التضايف الثنائي
التضايف الثنائي
بين ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة
د.محمد سالم سعد الله
أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل
يعدّ مصطلح (ما بعد البنيوية:poststructuralism) ذا تداخل وأثرٌ في تنوع الممارسة المعرفية لمصطلحات عدة منها : مصطلح (ما بعد الحداثة:Postmodernism) ، إذ حاولت وصف العالم بوساطة التعابير الموضوعية العقلانية والتجريبية ، وقد افترضت بأنَ هناك حقيقة يجب أن تكشف عن طريق الحصول على أجوبة مرتبطة بالشرط الإنساني للوجود ، فضلاً عن عدَ ما بعد البنيوية صياغات شرطية للممارسات المعرفية المختلفة ، فقد منح منهج ما بعد البنيوية أهمية في انطلاقها بإقصاء الإنسان ، وبالحكم عليه بالفناء ، وبحملها عنصر الانسلاخ عن مقومات البنيوية وطرائقها ، وبإنكار مفهوم الأصل .
ويمثل إقصاء الإنسان (المؤلف) هنا أحد متطلبات مشروع تطويـر النص الحديث في نقد ما بعد البنيوية ، وقد مثلت أيضاً بيان تحليل النصوص ، ومراجعة المفاهيم لغرض كشف التناقضات الداخلية ، وسلب الخصوصية عن بعض مفاهيم النص ، فضلاً عن الكشف عن المفاهيم المتعارضة التي حاول النص إخفاءها ، ويندرج التأويل هنا ليعطي ما بعد البنيوية بعداً جديداً لإعادة تركيب النص الذي سيعمل ضد نفسه بسبب احتوائه على بذور تفتته وتشظيه .
إنّ الدور الدلالي والمعرفي لما بعد البنيوية يكمن في إقصاء البعد البنيوي للدلالة ، وإعطاء الأهمية لعملية التلقي من خلال القراءات المتعددة ، وسوء القراءة مع التفكيك ، والتواصل الدلالي ، والبحث عن المعنى مع التداولية ، والكشف عن فجوات النص ، والبحث عن انسيابيته ، وإبراز دور المتلقي مع تقديم مساحة واسعة لنقد طروحات الاستقبال والتلقي ، التي تمثلت بشكل أساس بتوجهات مدرسة ييل الأمريكية .
ويشير مصطلح ما بعد الحداثة إلى إمكانية استثمار معطيات الطرح المتسامي (Sublimation) للنماذج المتعالية(Trancendental Model) التي قدمتها الحداثة (Modernity) بوصفها ـ أي النماذج ـ مشاريع جديدة كفيلة بالتعايش مع المعطى الرأسمالي ، والتوجه الإمبريالي الجديد ، الذي قاد مسار الفكر العالمي إلى مواطن العدمية التي بشَر بها (نيتشه) ، والى اختزال المعطى الميتافيزيقي – بل محاربته - وإعطاء الدور للمُنظِر (Theorist) الذي سيمثل السلطة الفكرية النقدية ، وسيمارس صناعة المشهد العقلاني لحضور المعنى.
وقد انطلقت معطيات ما بعد الحداثة من إفراز المعطى الكوني لوصف ثقافة بعينها ، وقد عدَ (بورديو) ذلك احتكاراً كونياً ، وخلاصة عملٍ ينحو للكونية(Universalisation) ويتحقق في داخل الحقل البيروقراطي ، ويفرض اللغة والثقافة السائدتين بوصفهما شرعيتين ، واستبعاد خصوصيات الثقافات الأخرى ، وهنا تتم السيطرة الرمزية للمعطى الكوني القائمة على الاعتراف بمبادئ نقدية وثقافية تتم من خلالها ممارسة فعل التسلط(1) .
وأكدَ بورديو أنَ تلك السيطرة الرمزية تثير (عنفاً رمزياً) من خلال تحديد علاقات السيطرة والخضوع إلى علاقات عالمية كونية، وإضفاء تلك السمة هي استراتيجية لكسب شرعية الهيمنة(2).
ولم يحظ مصطلح بالعناية والتبويب والتفصيل ، فضلاً عن التناقض والتشتت واختلاف التوجهات ، بقدر ما حظي مصطلح (ما بعد الحداثة) ، فقد شهد تحديده أزمة منهجية طالت ثقافات ومدارس متنوعة .
