أركون بعد أسطر بأنها ثلاث وعشرون سنة. أى أن القرآن قد انتهى تشكّله فى حياة الرسول، ولم يستمر نصًّا مفتوحا يُزاد فيه ويُنْقَص طَوال عدة قرون كما رأينا قبل قليل! ولعل القراء الكرام يذكرون أن الكاتب العبقرى قد قال فى موضع ثالث إن القرآن قد أخذ صورته النهائية على عهد عثمان. أرأيتم إلى هذا التناقض الفِجّ العارى فى هذه المساحة الضيقة من السطور والصفحات؟

كذلك ففى مقارنته بين طريقته فى تناول النص القرآنى التى يسميها: "بروتوكول القراءة الألسنى النقدى" وبين الطريقة التى يتبعها المفسرون المسلمون والتى يُطْلِق عليها سعادته: "البروتوكول التفسيرى" يبدأ بتعداد المبادئ التى تقوم عليها القراءة التفسيرية كما يراها والتى ينظر إليها بترفع بوصفها أثرا من مخلفات الماضى التى ينبغى أن تُزَال، ذاكرا من بينها أن الحقيقة التى يتضمنها القرآن، والتى هى الحقيقة الوحيدة حسب الرؤية التقليدية للمسلمين، لا يمكن أحدا أن يحددها أو يعرفها إلا "عن طريق الاستعانة بأقوال الجيل الشاهد عليها، أقصد جيل المؤمنين الأوائل الذين تَلَقَّوُا الوحى من فم النبى مباشرة، والذين طبقوه عمليا فيما بعد" (المرجع السابق/ 122). ومن الواضح الذى لا يحتاج إلى فضل بيان أن ذلك يتناقض تناقضا أبلق مع ما سماه: "الوضعية العامة أو الظرف العام للخطاب"، ومع ما شرح به تابعُه معنى هذا "الظرف العام للخطاب" مثلما رأينا قبل أسطر قلائل. فماذا ينبغى أن نسمى هذا أيضا؟ أما أنا فأسميه: "فرقعات خنفشارية". إنها قد تلقى الرعب فى قلوب العامة والصغار فيبصق الواحد منهم فى عُبّه وهو يبسمل لإزالة الخوف من قلبه، أما الذين ودَّكتهم الحياة فإنهم يبصقون، ولكن ليس فى عُبّهم!

هذا، ولم نغادر بَعْدُ "الظرف العام للخطاب"، الذى يحدده البروفيسير (على عادته فى المبالغات والفرقعات الخنفشارية التى تأخذ ذيلها فى أسنانها وتطلق ساقيها للريح عند أول عقبة) بأنه "مجمل الظروف التى جرى فى داخلها فعلٌ كلامىٌّ، سواء أكان مكتوبا أم شفهيا. ويخص ذلك فى آن معا المحيط الفيزيائى- المادى والاجتماعى الذى نُطِق فيه الكلام، كَمَا ويخصّ الصورة التى شكلها المستمعون عن الناطق لحظة تفوهه بالخطاب، ويخص هوية هؤلاء، والفكرة التى يشكّلها كل واحد منهم عن رأى الآخر فيه. كما ويخصّ الأحداث التى سبقت مباشرةً عملية التلفظ بالقول، وبخاصة العلاقات التى كان المخاطبون يتعاطَوْنها فيما بينهم، ثم بشكل أخصّ التبادلات التى اندرج فيها الخطاب المعنِىّ" (السابق/ 114). يا ألطاف السماوات! كل هذا يا دكتور أركون؟ لقد سببتَ لى الدُّوَار يا رجل! بالله عليك متى يمكننا أن ننتهى من فَهْمِ بَلْهَ شَرْحَ أىّ شىء فى القرآن إذا كان علينا أن نحيط بذلك كله قبل البدء فى عملية الفهم؟ إن هذا أمر أخشى، لو بدأنا فيه، أن يأخذنا هبوطا إلى آدم، وصعودا إلى يوم القيامة. ذلك أن الدنيا متشابكة بعضها مع بعض على نحو لا يكاد يُتَصَوَّر! ومع الفرقعات الخنفشارية نمضى خطوة أخرى لنرى إلامَ يأخذنا هذا التنطع الحداثى وعَمّ ينجلى فى نهاية المطاف!

إن الرجل لا يكتفى بهذا على ما فيه من استحالة التطبيق، بل يشترط قراءة كل ما كُتِب فى تفسير سورة "الفاتحة" من تفاسير منذ بداية التفسير القرآنى حتى اليوم ثم التقفية بما يحتاجه ذلك من جرد وفرز. إلا أنه سرعان ما يحيص قائلا إن هذا العمل "لا يمكن أن يقوم به شخص واحد، وإنما فريق كامل من فرق البحوث". وبالمناسبة فما "الفاتحة" إلا مجرد مثال لأية سورة أخرى نريد تحليلها طبقًا لبروتوكوله الألسنى النقدى. إننا لو رُمْنا ذلك فلن ننتهى أبدا من تحليل القرآن كما هو واضح! ثم فلنفترض أننا قد استطعناه، فمن ذا الذى يا ترى يمكنه الزعم بأنه سيكون التحليلَ المثالى الذى لا يخرّ الماء؟ إن هذا أيضا بدوره مستحيل! خلاصة الكلام أن البروفيسير قد انتهى إلى أنْ طامَنَ من غُلَوائه المتنطعة الفارغة وقنع من الغنيمة بالإياب فأخبرنا أنه سيكتفى بتفسير الرازى، الذى زعم أنه "قد جمع فى تفسيره أهم ما أنتجه الجهد التفسيرى خلال القرون الهجرية الستة الأولى السابقة له". لكنه ، ككل معّارٍ مُغْرَمٍ بالمطاوى (و"المطاوى" فى العامية المصرية هى الكلام الواسع الذى لا يصدقه ولا حتى صاحبه كما سبق القول)، قد عزَّ عليه أن ينهزم هكذا على الملإ أمام أول تجربة، بينما لا تزال ترن فى الآذان أصداء فرقعاته الألسنية المأمآنية، فأخذ يؤكد لنا أنه يزمع أن يقدم لتفسير الرازى طبعة محققة مصحوبة بقراءة تهدف للإجابة عما لا أدرى ماذا (السابق/ 135- 137). وليس لدىّ من تعليق على هذا إلا قول الرسول الكريم الذى يبدو وكأنه قد قاله خصيصا فى هذا الوعد: "أَفْلَحَ إنْ صَدَق"! ثم إنه بعد ذلك كله لم يرجع إلى الرازى إلا مرتين اثنتين لا غير نَقَلَ فى الأولى منهما ثلاثة أسطر ونصفا (ص 127)، وفى الثانية فقرةً لا تزيد على ثلاثة عشر سطرا (ص 139- 140)، ولشديد الأسى والأسف لم يحسن الاستفادة من أى النصين. وهكذا ينبغى أن تكون الفرقعات الخنفشارية، وإلا فلا! كذلك فإن تفسير الرازى، الذى تغلب عليه الصبغة الفلسفية، هو مجرد لون واحد من التفاسير لا يغنى عن غيره ولا يغنى غيره عنه، فهناك التفسير بالمأثور والتفسير الاعتزالى والتفسير الصوفى والتفسير الخارجى والتفسير الشيعى والتفسير اللغوى والتفسير الفقهى والتفسير العلمى...وهلم جرا. وحتى لو وافقْنا المؤلفَ على ما يقوله عن قيمة تفسير الرازى وأنه يغنى عن التفاسير السابقة عليه، فماذا نحن فاعلون فى التفاسير التى جاءت بعده؟

