رأي في الموسيقى الشعرية

رأي في الموسيقى الشعرية

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

تتبع د. إبراهيم أنيس عددا من فحول الشعراء في العصر الحديث ليدرس جوانب التجديد الموسيقي عندهم، فوجد أن البارودي يجري في ديوانه على الأوزان التقليدية المعروفة باستثناء قصيدة واحدة من وزن مخترع لا عهد للعروضيين به، وجاءت في تسعة عشر بيتا، منها:

امـلأ  iiالـقـدح
وارو iiغـلـتـي
فـالـفـتى iiمتى


واعص من نصح
بـابـنـة iiالفرح
ذاقـهـا  iiانشرح

كما جاء في الشوقيات قصيدة واحدة من وزن مخترع، هو الوزن الذي اخترعه البارودي، ومنها:

مـال واحتجب
لـيت iiهاجري

وادعى الغضب
يـشرح السبب

وقد حاول بدوي الجبل في ديوانه الصادر عام 1925أن يجدد بتلوين القافية، والتنويع في طول الأشطر والتفعيلات ، من ذلك قوله:

لا  تـحبيني ففي حبي iiالشقاء
واطرديني تطردي عنك البلاء

يــا     فــــتــــاة
فــي iiالـحــــــيـاة

وقد تخلى عن ذلك فيما بعد.

وقد تجاوز أنصار الشعر الخليلي بعض القواعد الخليلية بشكل نسبي، من ذلك التصرف بعروض البحور وأضربها ، من ذلك ما فعله الشاعر الكبير عمر أبو ريشة في تغيير ضرب مجزوء الرجز حيث جعله (فعلن)، من ذلك قوله:

للصوم آلام وللإفطار  لــذات

لولا مرار الهجر لم تحل اللبانات

وقد أوجد علي الناصر شكلا خليليا جديدا عندما خرج من البحر السريع إلى وزن جديد نتج من تكرار (فاعلن) في نهاية الشطر مع استغنائه عن (مستفعلن) قبلها:

أنت  وفي  عينيك  سحر حلال

كيف اتخذت اليوم (صافو) مثال

فوجئت  في   خلواتك  المظلمه

بين  ذراعي  لــبوة   مغرمه

تـهصر   أضـلاعك  الناعمه

وقد أضاف شعراء التفعيلة تجديدا آخر تمثل في ظاهرة انتشار (فاعل) في المستدرك، وقد انتقل ذلك الأمر إلى الشعر العمودي أو الخليلي.

وقد انهمرت سحب التغيير بشعر التفعيلة، وما رافقه من تنويعات لا نستطيع أن ننكر أن الذائقة العربية قبلتها بشكل كبير.

ولعل ما نريد قوله هنا أن التغيير الحضاري الذي انعكس على الأذن الموسيقية تحت شلالات من التغييرات في إيقاع الحياة ذاتها قد فتح المجال أمام هذا التقبل الموسيقي ضمن المحافظة على الخط العريض للأذن العربية الأصيلة التي تسدد وتقارب، وهذا هو ما جعل بعض المختصين أو المحترفين لموسيقى الشعر العربي الأصيل لا يشعرون كثيرا بالانزياح الموسيقي الحادث في موسيقاهم، ونحن هنا أمام خيارين: إما أن نرفض أي تغيير على القواعد الأصيلة، أو نتقبل ما تقبله أذواقنا المعاصرة بما ينسجم مع الحرص على الإيقاع القديم ومحاذاته بشكل كبير، دون الانجراف مع الدعوات التدميرية لكل شيء جميل!!

وأما عن التغيير العروضي عند القدماء، من ذلك تغييرات الموشحات، بالإضافة إلى بعض التغييرات التي قد يتفق بعضها مع ما ذكرنا من التغيير العروضي في العصر الحديث، فإن في ذلك إشارة إلى إمكانات التغيير الطبيعي وفق ما ينسجم مع الحس الموسيقي، فلا يعقل أن تكون شاردة ذات جرس موسيقي مقبول عند أحد القدماء مقبولة لكونها من عصر غابر، بينما مثيلتها من التغييرات في عصرنا الحديث غير مقبولة لكونها حديثة فقط.

وأنا أرى أن قبول أي تغيير لا يخضع لقديم أو جديد بقدر ما يخضع للإمكانات الموسيقية التي يمتلكها هذا التغيير، ولعلنا ونحن نستقبل تجربة شعر التفعيلة اليوم ونمارسها نمتثل لهذا الرأي، لأن شعر التفعيلة يمتلك إمكانات موسيقية رائعة لا يكاد يجادل فيها أحد، على الرغم من نماذج سيئة تطفو على السطح منه لا تؤثر على مكانته كما لا تؤثر على مكانة الشعر العمودي نماذج رديئة تنتمي إليه.