ويعدَ التداخل والتقاطع بين ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ظاهرةً أشد وضوحاً في أمريكا منها في فرنسا ، بسبب التوجه الأمريكي الذي جعل من مصطلح ما بعد الحداثة معبراً إلى الغايات الأيديولوجية المتمثلة بالسيطرة على العالم في الأصعدة كافة ، أما التوجه الفرنسي فقد جعل من ما بعد البنيوية نقداً وتجديداً لأسس الحداثة لا إلغاء توجهاتها التي بُنيت أساساً على أركان ثلاثة(3) :
1. فكرة التنوير الأوربي .
2. السيادة الكونية .
3. فكرة التصنيع .
الفكرة الأولى قائمة على عداء الميتافيزيقا بوصفها غياباً ، والتعامل مع الواقع بوصفه حضوراً،وبالتالي سيادة الإنسان الرأي واحتكار الحقيقة ، والفكرة الثانية قائمة على استغلال موجودات الآخر وصهرها بما يناسب مصالح (الأنا) ، وتقديم النموذج الأمثل للإنسان الأبيض الأوربي بوصفه النموذج المتعالي الذي يمتلك أسباب القوة والتطور ، ومن هنا انبثقت الفكرة الثالثة التي تقتضي تعزيز الفكرتين السابقتين من خلال امتلاك محاولات الابتكار ، والآلة الحديثة .
ويمكن عدَ تلك الأفكار مراحل تكتيكية للوصول إلى استراتيجية ما بعد الحداثة التي ما تزال تتسم بـ"اللاإستقرار الدلالي والتاريخي"(4) للعديد من معطياتها ومفاهيمها الأدبيـة والنقدية والمعرفية ، ومن أشهر نقاد ما بعد الحداثة (ليوتارد ، وجيمسون ، وبورديلارد)،فضلاً عن (أندرياس هايسن ، وألكس كالينيكوس ، وإيهاب حسن) .
والتداخل المعرفي بين ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية كبير جداً ، ولا يخضـع لقوانين معينة ، بل يخضع حسب بورديلارد ـ في سياق حديثه عن مصطلح الحداثة ـ لمعالم تجعل من الأزمة النقدية قيمة وأخلاقاً متناقضة ، وقد أسهمت تلك المعالم في هيمنة الدولة البيروقراطية ، وتفكيك نمط الثبوت والمطالبة المستمرة في التغيير(5) .
وجاءت ما بعد الحداثة لتقدم رؤية مزدوجة حول طائفة من القضايا منها تدمير القيم المتوارثة ، والمظاهر التقليدية ، وتدمير المعنى للبقاء في دوامة لعبة الدوال ، فضلاً عن تغييب الحقيقة ، ومسخ هوية الآخر ، وتقديم النمذجة المعرفية والنقدية التي تصطبغ بنزعة الهيمنة ، واستخدام الجنس (Sex) بوصفه أداة فاعلة في التأثير والتوجيه ، حتى يتم بلوغ مرحلة الاستئناس بنموذج ما بعد الحداثة ، ووصفه بأنَه النموذج الواقعي الذي يمتلك أسس بقائه ، وأسباب توجهه نحو المستقبل .
وقد تحول كل شئ في مرحلة (ما بعد الحداثة / ما بعد البنيوية) إلى لغة : (الأمراض العقلية والجسدية ، الظواهر الحياتية المختلفة ، اللاوعي ، الجنس ، الآلة ، الحرب ، النزاعات والصراعات الفكرية والعقدية) ، فالحرب مثلاً تحولت عند نقاد ما بعد الحداثة إلى لغةٍ بل إلى دلالة من دلالات الممارسة اللغوية غير المتجانسة ، تتضمن معايير معرفية وتاريخية وسياسية ، وبهذا المعنى تحولت الحرب إلى دلالة متسامية ـ بالمعنى الكانتي ـ تتحدى المبادئ التي وضعت لأجل العدالة .
وبذلك عدَ الناقد التفكيكي (كريستوفر نورس) السكوت على المجازر التي أُرتكِبت بحق المدنيين العراقيين في حرب الخليج تطبيقاً على ما ذكر ، وفهرساً للعلاقة التواطؤية القائمة بين النظرية في اكثر أشكالها المتمثلــة بـ(ما بعد البنيوية ، وما بعد الحداثة ، والبراجماتية الجديدة) وبين مصالح نزعة الهيمنة التي تحاول تهميش الحقيقة ، وتحكم بالمنجز الإعلامي والرأي العالمي(6).