وعلى أية حال فلو تحوَّلنا بعد ذلك كله لنرى ماذا أنجز الأستاذ الدكتور فى التحليل الفعلى لسورة "الفاتحة من هذا كله راعَنا كثرة العناوين وتعمد الكاتب انتقاء الكلمات الضخمة التى تسبب الدوار للرأس دون أن يكون وراءها شىء بالمرة، أو على الأقل دون أن تقدِّم لنا ثمرة تستحق كل هذه الطنطنات والفرقعات. كيف ذلك؟ لنأخذ أولا العناوين، وسوف أوردها بالترتيب التى أتت به فى التحليل المذكور: "اللحظة الألسنية أو اللغوية: عملية القول أو عملية النطق، المحدِّدات أو المعرِّفات، الضمائر فى سورة "الفاتحة"، الأفعال فى سورة "الفاتحة"، الأسماء أو التحويل إلى اسم فى سورة "الفاتحة"، البِنْيات النحوية فى سورة "الفاتحة"، النظم والإيقاع. العلاقة النقدية- الفاتحة كمنطوقة أو عبارة: اللحظة التاريخية، النسق اللغوى أو الشيفرة اللغوية، النسق الدينى أو الشيفرة الدينية، النسق الثقافى أو الشيفرة الثقافية، النسق التأويلى أو الباطنى، اللحظة الأنثربولوجية". وهى، كما ترى، عناوين مخيفة تجعل قلب الواحد منا يسقط فى قدميه كما كنا نعتقد ونحن صغار، ثم ظننّا بعد أن كبرنا ونضجنا واتسع أفقنا الثقافى أن سقوط القلب فى الرجلين أمر خرافى ومستحيل...إلى أن وقعتُ على هذا الكلام الذى يقوله الدكتور أركون فتبين لى أن ما كنا نقوله ونحن صغار هو أمر صحيح لا وهم فيه ولا تخريف، فها هو ذا قلبى قد سقط فعلا فى رجلىّ. والتجربة، كما يقولون، خير برهان. ومن لا يرد أن يصدّق فليأت ولْيَرَ بنفسه! إلا أن المسألة لا تخلو مع هذا من الجانب الفكاهى، فهذه العناوين التى تخلع القلوب من أماكنها لا تساوى ثمن الحبر الذى كُتِبت به، إذ لا شىء وراءها، أو إذا كان وراءها شىء فإنه لا يستحق كل هذه الزيطة والزنبليطة. أى لحظات تاريخية؟ وأى بروتوكولات؟ وأى شفرات؟ أنحن داخلون حربا عالمية؟ المهم: لننظر مثلا تحت عنوان "النظم والإيقاع"، وهو، كما ترى معى أيها القارئ، مما يمكن فهمه. فماذا نجد تحته؟

لقد كتب المؤلف العبقرى تحت هذا العنوان أربعة عشر سطرا فى فقرتين: فأما فى الفقرة الأولى فقد أشار سيادته (مجرد إشارة عابرة ع الماشى) إلى أهمية الدور الذى يلعبه التشديد والإيقاع والنغم والمدة وارتفاع الصوت والكثافة فى عملية القول والعلاقة بين علم النحو والنبرة، وأننا فى اللغة العربية، والنص القرآنى بالذات، نمتلك أدبياتٍ (يعنى بلغتنا نحن عباد الله المتواضعى العقل والفهم: كتاباتٍ) غنيةً وغزيرةً خاصةً بالنظم والإيقاع، ولا تزال تنتظر من يدرسها طبقا للمناهج الحديثة فى التحليل العلمى، وأنه "من غير الممكن (فى الحالة الراهنة) المخاطرة بتفسيرٍ مُرْضٍ لنصٍّ قصيٍر كـ"الفاتحة". صحيح أن بروتوكول القراءة الشعائرية (يقصد الطريقة القديمة فى تفسير القرآن، وإن كان كلامه يوحى بأن المقصود هو قراءة القرآن على الجبّانات وفى المآتم، وإلا فما معنى مصطلح "الشعائرية" هنا بالله عليكم؟) وتقنين التجويد يقدمان لنا بعض التعليمات التى لم يُدْرَس تأويلها الصوتى والفونيمى والنظمى- الإيقاعى بشكل جاد حتى الآن" (بالمناسبة: الدكتور أركون دائما ما يقول عن أى شىء فى تراثنا إنه لم يُدْرَس بشكل جاد حتى الآن، أو لم يدرس أصلا لا بشكل جاد أو هازل. هذه شِنْشِنته على الدوام، وتحتاج إلى دراسة نفسية، لا ألسنية ولا شعائرية، ولا مارشات عسكرية، من التى تصاحب المراسم البروتوكولية، فى اللحظات التاريخية! فقط دراسة نفسية. أكرر: "فقط دراسة نفسية"! ويا بخته أنه لم يتقدم به الزمن كم عِقْدًا من السنين أو تأخر الزمن بالشدياق كم عِقْدا، وإلا لكان الكاتب اللبنانى الذى لم يكن يعجبه هذا التنطع الفارغ قد وضعه على السَّفُّود كما فعل مع المستشرقين الذين قُدِّر له أن يعمل معهم فى أواسط القرن التاسع عشر فى ترجمة الكتاب المقدس!). لكن حين جد الجِدّ أخذ ذيله فى أسنانه وولَّى هاربا ولم يعقّب!

وإليك كل ما قاله البروفيسير بعد هذه الطبول والزُّمُور المزعجة التى أصمَّت لنا الآذان وخلعتْ منا القلوب: قال لا فُضَّ فوه، ولا برئ من تباريح ألم الحقد شانئوه: "ولهذا السبب فإننا سنكتفى فقط بالتنبيه إلى الملاحظة البسيطة التالية، وهى وجود قافية "إيم" متناوبة مع قافية "إين" فى سورة "الفاتحة". أما فيما يخص الوحدات الصوتية الصغرى (الفونيمات) فإننا نلاحظ هيمنة الوحدات التالية: "ميم" 15 مرة، و"لام" 12 مرة، و"نون" 12 مرة، و"هاء" 5 مرات. نحن نعلم أن التفسير التقليدى يضفى قيمة رمزية على كل وحدة صوتية وعلى عدد التكرارات، وبالتالى فإن الدراسة النظمية أو الإيقاعية للعلامات أو الكلمات ينبغى أن تتلوها الدراسة الرمزية، أو ينبغى أن تستطيل عن طريق الدراسة الرمزية" (ص 134). أرأيت؟ إن الرجل لم يقدم شيئا على الإطلاق رغم كل الوعود الجبارة التى لا أظن إلا أنه سينجزها يوما ما، عندما تقوم القيامة بإذن الله، وتكون فى يد الواحد منا فسيلة فيغرسها طبقا لنصيحة الرسول عليه السلام ولا يتعلل بأن القيامة ستقوم.

وعَوْدًا إلى ما قاله د. أركون عن مبادئ البروتوكول التقليدى فى تفسير القرآن وما توجبه من الاستعانة بالنحو وعلم اللغة التاريخى والبلاغة والمنطق للوصول إلى معنى النص القرآنى، والفرق بينها وبين مبادئ بروتوكوله هو التى لا تعرف هذه الاستعانة ولا تبالى بها، نلفت نظر القارئ إلى أنه أمضى الصفحات التى خصصها لسورة "الفاتحة" فى الكلام عما تشتمل عليه السورة الكريمة من ضمائر وأسماء وأفعال وبنيات نحوية، محاولا الوصول إلى شىء من المعنى من وراء هذه الإحصاءات عبثا، ومتخبطا فى أثناء ذلك تخبطا لا يليق بمن يتصدى لتفسير كتاب الله العظيم حتى لو كان من طائفة البسبسانيين المأمآنيين! فمثلا يرى سيادته بعلمه العبقرى أن السورة تحتوى على فعلين مضارعين (هما: "نعبد، ونستعين") أُسْنِدا إلى البشر (جماعة المؤمنين)، وفعلٍ واحدٍ ماضٍ مسند إلى الله (هو: "أنعمتَ")، وأن السبب فى هذا أن الفعل المضارع يدل على استمرار المحاولة وديمومة التوتر، فهو يناسب البشر، بخلاف الماضى الذى يدل على أن الأمر قد تم وانتهى الأمر ولا مرجوع عنه، وهو ما يناسب القدرة الإلهية (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 130- 131).