ويقودنا ذلك إلى قناعة بأن الموسيقى الشعرية تقبل التطور الطبيعي أو المكتسب بالتأثر والاحتكاك مع معطيات حضارية ما، ولكنها لا تقبل التطوير القسري، الذي يقحم عليها ما يتنافر مع أبسط قواعد المنطق، مثل زج النثر في معترك الشعر بما يسمى اليوم قصيدة النثر، وكأننا نقول: (المرأة الرجل)، أو (الليل النهار)، فنجمع نقيضين لا على مستوى التكامل بل على مستوى التمازج.

 ونحن لا ننكر هنا ظاهرة التراسل بين الفنون، ولكن التراسل والاستفادة من إمكانات الفنون الأخرى لصالح فن معين لا تجعلنا نخلط الأمور، إلى درجة التماثل لا التراسل، فالحكمة الإلهية اقتضت وجود ناموس كوني قائم على الثنائية، وحتى لا يبدو كلامي عن التراسل غريبا ، نقول إن التراسل بين الشعر والفنون الأخرى يتمثل في استفادته من إمكانات تلك الفنون كأن نجد في قصيدة معينة سمات مسرحية من صراع وحوار وشخصيات، أو سمات من فن الرسم كالألوان ومساحات التشكيل بين النور والظل، أو سمات قصصية مثل الارتداد أو الاستباق، أو سمات الدراما السينمائية، مثل السيناريو والمونتاج... إلخ.

وكل هذا التماهي النسبي مع الفنون الأخرى يجمّل ويزيّن الشعر مثلا لكنه لا يمنحنا القدرة على اعتباره جنسا أدبيا جديدا إلا إن زادت جرعات التراسل وكسرت الحدود الفاصلة، مما يجعلنا في بعض الحالات نقول: هذه ليست قصيدة مثلا بل مسرحية شعرية. والقواعد الفنية الضابطة لذلك موجودة بيننا ككائن حي غير جامد، بل ينمو ويتطور، ويمنحنا سعة في التطبيق، ويمنعنا من التهور فيه إن اقترب بشكل حاد من الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية المختلفة.

نعم ، قد نجد غدا من يدرس ظاهرة شعر التفعيلة، ولا يستغرب وجودها في الأدب العربي، تماما كما ندرس اليوم فن الموشحات، لكنني أشك أن نجد غدا من يدرس النثر الشعري المزعوم على أنه شعر، للفارق الشاسع بين الأمرين، أما شعر العامية فتلك قضية أخرى!

ويمكننا هنا أن نقول: إنه لو اجتمعت معظم عناصر الشعر المميزة له في كلام كاتب ما، باستثناء الموسيقى، لما عُدَّت كتابته شعراً ، كأن يزخر الكلام بالصور الجزئية والكلية، والعواطف الجيّاشة المتدفقة، ولغة الشعر وتراكيبه، وفضاءاته وأساليبه، لأن الحد الفاصل بين الشعر والنثر هو الموسيقى أولا، ثم تأتي تلك المواصفات الأخرى، التي إن تجرد منها الشعر لم يعد شعرا بل نظما، فالموسيقى هي الهيكل العظمي الذي يقوم الشعر عليه، لكنه لا يكفل الحياة لصاحبه وحده دون مكوناته الأخرى، وحكمنا على النثر المقارب للشعر في أساليبه، هو ذات حكمنا على الشعر المتراسل مع الفنون الأخرى، فيبقى كل منهما في دائرته وجنسه المميز، ولا يغفل الناس عن إضافاتهما الجمالية المستمدة من الطرف الآخر.

ولعلنا نضطر إلى القول: إن التشابك بين علوم اللغة والأدب أمر لا مفر منه، ولعل هذا هو ما يغفر لنا استطرادنا في الحديث عن السمات الفنية للشعر والنثر عند حديثنا عن نوع الموسيقى الشعرية المزعوم في النثر، أما وإن قال البعض: إنكم تنسون الموسيقى الداخلية الظاهرة والخفية في قصيدة النثر تلك، فنقول:  الموسيقى الداخلية تشكل نسبة قليلة من مكونات الموسيقى الشعرية، فلو زادت عند البعض لتصل إلى 30% ، فإنها تبقى محدودة التأثير، كما أنها تتوازن في ذلك مع النثر بشكل عام، فالنثر يمتلك نسبة من الموسيقى النابعة من داخله، لكن تلك النسبة لا تمنحه سمة الشعر، وإلا تحطمت السدود، وأصبح كل ما يقوله الناس شعرا، لأن كلامهم عبارة عن أصوات تتنافر أحيانا وتتناغم في معظم الأحيان، لأن لغتنا العربية تميل إلى البعد عن الأصوات الشاذة المتعبة في النطق.

نحن نؤكد على أهمية القواعد في التأصيل للفنون الأدبية، ونقتنع بإمكانات التغيير الطبيعية أو المنطقية، أما أن يفتح باب التداخل لا التراسل على مصراعيه، فتلك هي الفوضى إذا، وهي فوضى مقصودة غالبا أو لا مبالية بالقيم الإنسانية والجمالية في أحسن التقديرات.