ونظراً لتعدد المداخل المعرفية والفكرية لما بعد الحداثة فقد عدَ النقاد مسألة وضع تحديد منهجي شامل لها هو بمثابة الحلم ، لأنَها تمثل حرباً ضد الشمولية والكلية والعمومية ، إنّها حرب ضد كلّ المطلقات والقيم ، ولا تخضع لقانون أو دستور أو معيار كلي ، وقد وُصفت بـ(الفاشية Foscism) ، و بـ(الإرهابية)(7).
وتتمثل فاشية ما بعد الحداثة بافتقارها إلى مشروعية ما هو صادق وما هو عادل ، واستفحال الولادات المتكررة للحركات والظواهر الإرهابية ، وتعرض الرأسمالية (Capitalism) إلى أزمة بل أزمات حقيقية ، وفيها يشهد المعطى النقدي والفكري العالمي مرحلة تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى ، وغياب أنساق المعتقدات التي تُوجه الإنسان في تفكيره وسلوكياته ، فضلاً عن تمثلها لحالة من التدهور والانحطاط الاجتماعي والثقافي .
وقد اتجهت ما بعد الحداثة إلى الاستعانة بمعطيات ما بعد البنيوية حتى وُصِفت – أي ما بعد الحداثة – بأنَها تمثل مشروعاً نقدياً واحداً مع ما بعد البنيوية ، وليس ذلك حسب إذ استثمرت ما بعد الحداثة كتابات ما بعد البنيوية في نظرية التفكيك ، ومارست فعل التلاعب باللغة كما هو عند نقاد ما بعد البنيوية(8).
وقد جعل (جيمسون) تلمس خصوصية ما بعد الحداثة في سمتين : (الخلط pastich ، والنصية Textual) ، فضلاً عن الموقف من مفهوم الفرد الذي يُعدَ الأساس النظري للنزعة الفردية المُؤدلجة في عصر الرأسمالية المندمجة ، والبيروقراطية المنظمة ، وبنيان ما بعد البنيوية الفلسفي والثقافي ، ولهذا سعى جيمسون إلى الكشف عن اللاوعي السياسي المتضمن في النصوص الثقافية والنقدية ، وبيان إمكانية تعرية تلك النصوص من أقنعتها الأيديولوجية وشعاراتها التي قد لا تملك صيرورة تمثل الحقيقة(9) .
لقد رأى جيمسون أنَ تحولات المسار النقدي والمعرفي لما بعد الحداثة بوصفها محاولات لإعادة بناء المجتمع الرأسمالي ضمن مرحلة جديدة في التفكير ، من مراحل الرأسمالية التي تضمن بقاء نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه(10) ، وهذه التحولات ـ بطبيعة الحــال ـ لم تكن منفصلة عن تطورات المسار النقدي لما بعد البنيوية لتشابه الطرح المنهجي والغائي ، واقتراب مواكبة أزمة ومحنة المعنى في نظام التمثلات الملتبس في قيادة العالم .
وفي السياق نفسه ، يجد جيمسون أنَ الربط بين مواقف ما بعد الحداثة الأمريكية ، وما بعد البنيوية الفرنسية ، هو وسيلة للنفاذ عبر الخطاب الجمالي إلى البعد الأخلاقي لنظرية خطاب ما بعد الحداثة ، ويسمى ذلك:اللاوعي السياسي(The political unconscious)(11).
وقد دعا هذا (اللاوعي السياسي) إلى حرب عالمية ثالثة ، وصفت بأنَها (خرساء) لأنَ الموازين فيها تمثل غياب المعنى ، بل فقدانه في ساحة الحكم العقلاني غير المُسيس ، ففي هذه " الحرب الأطفال يقتلون محل الجنود ، وهناك ملايين العاطلين عن العمل محل ملايين الجرحى ، ودمار المصانع والمدارس بدل تدمير الجسور ، إنَها حرب المديونية الخارجية ، سلاحها الأساس المصلحة وهو سلاح اشد فتكاً من القنبلة النووية ، وذو قدرة تحطيمية اكبر من أشعة الليزر "(12).
ومن النقاد المعاصرين الذين تحدثوا عن المقاربة ، والمفارقة بين مصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ، الناقد الأمريكي (إيهاب حسن) ، ويتمثل حديثه في ذلك من خلال مرحلتين :
الأولى : حديثه عن الفرق بين معطيات الحداثة ، وما بعد الحداثة .
الثانية : حديثه عن أوجه التشابه والاختلاف بين ما بعد الحداثة ، وما بعد البنيوية .