وهذا كلامٌ خديجٌ لا نضج فيه، إذ كثيرا ما تُسْنَد الأفعال المضارعة إلى الله، والماضية إلى البشر، والعبرة بالسياق والمعنى لا بصيغة الفعل كما فى الشواهد التالية، وكلها من القرآن الكريم ذاته: "الله يستهزئ بهم ويَمُدّهم فى طغيانهم يعمهون"، "قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارض ولا بِكْر"، "قد نرى تقلُّب وجهك فى السماء"، "والله يرزق من يشاء بغير حساب"، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، "الله ولىّ الذين آمنوا يُخْرِجهم من الظلمات إلى النور"، "قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء"، "يُوصِيكم الله فى أولادكم: للذَّكَر مثل حظ الأُنْثَيَيْن"، "فأولئك يتوب الله عليهم"، "يريد الله أن يخفف عنكم"، "أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم"، "ويستفتونك فى النساء. قل: الله يفتيكم فيهن"، "لكنِ اللهُ يشهد بما أنزل إليك"، "يَهْدِى به الله من اتَّبع رضوانه سُبُل السلام"، "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون"- "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم"، "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه"، "وقالت اليهود: يد الله مغلولة"، "فقد كذَّبوا بالحق لما جاءهم"، "انظر كيف كذَبوا على أنفسهم"، "وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهم الحياة الدنيا"، "وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْره"، "وجعلوا لله شركاءَ الجِنَّ"...إلخ إن كان لذلك من آخر. لكنك، يا بروفيسير، لا بضاعة علمية لديك ذات قيمة. إنما هى الحذلقة والانتفاش بما تظن أنه عندك من العلم الخطير العميق، وما هو بعميق ولا خطير. ومما قاله سيادته أيضا فى تحليله للسورة إن أداة التعريف "أل" التى تكررت فى قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" تدل على أن "هذه التراكيب هى عبارة عن مفاهيم أو أصناف أشخاص محدَّدين بدقة من قِبَل المتكلم وقابلين للتحديد من قِبَل المخاطب عندما يصبح بدوره قائلا أو متكلما" (ص 127). ويزيد تابعُه "..." الأمرَ بيانا فيعلّق فى الهامش قائلا إن "المقصود بذلك أن كلمة "المغضوب عليهم" أو "الضالين" تدل على أشخاص محدَّدين بدقة فى مكة، وكانوا معادين للرسالة الجديدة، ولذلك دُعُوا بـ"المغضوب عليهم" و"الضالين". ولكن القرآن لا يحدد أسماءهم، وإنما يترك الصياغة عامة شمولية تنطبق على أعداء هذا الدين فى كل زمان ومكان"، مع أن المفسرين لا يذكرون أبدا أن المقصود أحد من أهل مكة ، فضلا عن أن يحددوا هذا "الأحد"، بل الموجود عادة فى كتب التفسير أنهم اليهود والنصارى ، وإن كنت أفهم الكلام فى الآية على أنه عام لا يختص بقوم دون غيرهم.

ولو كان القرآن يقصد أشخاصا بأعيانهم كما يزعم بروفيسيرنا لجاء تعبيره مختلفا مثلما هو الحال فى قوله تعالى: "عبس وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى"، "أفرأيتَ الذى تولَّى* وأعطى قليلا وأكدَى؟* أعنده علم الغيب فهو يرى؟"، "ذرنى ومن خلقتُ وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* ومهَّدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد"، حيث يدل السياق الحكائى والتعبير اللغوى على أن الكلام يدور على شخص بعينه وليس كلاما عاما. أى أنه ليس فى أسباب النزول الخاصة بالسورة ولا فى طريقة التعبير فيها ما يمكن أن يفهم منه أن المقصود بـ"الضالين" و"المغضوب عليهم" أشخاص معينون من أهل مكة، وبخاصة أن "فاتحة الكتاب" هى النص القرآنى الوحيد الذى يجب الصلاة به، وفى كل ركعة منها لا فى واحدة وكفى، ولا تصحّ الصلاة من دونه، فلا يعقل أن يكون مدارها على شخص أو أشخاص بأعيانهم. وهكذا ترَوْن، أيها القراء، كيف أن الرجل الذى يقلل من شأن النحو واللغة فى عملية التفسير القرآنى كما رأينا، لم يستطع أن يتجاهل فيما يسميه: "تحليل الخطاب القرآنى" اللغة ولا النحو، لكن دون أن يستطيع الاستفادة منهما للأسف. ليس هذا فحسب، بل ثمة ارتباك واضطراب فى استعمال المصطلحات النحوية واضحان، وهو ما يؤكد ما قلناه مرارا عن قلة بضاعة البروفيسير من العلم بالموضوع الذى تصدى له رغم أنه هو الميدان الذى تخصص فيه وأصبح أستاذا. وهذا كل ما يقدمه لنا الدكتور أركون من خلال ما يسميه: "تحليل الخطاب الدينى"، وهو لا يشفى غليلا ولا يزيد القارئ علما بشىء فى السورة، فلا رجوع لأسباب النزول ولا تعمق فى تحليل دلالات الاختيارات المعجمية أو الصيغ الصرفية أو التراكيب النحوية التى رُوعِيَتْ فى كلمات السورة وبناء جملها وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وذكر وتكرير وما إلى ذلك، ولا التفات لما تريد السورة أن تغرسه فى عقل المسلم وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم مما تعج به كتب التفسير، التى لا تعرف هذه البهلوانيات الألسنية الضحلة، ويعمل الأستاذ الدكتور عبثا على التقليل من شأنها. إن ما نطالبه به هو من الأمور الصعبة التى تحتاج إلى صبر وجِدّ، ولا يصلح فيها التنفج الكاذب، ومن هنا ينصرف عنها النابتة الجديدة ممن يُسَمَّوْن بـ"الكتاب الحداثيين" ممن يقبلون بغَشْم على نصوص الأدب والقرآن فيعيثون فيها فسادا كما يفعل الثور الهائج حين يقتحم محلا لبيع تحف الخزف، فهو يدوسها بأظلافه وينطحها بقرونه لأنه لا يدرك قيمتها!

وهذا المتنطس الذى لا يعجبه المنهج الذى يتبعه المفسرون المسلمون والذى يستعينون فيه، ضمن ما يستعينون، بالنحو والصرف والبلاغة، يغرق فى شبر ماء أمام كلمة "أَمْ" الواردة فى الآية التاسعة من السورة الثانية التى يريد تحليلها على منهجه (أو "بروتوكوله" حسب تعبيره، وكأننا بصدد تشريفات ملكية)، وهى سورة "الكهف" فلا يجد إلا ما يقوله الجاهل ريجى بلاشير (الذى أعماه الله سبحانه فى أخريات حياته حتى يكون عَمَاه من العَمَى الحيسى ويجمع بين عمى البصيرة والبصر)، فيردده فرحا به كأنه وقع على كنزٍ شماتةً منه بالقرآن، وكان الأحرى به بدلا من هذا أن يشعر بالخجل لأنه دائم التنفج فى كتاباته بأن منهجه الجديد (الذى هو آخر صيحة فى عالم الأزياء التحليلية) يختلف عن منهج المستشرقين السابقين البالى. إلا أن الكيد للإسلام يستحق أن يلحس أركون كلامه وتنفجاته وينسى ما صدع رؤوسنا به فى كثير من كتاباته ويجرى وراء المستشرقين الذين كانوا لا يعجبونه مرددا كلامهم. فماذا قال بلاشير وردده وراءه أركون دون أن يتمعن فيه؟ قال بلاشير إن "أَمْ" هذه لا تستعمل إلا للتناوب أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنها فى آيتنا هذه لا يسبقها شىء يمكن أن يشكّل الطرف الآخر فى عملية التناوب، ومن ثم فإن الآيات قد تعرضت لعملية تلاعب، وهذا التلاعب يدل عليه غياب الطرف الآخر للتناوب (ص 148). يقصد أن "أم" فى قولنا مثلا: "أتأكل تفاحا أم كمثرى؟" هى للمناوبة بين هاتين الفاكهتين اللتين ينبغى أن تختار واحدة منهما فقط. لكن فات بلاشير ومقلده أن "أم" لا تنحصر فى هذه الوظيفة، بل لها عدة وظائف: ففى قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتَهم أم لم تُنْذِرهم: لا يؤمنون" نراها تدل على أنه لا فائدة فى هذا أو ذاك، فالنتيجة واحدة فى الحالتين. أما فى قولنا: "أزيد عندك أم عمرو؟" فتدل على الرغبة فى تحديد الموجود من الشخصين. وتسمى "أم" فى هذين التركيبين: "أم المتصلة"، لأنها متصلة بما قبلها، وهذا ما ظن بلاشير ومقلده أنه كل مهمتها. لكنهما قد فاتهما (أو بالأحرى: "فات بلاشير وحده" لأن أركون هنا إنما هو مجرد مردِّد لما قاله بلاشير دون تمعن، فينبغى ألا يُحْسَب له حساب) فات بلاشير أن هناك "أم" أخرى هى "أم المنقطعة" التى ليس للاسم الذى بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلاما جديدا كما هو الحال فى الآية محور الكلام، ونصها: "أم حَسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقِيم كانوا من آياتنا عَجَبا؟"، والتى يقول المفسرون إن معناها هنا "بل أ...؟"، وإن كانت تأتى أحيانا بمعنى "بل" فقط دون همزة كما فى قوله تعالى: "فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟" (النساء/ 109). وأنا أضيف حالتين أُخْرَيَيْن: أولاهما تأتى فيها "أم" للمناوبة بين طرفين، لكن الطرف الأول لا يُذْكَر، بل يُفْهَم ضمنيا من الكلام السابق، كما فى قول أحدنا مثلا: "رأيى أن تأخذ فلانا باللين والهوادة وأن تصبر عليه طويلا، ولسوف يَصْلُح حاله بهذا الأسلوب إن شاء الله. أم لك رأى آخر؟". والمعنى: "أتوافقنى على رأيى هذا أم إن لك رأيا آخر؟"، إلا أن عبارة "أتوافقنى على رأيى هذا" ليست مذكورة فى الكلام كما هو واضح، بل تُفْهَم فهمًا من السياق. والأخرى بمعنى: "أَتُراك...؟"، وهذا المعنى الأخير لا يكون إلا فى بعض حالاتِ مجيئها منقطعة، وأنا أفهم الآية على هذا المعنى. ومع ذلك كله لقد كان ينبغى على بلاشير ومقلده ألاّ يُطَنْطِنا بهذا الذى طَنْطَنَا به، فالنبى الذى جاء بالقرآن (أو "اخترعه" كما يقول من لا يؤمنون بنبوته عليه السلام) عربى، ومن ثم فإن ما يقوله هو الصواب لا ما يُرْجِف به هؤلاء الأعاجم. وحتى لو قلنا إن المسلمين قد غيَّروا فى القرآن من بعده صلى الله عليه وسلم، فالذين غيروا فيه هم أيضا عرب، ومن ثم فما يقولونه هو الصواب. أليس هذا ما يمليه المنطق؟ لكن القوم، حين يتعلق الأمر بالإسلام والقرآن، لا يهتمون بمنطق ولا عقل، بل تشغلهم أحقادهم وتُذْهِلهم عن كل شىء! وهذا الاستعمال قد تكرر فى القرآن كثيرا جدا بحيث لا يمكن، مهما تسامحنا مع الببغاوات، أن نظن أنه خطأ فى كل هذه المواضع! اللهم إلا أن يكون العرب والمسلمون من الجهل والبلادة فى لغتهم بدرجة ليس لها نظير فى التاريخ!