في المرحلة الأولى وضع إيهاب حسن مخططاً مهماً في تلمس أوجه الفرق بين مرحلة الحداثة وإفرازاتها ، ومرحلة ما بعد الحداثة وإفرازاتها ، ومحتوى هذا المخطط كالآتي(13):
الحداثة |
ما بعد الحداثة |
ما بعد البنيوية |
الرومانسية / الرمزية |
الددائية / السريالية |
الماركسية / الوجودية |
الشكل ( متركب ، مغلق ) |
اللاشكل ( متقطع ، مفتوح ) |
الشكل ( مهشم ، مفتوح ) |
الغرض |
اللعب |
نظرية اللعب |
التصميم |
الصدفة |
الصناعة |
الهرمية |
الفوضى |
اللانهائية |
الإتقان / اللوجوس |
النقص / الصمت |
التسيس / الادلجة |
موضوع الفن / العمل المنجز |
الصيرورة / الأداء / الحدث |
من البنية إلى الصيرورة |
الانفصال |
الاشتراك |
التكوثر |
الإبداع / الكلية |
اللاإبداع / التفكيك |
خلق التفكيك |
التأمين |
التناقض |
التشظي / التشتت |
الحضور |
الغياب |
الحضور والغياب |
التمركز |
التبعثر |
اللاتمركز |
النوع / الحد |
النص / داخل النص |
علم الكتابة |
المثل |
النسق |
النمذجة |
ترتيب ( تنظيم ) |
تعقيب ( استئناف ) |
التفتيت |
الاستعارة |
الكتابة |
المجاز |
الاختيار |
المزج |
التغريب |
الجذر / العمق |
الجذر الممتد / السطح |
انساب الجذر / العمق |
التأويل / القراءة |
ضد التأويل / إساءة القراءة |
ضد التأويل / إساءة القراءة |
المدلول |
الدال |
لعبة الدوال |
الشفاهي |
الكتابي |
الكتابي |
السرد / القصة الكبرى |
اللاسرد / القصة الصغرى |
السردية/القصص الكبرى والصغرى |
الشفرة الرئيسة |
اللهجة |
المعنى |
العرض |
الرغبة |
الشبق |
العضو التناسلي / الذكر |
عضو متعدد الأشكال / الخنثى |
حرمان العضو / الأُنثى |
البارانويا |
الشيزوفرينيا |
الفنتازيا |
الأصل / السبب |
الاختلاف – الإرجاء / الأثر |
الاختلاف – الإرجاء / الأثر |
الميتافيزيقا |
المفارقة |
ميتا-مفارقة |
التوجه |
اللاتوجه |
الاختزال |
التحول |
الملازمة |
المراوغة |
وأظهرت ما بعد الحداثة ممارستها المعرفية بوصفها التكوين المفاهيمي المعاصر ، والتفكير المُعقلن والمتناغم ـ حسب توجهاتها ـ فضلاً عن كونها ممارسة تكتيكية وتفكيكية .
ومن أهم سمات ما بعد الحداثة هي الانعكاسية الذاتية (Self Reflexivity) ، التي تقدم فائدتها وحصيلتها إلى مقولات ما بعد البنيوية في أنَ المنهجية المختارة تشكل المادة نفسها عند دراستها ، ولذلك لم تؤمن ما بعد الحداثة بالفواصل ، والفوارق الثقافية المعرفية ، لأنَ أشكال المعرفة هي نفسها تنتج أشكال المادة المدروسة نفسها وتتأثر بها ، هذا فضلاً عن سمات أخرى تكشف المقاربة النقدية لها تؤكد تبنيها للطروحات البنيوية وما بعد البنيوية ، كما أنَ دراستها التطبيقية تحيل باستمرار إلى معطيات دريدا ، ولاكان ، وبارت ، وفوكو …..(14).
ويتحدد المنظور الفلسفي لما بعد الحداثة بتمركزها حول الفراغ الذي أوجده غياب وتقويض مرحلة الحداثة ، وقد استخدم هذا التقويض مفاهيم ما بعد البنيوية التي ألغت محدودية المعنى وإمكانية تفرده ، وأكدت على أنَ الحقيقة الثابتة ما هي إلا صناعة لغوية ، فضلاً عن دور ما بعد الحداثة في إعادة تعريف الحقائق المتغيرة ، وزعزعة الثقة بالثوابت ، مما يؤدي إلى تعرية صيرورة الحقائق وتحيزاتها ، وتسعى في الوقت نفسه إلى إبراز عملية تصنيع الحقيقة وإبطال مقولاتها المتعالية(15).
أما المنظور الاستراتيجي لما بعد الحداثة فيتمثل في تأصيل النص ، وانفتاحه وكسره للحدَ، وينجم عن ذلك : التحول إلى لا نهائية الدلالة ، ولا محدودية المعنى ، وتعدد الحقائق والعوالم باختلاف القراءة ، والإساءة إليها ، ولذلك لا تتسم ما بعد الحداثة بالحيادية مطلقا ، لأنَها إن حاربت التميز باسم الحياد المطلق فإنَ هذا الحياد سينقلب إلى تحيزٍ بسبب طبيعته المؤدلجة ، وهي إن حاربت التمركز باسم تبني الهامش ، فإنَ هامشها نفسه سيتحول إلى مركز ومن ثمَ إلى تمركز(16).
ويمكن إجمال الطرح المعرفي لمرحلة ما بعد الحداثة بما يأتي(17) :
1. تحويل العمل الإنتاجي إلى طابع استهلاكي – حسب بودريلارد(18) - .
2. تشويه العلاقة بين الثقافة والمجتمع .
3. البعد عن الأصالة .
4. تقديم الثقافة بوصفها خطاباً لا يحمل مضامين سياسية ـ حسب بودريلارد ـ .
5. غياب المعايير والأخلاقيات .
6. فقدان الضبط الاجتماعي .
7.التحول من الاهتمام بالعقل إلى التركيز على القوة والسلطة .
8. لم يعد الهدف الصدق الواقعي بل أصبحت الاداتية(Performativity) هي القصد النهائي.
إنَ ظهور الطرح المعرفي لما بعد الحداثة ، واستفحاله أوحى إلى شراكة النمط الواحد لمصطلحي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ، بحيث وصلا إلى مرحلة التطبيق النقدي المشترك لأفكار النظام والوحدة على صعيد الأسرة المنهجية ، ووضعا حدا للقواعد الثابتة القديمة ، وللثوابت السياسية الراسخة ، فضلاً عن أنَ أي توجه من توجهات ما بعد الحداثـة ـ على صعيد النقد ـ يجب أن يلتقي في تناوله للحملات وللحركات التي عنيت بأفكار ما بعد البنيوية(19) .
وقد انتفعت ما بعد الحداثة من الطرح النقدي الشامل لما بعد البنيوية من خلال ظواهره الخطابية التي يمكن وصفها بأنَها نِتاج شفرات عدة ، وقوانين وألعاب لغوية ، وأنظمة إشارية تكون وحدها القادرة على إعطاء التأويل المراد من زاوية سياسية مُعلقنة ، تكتسي نظرة مضادة للمعنى المتوارث عبر حقب التاريخ ، بوصفه ميدانا يتم فيه تفعيل خطابات مؤدلجة ، ويستخدم فكر ما بعد الحداثة تأويلا تفكيكيا لإعادة هيكلة تلك المعاني بما يناسب المرحلة الراهنة ، وبما يناسب التطلع إلى التخلص من ضرورات المشروعية ، وضرورات الحقيقة(20).
وانطلاقا مما ذكر يمكن أن تتحدد حقيقة ما بعد الحداثة في " الاحتمالات اللامتناهية لقراءة الأعمال قراءة مختلفة أو منحرفة ، وشنِ حرب عصابات من الرموز والعلامات على الأعمال الفنية التي ظنت الحداثة إنَها .. في حصنٍ منيع منها "(21).
وقد عدَ البعض أنَ ما بعد الحداثة تشمل : ما بعد البنيوية ، والتفكيكية ، والفلسفــة ما بعد التحليلية ، والبراجماتية الجديدة (Neo- pragmatism) ، ووُصفت هذه المصطلحات بأنَها مقاربات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات ، في حين رأى (كالينكوس) أنَ عناصر ظهور ما بعد الحداثة هي ثلاثة : (الردة على الحداثة ، وظهور ما بعد البنيوية ، وبروز نظرية المجتمع ما بعد الصناعي)(22).
ومن الموضوعية ذكر أنَ هذه الأسطر لا تستطيع استيعاب التداخل الكبير الحاصل بين ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ، لشدته وتوسعه وتشظيه ، لكن البحث هنا سعى بشكل هادئ ، إلى الإلمام بأهم الآراء ، والمقاربات التي ذُكرت في هذا السياق، وتبقــى قضية الـ(ما بعد:post)(23) سنداً نقدياً زعزع الروتين النقدي والمعرفي والفلسفي ، وقدَم دعوات لاعادة النظر بمجمل التغيرات الطارئة في المواقف المعلنة القاضية بالإيمان بضرورة إيجاد البدائل(24).