وقد رجعتُ إلى كتاب النحو الذى وضعه بلاشير (بمشاركة جودفروا ديمومبين) لطلاب الاستشراق فوجدتهما لا يذكران من "أم" إلا المتصلة، وهى التى سبقتها همزة، سواء كاتت همزة استفهام أو همزة تسوية، كما فى المثالين اللذين ضربتهما قبل قليل (Grammaire de L Arabe Classique, Maisonneuve et Larose, Paris, 1966, PP. 218, 469)، فهذه كل بضاعة النحو عند هذا المستشرق، وذلك هو السر فى الخبط الجاهل الذى تناول به الآية وزعم أنه قد سقط قبلها كلامٌ جرّاءَ العَبَث الذى وقع فى القرآن بعد وفاة النبى عليه السلام. وعلى أية حال هأنذا أورد العينة التالية من الشواهد القرآنبة على ذلك الاستعمال لمن يريد أن يطمئن على هذا الذى نقول: "أم حسِبْتم أن تدخلوا الجنة ولـَمّا يأتكم مَثَلُ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم؟" (البقرة/ 214، ومثلها كل الآيات التى تبتدئ بعبارة "أم حسبـ(ـتَ/ تم))")، "أم يقولون: افتراه؟" (يونس/ 38، وهود/ 35 مرتين، والسجدة/ 3، والأحقاف/ 8)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأَصْفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16)، "ما لكم؟ كيف تحكمون؟* أم لكم كتاب فيه تَدْرُسون؟" (القلم/ 37). ومن يُرِدْ شواهد أخرى من القرآن فبمكنته أن يراجع المواضع التالية: البقرة/ 133، والنساء/ 53، والرعد/ 33، والأنبياء/ 21، 24، 43، والنمل/ 20، وفاطر/ 40، والصافات/ 156، وص/ 9، والزمر/ 43، والشورى/ 9، 21، 24، والأحقاف/ 4، ومحمد/ 29، والطور/ 30، والملك/ 20، والقلم/37. ومثلُ "لم" فى هذا استخدامُ القرآن للظرف "إذ" فى أول الكثير من قصصه دون أن يسبقه كلام، وهو ما لا أذكر أنى رأيته خارج القرآن شعرًا أو نثرا.وهذه الـ"إذ" يقابلها قولنا حين نريد أن نحكى لأحدٍ حكاية: "كان يا ما كان" أو "يحكى أن" أو "حدث ذات مرة" أو ما إلى ذلك. ويقول المفسرون بأن معناها: "اذكر"، وهو معنى لا يذهب بعيدا عما قلناه. فهل يصح أن يأتى من يتحامق قائلا إن هذا استعمال خاطئ، وإنه يدل على أنه كان ههنا كلام، ثم حُذِف؟ لكن أين ذهب؟ ألعله أكلته القطة؟

كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم: "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص" كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). ثم يضيف الدرويش فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء". يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة! ترى هل من المنهج العلمى أن يطير الباحث مع أوهامه دون أن يراجع نفسه لعله قد أخطأ أو تسرَّع أو سَهَا أو فاتته أشياء يجهلها؟ لماذا كلما كان الأمر ينصبّ فى ناحية الإساءة للقرآن والتشكيك فيه نرى أستاذك يفقد حذره ووسوساته التى يفلقنا بها دائما عندما تكون الوقائع كلها فى صف النص القرآنى؟ فمثلا معروف بين العالمين جميعا أن حرص المسلمين على قراءة القرآن فى الصلاة وخارج الصلاة يتعبدون به ويتقربون إلى الله منذ بداية نزوله حتى الآن كان له دور عظيم فى الحفاظ على النص القرآنى فى الذاكرة المسلمة، والدكتور محمد أركون لا يمارى فى ذلك، إذ يقول: "إن الاستخدام الطقسى أو الشعائرى للنص القرآنى ساهم بالتأكيد وبشكل مبكر فى تثبيته" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 155/ هـ1).

ويحسب القارئ المسكين أنه لا خلاف إذن بينه وبين الكاتب، بيد أن البروفيسير لا يعطيه فرصة للاستمتاع بهذا الوهم، إذ سرعان ما يسدد ضربة غير قانونية إلى فكه قائلا: "لكن لهذا الاستخدام بالذات تاريخ لا نعرفه، بمعنى أننا لا نعرف متى بدأ المسلمون يستخدمون النص القرآنى كنص عبادى فى الصلوات والطقوس، ولا كيف تطور ذلك على مدار التاريخ" (نفس المرجع والصفحة والهامش). ترى هل يُعْقَل أن أركون يجهل منذ متى شرع المسلمون فى قراءة القرآن فى صلواتهم وعبادتهم؟ إن قراءة القرآن هى فى حد ذاتها عبادة وقربى إلى الله، وهو ما يعنى، لهذا السبب على الأقل، أنها قد بدأت منذ اللحظة الأولى لنزوله. لكن الدكتور أركون لا يستطيع إلا أن يكون تلميذا وفيًّا لذلك الصنف من المستشرقين الذين لا يتركون أى شىء فى الإسلام إلا ويشككون فيه: هكذا "لله فى لله". ولنعد الآن لما كنا بسبيله، ولسوف أطرح عليه وعلى من ينقاد لهم دون تبصر أو تفكير عدة أسئلة لعلهم يحاولون الإجابة عليها فتتضح لهم على ضوء هذه المحاولة حقيقة الأمر، وإن كنت أشك فى ذلك كثيرا: هل يظن المستشرقون أن من حقهم، وهم الأعاجم، وبعد كل هذه القرون المتطاولة، أن يخطِّئوا أسلوب القرآن حتى لو قلنا معهم إن صاحبه هو محمدبن عبد الله؟ أليس ما يقوله محمد هو الصواب الذى يُحْتَجّ به لا الخطأ الذى يُسْتَدْرَك على صاحبه؟ إن محمدا لا يختلف فى هذه الحالة عن أى شاعر أو خطيب جاهلى، فضلا عن أى أعرابى ممن كان العلماء يسعَوْن إلى البادية للالتقاء بهم وأخذ اللغة عنهم، فلماذا هو من دون العرب جميعا الذى ينبغى أن يكون مخطئا؟ الأن هذا التركيب وأمثاله لم ترد فى كتب النحو التى تُدْرَس فى المدارس؟ لكن متى كانت هذه الكتب تستوعب كل إمكانات اللغة العربية فى الجاهلية قبل أن تُفَنَّن القواعد على النحو الذى نعرفه فى كتب النحو والصرف الخاصة بتلاميذ المدارس؟ إن القرآن نفسه رغم كونه المثال الأعلى فى الفصاحة العربية لا يستوعب هذه الإمكانات، فكيف يفكر أحد فى محاكمته إلى كتب الطلاب الصغار الذين أُريد الابتعاد بهم عن كل ما يخرج عن القوالب البسيطة المباشرة ولا يعرفون من هذه الإمكانات إلا أقل القليل؟ إن هذا لأشبه بمن يريد نَطْل البحر بكستبان إبرة!

على أن ليس معنى كلامى هذا أننى أغضّ الطرف على التشكيك فى مصدر القرآن الإلهى، بل كل ما أريد قوله أن الحجة التى يستند إليها من يقصد التشكيك فى هذا المصدر هى حجة داحضة لا تثبت على محكّ النقد على الإطلاق، ومن ثم فالاستناد إليها للتشكيك فى إلاهية المصدر القرآنى استناد إلى حائط مائل كما نقول فى مصر. أما إيمان أمثال هؤلاء أو كفرهم فلا يعنينى، فلست موكلا بالقلوب أهديها. إنما أنا واحد من أهل العلم مقتنع بأن هذا القرآن هو من عند الله، ولهذا أرى أنه لا بد من وقف هذه الهجمات الجَراديّة الحمقاء، بالمنطق طبعا والحجة والتدقيق فى الكلام والاستشهاد بالنصوص على الوجه المستقيم...إلخ. ولقد غَبَرَ علىّ زمان كنت أسارع فيه إلى تخطئة أىّ أسلوب لا يجرى على القواعد كما درسناها فى المدارس، والاعتراض على أية كلمة لا أجدها فى المعجم الصغير الذى لم أكن أملك غيره فى شبابى الأول. لكنى كلما كَبِرْتُ واسْتَحْصَدَتْ معارفى واتسع أفقى اللغوى تبين لى أن الأمور ليست كما كنت أظن، وأن اللغة بحرٌ هدّارٌ لا يستطيع السباحة فيه كل من هب ودب، وإلا فعلينا أن نخطّئ معظم الشعراء العرب الأقدمين، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يجرون دائما على قواعد النحو والصرف كما ندرسها فى المدارس، وهو ما لا يقول به أى عاقل، بل الحاقدون الموتورون وحدهم! وفى الكتب التى تُعْنَى بالصحة اللغوية كثير من الأقاويل التى شاعت وذاعت على غير أساس، ومع هذا يرددها الخلف عن السلف كأنها "قرآن منزل" (أكاد أضحك الآن على هذا التشبيه بعد أن ظهر لنا أمثال بلاشير وأركون وجماعات المبشرين الذين يتطاولون على القرآن ويخطّئونه).

لنأخذ مثلا تأكيدهم أن تكرار كلمةِ "بين" مع اسمين ظاهرين خطأ، فلا يصح أن نقول: "بين عمر وبين أحمد" بل لا بد أن نقول: "بين عمر وأحمد"، بخلاف ما لو كان أحد طرفَىِ البينيّة أو كلاهما ضميرا مثل: "بين محمد وبينى" أو "بينى وبينه"، مع أن العبد لله قد استطاع أن يضع يده قبل عدة أعوام على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى لتكرار "بين" مع اسمين ظاهرين أوردتُها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية" فى آخر الفصل الخاص بكتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموى، غير ماعثرت عليه بعد ذلك. كما ثارت بينى وبين زميل لى أحبه وأقدر علمه مناقشةٌ منذ وقت ليس بالبعيد حول مدى الصحة فى مجىء فعلِ" كلما" أو جوابِها مضارعا، وأردت أن أتثبت بنفسى من صواب رأى من يرفضون هذا ويلحّون على أنه لا بد أن يكون فعل هذه الأداة وجوابها كلاهما ماضيا، فإذا بى أجد نحو اثنى عشر شاهدا من الشعر القديم يستعمل فيها أصحابها فعلَ "كلما" وجوابَها مضارعا، وفى الحال تراجع الزميل الكريم عن موقفه الذى كنت فى البداية أكثر ميلا إليه تبعا لما كننت أسمع من تخطئة من يخالفونه. ومثل ذلك ما كنت قد قرأته فى مطلع شبابى عند بنت الشاطئ من أنه لا يصح أن نقول: "قد لا يأتى محمد"، بإدخال "لا" على "قد"، بل لا بد من استعمال "ربما" بدلا من "قد" فى حالة النفى، وإبقاء "قد" للإثبات فقط. ثم تبين لى فيما بعد أن من العرب القدماء من كان يجمع بين "لا" و"قد". إن السبب فى هذه المسارعة إلى التخطئة هو الظن بأننا قد أحطنا باللغة خُبْرا، على حين أن معرفتنا بها ليست بهذه الإحاطة التى يتصورها بعضنا، وقد كنت أنا من هؤلاء البعض يوما. أما الآن، وبعد انتشار الموسوعات والمعاجم الألكترونية، فقد أصبح من السهل علينا أن نعرف فى ثوانٍ قلائل ما كان أجدادنا ينفقون فى تحصيله الشهور، وربما السنين أيضا، وإن لم ينقص هذا من قدرهم، فقد كانوا عباقرة رغم ذلك!

هل هذا كل شىء؟ لا، فما زلنا فى بداية الكلام، فالصَّبْرَ الصَّبْرَ أيها القارئ لترى بنفسك السخف الشيطانى الصبيانى الذى يتعامل به أعداء القرآن مع هذا الكتاب العظيم يظنون أنهم قادرون على أن يطفئوا نور الشمس بنَفَسٍ من أنفاسهم الواهنة المنتنة. معروف أن اللغة العربية، بسبب من إعرابها الذى يحاربه هذه الأيام بعض من يكرهونها ولا يستطيعون أن يرَوْا بهاء محاسنها للرَّمَد الذى فى عيونهم، يعطيها مرونة عالية فى تركيب العبارة، إذ مهما قدّمنا أو أخرنا أو حذفنا فإن الإعراب يُسَهِّل التعرف على وظيفة الكلمة رغم ذلك فى معظم الأحيان، وهو ما لا يتوفر للّغات الأخرى بوجه عام. إن بلاشير، وأركون من ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى. لكن هذا، وإن كان هو ما يعرف التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر الجمعُ اشتهار الإفراد. وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء مثلما سبق أن شرحنا. إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه لأنه لا يحدث فى أية لغة فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله! وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاث مئاتٍ من السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية, وأحب أن أقف عند التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون. فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً. إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة. ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا: "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية: "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا.

ومرة أخرى هل هذا كل شىء؟ والجواب: كلا، فما زال هناك ما يقال مما يمكن أن يتعلم منه المستشرقون وصبيانهم لا لأنى أذكى منهم أو أكثر علما، وإن كان هذا جائزا، فلست بالذى يعمل فى هذا المقام على أن يبخس نفسه حقها، ولكن لأنى أبذل كل ما لدىّ من جهد رغم أنى فى الظروف التى أنا فيها الآن لا أملك من المراجع ولا أدوات البحث ما يجده هؤلاء تحت أيديهم، فضلا عما أُحِسُّه فى أعماق ضميرى من الرغبة الحارقة المخلصة للوصول إلى برد اليقين. وعلى هذا فقد أخذت أنقّب بحثًا عن شواهد من خارج القرآن توضح ما أقول، لا لأنى أرى أن القرآن يحتاج لما يعضده (فقد شرحت كيف أن القرآن، حتى لو قلنا إن محمدا هو مؤلفه...إلخ، لا يمكن أن يكون محل شك عند من له مُسْكة من عقل)، بل لمزيد من التوضيح ونزولا إلى مستوى من نناقشهم. فقد قرأنا مثلا أن والدة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لم تكن تطمئن إلى ما يفتيها به، إذ كانت رغم كل شىء تنظر إليه على أنه ابنها لا ذلك العالم العملاق، فكانت تقصد أحد تلاميذه ممن تظن أن عنده من العلم ما ليس عند ابنها، وكان هذا يحرج التلميذ إحراجا شديدا. وهو نفسه ما يقاسيه بعضنا عندما يسألنا أحد أولادنا فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية مثلا عن شىء فى تخصصنا فنجيبه بما لم يسمع به فى المدرسة، فينظر إلينا فى تشكك ويأبى أن يقتنع ظنًّا منه أن الكتاب المدرسى والمدرس الذى يدخل عليهم الفصل فيقومون قياما على أمشاط أرجلهم وهم صامتون لدرجة أنك لو رميت الإبرة لَرَنَّتْ لا يمكن أن يخطئا، بل المخطئ هو بابا الذى يراه فى مباذله فى البيت أمامه ليلا ونهارا، ولا يوجب له نظامُ المنزل أن ينتصب له عند دخوله عليه واقفا أو يصمت فلا يتكلم.

وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل:

فكان فيها ما أتاك وفى تسعين أسرى مقرنين وصفد

وقول عمرو بن كلثوم:

رددت على عمرو بن قيس قلادة ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب

وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:

إذا عاش الفتى مائتين عامًا فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ

وقول عمر بن أبى ربيعة:

أَبْرَزُوها مثلَ المهاة تَهَادَى بين خمسٍ كواعبٍ أترابِ

وقول السيد الحِمْيَرى:

ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا

وقول الوليد بن يزيد:

بَينَ خَمسٍ كَواعِبٍ أَكرَمُ الجِنسِ جِنسُها

وقول أبان اللاحقى:

يُجْرِى على أولاده خمسةً أرغفةً كالريش طيارة

وقول ابن المعتز:

وأجّلونى خمسةً أياما وطوّقونى مثلكم إنعاما

وقول ابن أبى الحديد:

عام ثلاث ثم أربعينا من بعد ستمائةٍ سنينا

وقول إبراهيم الحضرمى:

وخمس مثين بعد خمسين درهما

وقول أحمد بن مأمون البلغشى:

من عام خمسة وأربعينا بعد ثلاث عشرةٍ مئينا

وقول أحمد بن على بن مشرف:

إلى ثلاثمائةٍ سنينا يخادعون الله والذينا

ومضِيًّا فى سياستى فى النزول على شرط الخصم وعقليته أُضِيفُ، إلى ما سبق، الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس"، وقد يبدو ذلك غريبا، فلهذا أكرر هنا ما قلته من قبل من أننى أربأ بالقرآن أن يكون أى شىء آخر حاكما عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصوم سخفاء لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتاب نصرانى كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه. جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18). والآن ماذا يا ترى يمكن أن يقول د. أركون؟ أيرى أنه يتبع فعلا منهجا علميا صارما ومتقشفا كما يلحّ ويكرر دون أن يمل حتى مللنا مللا شديدا من هذا التنفج الكاذب؟ إن الرجل لا يكلف نفسه أن يتعب قليلا للتثبت مما يرمينا به من كل مصيبة علمية وأختها. إنه ما إن يقع على أى شىء يحسب أن فيه إساءة للإسلام حتى يطير به فرحا، ولا أحب أن أصادر حقه فى هذا الفرح، فكل إنسان وما اختار لنفسه، لكنى أحب أن أُسِرّ إليه بنصيحة لعلها تنفعه إن أراد أن ينتصح وينتفع: ألا وهى التثبت مما يقول، ثم فليؤمن بعد ذلك بالقرآن ومحمد عليه السلام أو لا يؤمن، فهذه مسؤوليته هو. والذى أغضبنى هنا ليس أنه لا يؤمن بإلاهية المصدر القرآنى، بل عدوانه الأثيم على الحقيقة العلمية دون أن يطرف له جفن!

على أن د. أركون لا يقف عند هذه النقطة، بل يضيف شيئا آخر يظن أنه يستطيع به أن يسىء إلى النص القرآنى، وهو الابتهاج بما صنعه بلاشير بالآيات من 9 إلى 25، إذ زعم هذا الـ"بلاشير" أن السورة قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف أن الآيات المذكورة ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها، بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتان 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16 عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحد أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها (Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, 1957, PP. 318- 319. وهذه النسخة التى معى الآن من تلك الترجمة كانت تخص المستشرق البريطانى هاملتون جب، ثم انتقلت ملكيتها إلىّ فى يوليه 1982م. وقد وصلتنى اليوم صورة من صفحاتها التى تحتوى على نص ترجمة سورة "الكهف". ويجد القارئ كلام أركون فى ص 148 من كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"). من الذى أفتى لبلاشير بهذا؟ لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف الاستشراقى الأثيم! وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أولم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له؟ لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ على أن يتعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى.

إن هذا الصنف من المستشرقين ليس له من عمل إلا التشكيك فى كل ما يتعلق بالإسلام والقرآن، حتى إنهم ليشككون مثلا فى نسب الرسول عليه السلام زاعمين أن "عبد الله" ليس أباه، بل هو مجرد اسم معناه: "إنسان" على اعتبار أن كل إنسان هو "عبد الله"، أى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أب معروف، فلذلك قيل إنه ابن عبد من عباد الله، بما يعنى أنه "ابن رجل"، والسلام. أما مَنْ هذا الرجل؟ فلا أحد يعرف! تالله إن من يقول هذا عن رسول الله إنما هو "مَرَة مِنْ ظَهْر مَرَة"! (مع احترامى الشديد للجنس اللطيف الذى لايمكن أن يدور فى بالى الإساءة إليه بحال، بل هو مجرد تعبير مجازى مغروس فى "المخيال" الشعبى أستعين به لغرض فنى ولإتاحة الفرصة لنفسى كى أتفيهق أنا أيضا، ولو مرةً فى العمر، بكلمة "مخيال"). ومن هذا الوادى أيضا قول مستشرق آخر إن خطبة الجمعة كانت بعد ركعتَىِ الصلاة كما هو الحال فى صلاة العيدين،، ثم أصبحتْ فى العصر الأموى قبلهما. ومنه كذلك زَعْمُ ثالثٍ أن عبد الملك بن مروان قد بنى قبة الصخرة كى يستعيض بها الحجاج الأمويون عن الحج، الذى يستلزم الذهاب إلى الحجاز حيث يبسط ابن الزبير نفوذه، ومن ثم يمكنه أن يؤثر فى ولاء حجاج الشام إذا ذهبوا إلى هناك. ومنه زَعْم هذا الأعمى البصر والبصيرة، متابعةً منه لكايتانى، أن "سدرة المنتهى" ليست شجرة سماوية، بل شجرة فى أطراف مكة، وأن "جنة المأوى" دارةٌ (فيللا) هناك. ألا ما أعجب هذا العلم الخارج من أستاه المستشرقين! هل من المعقول أن أى مستشرق تنبض فى استه فكرة ما تنغّص عليه توازنه وراحة باله لا يجد لها من حل إلا الافتراء على القرآن والزعم بأن هذه الآية أو تلك كان مكانها هناك، لكنها نُقِلت إلى هنا؟

وبالمناسبة فإن ما يقوله بلاشير، ويردده خلفه أركون، ليس له أى أساس من الصحة، لكنها السخافة الاستشراقية التى يدَّعى أركون أن منهجه يتخطاها، ثم يتضح أنه ليس إلا تقليدا لها! وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة الاستشراقية: "أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1) - "نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2). والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟ ومع ذلك فإن أركون يبتهج به ويشمت رافعا ذيله تيهًا وعُجْبًا! إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا!

وبالنسبة للقصص الثلاث التى تحتوى عليها سورة "الكهف" يقول أركون إنها "مغروسة عميقا فى الذاكرة الجماعية العتيقة للشرق الأوسط" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 151)، ومعنى هذا، مرة أخرى، أن القرآن ليس إلا النتاج المخيالى للبيئة التى ظهر فيها على عكس ما يتوهم المفسرون التقليديون الذين يرى سيادته أن منهجهم لا يصلح لتناول القرآن (ص153، 154- 155، 162). وهذا تدليس علمى على أخيب طراز. لماذا؟ لأن القرآن لم يورد هذه القصص الثلاث ابتداءً، بل أوردها ردًّا على التحدى الذى وجهه كفار قريش إلى الرسول بناءً على تحريض من أحبار اليهود، الذين قالوا لهم إن بإمكانهم أن يحرجوه بسؤاله عن أبطالها، على اعتبار أنه لن يعرف كيف يجيب على هذا التحدى، إذ لا علم له بهذه القصص الثلاث. فما معنى هذا؟ معناه أن أحبار اليهود كانوا متأكدين أن محمدا ليس عنده أى علم بهؤلاء الأشخاص، وأن قريشا نفسها لم تكن على علم بهم، وإلا لقالوا لليهود إن ذلك من تراثنا، ومن ثم فسوف يكون بمستطاع محمد الإجابة على السؤال فلا يحصل المراد من التحدى، ألا وهو تكذيبه فى قوله إنه يتلقى الوحى من السماء. أليس هذا هو ما يُفْهَم بكل جلاء من التحدى؟ ثم ينبغى ألا يفوتنا أن الوفد القرشى الذى ذهب إلى يثرب لمقابلة أحبار اليهود فى هذا الشأن كان مكونا من النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، أو على الأقل كان النضر وعقبة على رأسه، وهذا موجود فى النص الذى نقله د. أركون عن الطبرى (ص157). ونحن نعرف أن النضر كان يتهم الرسول بأنه إنما يقص فى قرآنه أساطير الأولين، وعلى هذا فإن النضر لا بد أن يكون حريصا على ألا تكون الأسئلة التى يعود بها من يثرب هى من أساطير الأولين التى يمكن أن تطولها يد محمد. أما قول أركون إن هذه الحكايات الثلاث كانت مغروسة بعمق فى الذاكرة الجماعية العتيقة لشعوب الشرق الأوسط، فهو كلام فارغٌ أفرغُ من فؤاد أم موسى! لو كان ما يزعمه أركون صحيحا ما فكر أحبار اليهود الخبثاء أن يحرّضوا قريشا على تحدى الرسول بهذا السؤال، فالإنسان لا يقدم على مثل هذا التحدى الخطير إلا وهو موقن أن الخصم لن ينجح فى الجواب. أليس ذلك كذلك يا بروفيسير؟ وهب أن هذه النقطة قد فاتت اليهود، وهم أخبث أهل الأرض فلا يمكن أن تفوتهم، أفكانت تفوت مشركى قريش؟ وعندنا أيضا الشعر الجاهلى، وهو يخلو من الإشارة إلى أى من الحكايات الثلاث. ثم كيف نفسر تحير المفسرين فى شرح معنى "الرقيم"، وفى تحديد مكان الكهف، وفى معرفة الشخصية الحقيقية للعبد الصالح بل لموسى نفسه، وفى التعرف على مواضع البلاد التى بلغها ذو القرنين والأقوام الذين قابلهم... إلخ؟ كل هذا يجعلنا نلقى بنظرية "المخيال الجماعى" أو "الذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوسط" فى القُمَامة، وضمائرنا مطمئنة. على أن د. أركون، عندما يدَّعِى أن محمدا قد استمد هذه القصص الثلاث من تراث البيئة التى ينتمى إليها، إنما يردد هنا أيضا مايقوله المستشرقون، الذين لا يكفّ أبدا عن التنفج بأن منهجه يتجاوز مناهجهم ويصل إلى نتائج لا يستطيعون أن يتوصلوا إليها بهذه المناهج. فهذا هو كاتب مادة "Ashab al-Kahf: أصحاب الكهف"، فى الطبعة الثانية من "Encyclopaedia of Islam"، يقول إن "محمدا قد ألمَّ بهذه الحكاية وكثير غيرها من الحكايات ذات الأصول اليهودية والنصرانية، ثم تمثَّلها واتخذ منها فى القرآن أداة للتربية الأخلاقية".

وأخيرا نختم بهذه الطرفة الأركونية: فبروفيسيرنا، بعبقريته البديعة التى لم تأت بمثلها ولاّدة، يتصور أن القرآن، عندما يقول: "إنما مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تَذْروه الرياح" إنما يريد أن يشبه سرعة زوال الحياة الدنيا بسرعة زوال المطر (ص149). فانظر بالله عليك إلى الرجل: كيف يتصدى لمناطحة القرآن، وهو لا يستطيع أن يعرف الطرف الثانى من التشبيه فى هذه الصورة البلاغية؟ إن المشبَّه به ليس هو الماء النازل من السماء، بل هو نبات الأرض الذى سيؤول رغم كل شىء فى النهاية إلى هشيم! أما ذِكْر ماء السماء فى الآية فلأنه هو الذى يساعد البذور على النمو ويخرجها من باطن الأرض نباتًا يغزر ويملأ الأراضى والحقول! ليس ذلك فحسب، بل إنه ليُقَوِّل كتابَ الله ما لم يقله، إذ يزعم أن "القرآن يلحّ فى أكثر من مكان على أهمية اللغة العربية ومزاياها من أجل التركيز على تمايزه واختلافه قياسا إلى الوحى السابق عليه" (الإسلام- الغرب- أوربا/ 80). ويجد القارئ هذه التقولات الكاذبة أيضا فى كتابه: "تاريخية الفكر الإسلامى" (مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 69)، حيث نقرأ أن مسألة "المكانة المتميزة والخاصة للّغة العربية بالقياس إلى اللغات الأجنبية...غالبا ما وردت فى القرآن. ذلك أنه كان من الضرورى تبرير اختيار اللغة العربية لنقل الوحى إلى البشر من دون سواها، ثم البرهنة على فكرة إعجاز النص القرآنى وعدم قدرة البشر على تقليده أو الإتيان بمثله". ترى أين نجد ذلك فى القرآن؟ إن كل ما يمكن أن يفكر الإنسان فيه فى هذا السياق هو وصف القرآن لنفسه بأنه قد نزل "بلسان عربى مبين"، ومعناه أن أسلوبه هو أسلوب عربى كله جلاء ووضوح.

فالكلام، كما نلاحظ، عن أسلوب القرآن لا عن تميز اللغة العربية وتسويغ انتقائها لغةً للوحى القرآنى! أرأيت، أيها القارئ الكريم، كيف أن د. أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى، يجهل المضمون القرآنى إلى هذا الحد، ثم هو يتنفج مع ذلك على المفسرين والمفكرين المسلمين نافشا ريشه عليهم. ثم إنه، بعد ذلك كله، لا يترك المفسرين المسلمين فى حالهم رغم عجزه الفاضح عن مساماتهم، بل يتنقص منهم ويفترى عليهم المفتريات المضحكة، إذ يزعم أنهم، حين يتناولون القرآن بالتفسير، يعتقدون أنهم إنما يعبرون عن مقصد الله على نحو متطابق. وهذا واضح، حسب كلامه، فى أن الطبرى، بعد أن يورد الآية التى يتناولها بالتفسير، يضيف الكلمتين الآتيتين: "يقول الله تعالى:..."، ثم يضع نقطتين على السطر، ويذكر تفسيره للآية على أساس أن ذلك هو مقصد الله، غير واع أن ما يقوله إنما هو مجرد تأويل من التأويلات التى تقبلها الآية (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/235- 236،291- 292). ووجه الافتراء هنا أن مفسرينا، على الضد من ذلك، كانوا واعين تماما أن ما يقولونه لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد. وهذا واضح من أنهم، بعد قولهم كلمتهم فى تفسير الآية، يردفونه عادة بقولهم: "والله أعلم". ومعروف عن الطبرى، الذى حظى بالنصيب الأكير من هجوم أركون، أنه كان يورد أولا كل الأقوال فى النقطة التى يتناولها فى الآية، سواء كانت لغوية أو تشريعية أو خاصة بأسباب النزول، ثم يوازن بينها قبل أن يقول كلمته هو، التى يقدم لها بالعبارة التالية: "وأولى الأقوال عندى بالصواب قول من قال كذا وكذا" أو ما يشبهها. فأين التعصب الذى يدعيه أركون عليه والاعتقاد بأن ما يقوله هو مقصد الله على وجه التطابق؟ أما القرطبى فهو، بعد إيراده الآراء المختلفة فى الآية، يعقب فى الغالب قائلا: "والرأى الفلانى أصح". كما يقول عادة: "فإن صحَّ هذا فيكون الأمر كذا وكذا"، أو "والله الموفق للصواب"، أو "والله أعلم"، بما يفيد أن المسألة لا تعدو عنده الترجيح بشروطه لا أكثر، وهو ما يكذِّب دعوى أركون على المفسرين القدماء وينسفها من جذورها، وإن لم يعن هذا أنهم لم يكن لهم موقف أو رأى خاص يتمسكون به ويناضلون دونه ويرَوْن أنه هو الرأى الأفضل، إذ إن هذه طبيعة بشرية فينا جميعا. لكن هذا شىء، والزعم بأنهم كانوا يظنون أن ما يقولونه فى تفسير الآية هو مقصد الله سبحانه، وأنهم قد احتكروا الحقيقة المطلقة، شىء آخرمختلف تمام الاختلاف!

وقد أشار د. أركون إلى شىء من هذا حين كان يتكلم عن الرازى ومحاولته العثور على الصلة التى تربط الآية التاسعة من سورة "الكهف" بالآيات التى سبقتها، إذ قال: "أما المفسر فخر الدين الرازى فيقترح وجود تمفصل مع الآية السابقة، ولكنه يبدو غير واثق تماما فيضيف قائلا: والله أعلم" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). كذلك يدَّعى زورا وبهتانا أنهم لم يتنبهوا إلى أن فى القرآن مجازا واستعارات، وأنهم جميعا، من سنة وشيعة وإباضية...، كانوا يأخذون "كلام النص على حقيقته وكأنه خالٍ من المجاز. هذا فى حين أننا نعلم أن النص الدينى ملىء بالمجاز، بل وينفجر بالمجازات والاستعارات الخارقة والرائعة" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 192). والواقع أن من الصعب علىّ أن أعرف عن أى مفسرين يتكلم د. أركون، فالمعروف أنهم كلهم تقريبا يفسرون آيات الجوارح الإلهية على أنها من باب المجاز، فما بالنا بالآيات التى لا تتعلق بهذا الموضوع ولا تثير أية حساسية فى تحليلها مجازيا؟ ومرة أخرى نرى أركون يناقض نفسه فى موضع آخر قائلا عن "المجاز" إنه "قد دُرِس كثيرا بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب فى القرآن وتجميله"، وإنْ أضاف أنه "لم يُدْرَس أبدا فى بعده الإبستمولوجى بصفته محلا ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التى تصيب الواقع" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 98)، فضلا عن اعترافه بأن من المفسرين من كان يتناول القرآن تأويلا رمزيا باطنيا فى مقابل من يأخذونه على ظاهره وحرفيته (الإسلام- أوربا- الغرب/193).

وفى النهاية أُحِبّ أن أؤكد أننى لا أعادى العلوم الجديدة كما قد يظن خطأً بعض من يقرأ هذه الدراسة لما يجده فيها من تهكمات على البروفيسير أركون فيحسب أنى أتهكم على تلك العلوم. والواقع أنى إنما أتهكم على من يظنون أن هذه العلوم هى فكرٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبخاصة إذا تسرعوا فى تطبيقها على النص القرآنى متصورين أن كلمتها حاسمة فى هذا الموضوع لا ينبغى أن تناقَش، فضلا عن أخطائهم القاتلة فى التطبيق نتيجة لضعف إحاطتهم بالقضايا التى يناقشونها ولما دخلوا به الحَلْبة من موقفٍ مسبقٍ وهوًى فاشٍ غلابٍ لا يخفى على كل من له عينان! كذلك لست أنا بالذى يضيق بمناقشة النص القرآنى، وإلا لتجاهلت ما كتب الرجل وأمثاله ممن يعملون على التشكيك فى كتاب الله من مستشرقين ومبشرين وتابعين لهم من أبناء الإسلام الناشزين عليه ولما قارعت شبهاتهم بحججى شبهةً شبهةً لا أجمجم ولا أورِّى ولا أنادى أبدا بوجوب الابتعاد بالنص القرآنى عن المناقشة أو حتى التشكيك، بل أرهق نفسى وأغوص هنا وهناك فى كل المصادر والمراجع التى تتصل بالموضوع، مع عدم الرضا فى نهاية المطاف عما فعلتُ لمعرفتى أننى، مهما صنعتُ، فلن أوفى الموضوع حقه من البحث والجلاء. إن كاتب هذه السطور، على العكس من ذلك، يجد لذة عجيبة ورائعة فى قراءة مثل هذه الكتابات، إذ أراها فرصة لمراجعة نظرتى السابقة إلى ما أومن به لعلى أرى شيئا جديدا أضيفه لعلمى أو اقتناعى... إلخ، فضلا عن أنها تحرك منى العقل، وحركةُ العقل عند من يعرفون قيمة هذه النعمة الإلهية لا يمكن تقديرها بمال! ولعل القارئ يرى الفرق بين الطريقة التى يتبعها د. أركون وتلك التى أتبعها أنا، فهو فى كثير من الأحيان يلقى بحُكْمه لا يبالى أين يقع ولا كيف، ودون أن يكلّف نفسه إقامة الدليل على ما يقول أو الرجوع إلى أهل الاختصاص ليسترشد بما قالوا، بل دون أن يهتم مثلا باستنطاق المعاجم أو الاستعانة بالشواهد. وهذا ما يزعجنى فى كتاباته. إنها كتابات متسرعة لا ترفدها قراءات واسعة وعميقة بالرغم من الشقشقات الفارغة بأسماء العلوم ومصطلحاتها مما يحسب أنه يلقى الرهبة فى قلوب قرائه من أبناء العرب الذين يمثلون التخلف فى نظره لعدم انسياقهم معه وراء مايهرف به الغربيون فى ديننا وكتابنا، وفوق ذلك فهى كتابات منفوخة غرورا جَرّاء إحساسٍ حادٍّ ومتضخمٍ بالذات قائم على غير أساس كما أَثْبَتُّ فى هذه الدراسة! أما العلوم الجديدة فمرحبا بها وأهلا وسهلا، على أن نظل مفتَّحى الأعين والعقول والقلوب قلا نتحول إلى عبّاد لها كأننا وثنيون فى معبد أصنام.

لقد وقفتُ مثلا ضد ما كان د.محمد مندور قد كتبه فى بداية أربعينات القرن الماضى داعيًا إلى إبقاء النقد الأدبى بعيدا عن العلوم، وبخاصة علم النفس، الذى قال إن نتائجه غير نهائية ولا تنطبق على المتميزين من البشر كالأدباء مثلا، علاوة على أن محاولة تطبيقه فى ميدان النقد الأدبى معرَّضة للخطإ. وكان رأيه أن النقد لا ينبغى أن يستند إلى أى شىء سوى الذوق الأدبى، الذى أكد أنه لا يمكن اكتسابه على نحو مُرْضٍ إلا من خلال قراءة النصوص الأدبية. أما أنا فقد قلت إن النقد الأدبى يحتاج، فوق هذا، إلى أن نتذرع له بكل ما يمكننا تحصيله من علوم ومعارف، وأضفت أنى، رغم موافقتى للدكتور مندور على إمكانية الوقوع فى الخطإ عند تطبيق نتائج علم النفس على الأدب ونصوصه، أرى أن ذلك لا ينبغى أبدا أن يخيفنا، فهذه طبيعة الحياة، لا فى مجال النقد الأدبى فقط، بل فى كل المجالات، إذ لا بد أن تقع الأخطاء مهما احترزنا وأخذنا كل الاحتياطات اللازمة. ومع أنى كنت شديدا فى محاسبة أحد الأطباء النفسيين الذين أخطأوا فى تطبيق بعض مُعْطَيَات علم النفس على شِعْر المتنبى فقد ظللت على رأيى المبدئى فى وجوب الاستعانة بعلم النفس وغيره من العلوم فى مجال النقد رغم ذلك. ويجد القارئ الكريم كل هذا فى مفتتح الفصل الثالث من كتابى "مناهج النقد العربى الحديث"، وهو الفصل الخاص بـ"المنهج النفسى" (مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 79 وما بعدها).