إنَ مناقشات الـ(ما بعد) تسعى ـ بلا شك ـ إلى تطوير عجلة الفكر العالمي ، وتشير تلك المناقشات إلى ثقافة جديدة تُطرح بوصفها بديلاً للفكر الهرِم ، ولهذا جاءت ثقافة الـ(ما بعد) ثقافةً مستقبليةً متوجهةً نحو الإصرار على تفعيل العمليات الاقتصادية ، والاستهلاكية ، والتفاوض على كل شئ لأجل إعلاء المصلحة الذاتية، ويبقى السؤال قائماً هل مازلنا نعيش في عصر الـ(ما بعد)؟.
إنَ ثقافة الـ(ما بعد) متجددة دائماً ، لأنَها تسعى إلى نزع العصور السابقة ، وإبدالها بالموضة المتفاعلة مع تطلع الحلم الطفولي للطرح النقدي ، والمتمثل بإنشاء سيناريوهات تضمن تقديم السلطة النقدية على أنَها فردوسٌ من يمكن اللجوء إليه ، والاطمئنان بجواره .
ولذلك فإنَ البحث يتجه إلى تفعيل النظر في ممارسات الـ(ما بعد) لأنَ هذا سيقود حتما إلى كشف ميادين معرفية وعلمية متنوعة ومختلفة في الوقت نفسه ، فالحديث الآن يأخذ مســار (ما بعد البنيوية ، ما بعد الحداثة ، ما بعد الإستعمارية) وغداً يمكن الحديث عن : (ما بعد الحرب الكونية ، ما بعد الماركسية الجديدة ، ما بعد الأداة والثقافة ، ما بعد العولمة ، ما بعد الإرهاب ، ما بعد سياسة القطب الواحد والأحادية ، …) ، افتراضات كثيرة قد لا ترتقي إلى نهاية قريبة، ومع هذا فإنَ البحث لا يطمئن كثيراً لولادات لا تخضع لمدة حملها الفيزيقي ، لأنَ التسارع قد يُوقع أحيانا في الفوضى ، وهذه الأخيرة قد تقود إلى العدمية ، ومن ثم إلى خسارة الغاية ، لكن من جمح بهم الحلم الميتافيزيقي يتطلعون دائماً إلى سباق الزمن ، والتطلع إلى مرحلة ما بعد النزعة الإنسانية (post-humanism) ، وما وراء الذكورة العنصرية ، وما بعد النزعة البطولية التي وصلوا معها إلى حد الإشباع(25).
الهوامش :
(1) ينظر: أسباب عملية. إعادة النظر بالفلسفة، بورديو، ت: دار الأزمنة الحديثة، دار الأزمنة، بيروت، 1998 : 135– 155.
(2) ينظر : المصدر نفسه : 222 – 281.
(3) الحديث . الحداثة . ما بعد الحداثة . صبحي حديدي ، مجلة الكرمل ، العدد 1 لسنة 1997 : 59.
(4) نحو مفهوم لما بعد الحداثة ، إيهاب حسن ، ت : صبحي حديدي ، مجلة الكرمل ، العدد 51 لسـنة 1997 : 15.
(5) ينظر: الحداثة، ت: محمد سبيلا، في كتاب: قضايا وشهادات(الحداثة: الوطني، الاختلاف، حداثة الأخر)، مجموعة باحثين، مؤسسة عيبال ـ قبرص، 1991: 388 - 390.
(6) نظرية لا نقدية. ما بعد الحداثة. المثقفون وحرب الخليج، ت: عابد إسماعيل، دار الكنوز الأدبية، ط1، بيروت، 1999: 145. وينظر: ما بعد الحداثة في عالم بلا حداثة، فيصل دراج، مجلة الكرمل، العدد 51 لسنة 1997 : 89.
(7) البحث عن ما بعد الحداثة، احمد أبو زيد، مجلة العربي، العدد 506 لسنة 2001 :21.
(8) المصدر نفسه: 17.
(9) ينظر: ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي، ت: فاضل جتكر، في كتاب: قضايا وشهادات: 370 – 372.
(10) سياسيات النظرية، ت: فخري صالح، مجلة الكرمل، العدد 51 لسنة 1997: 39. وينظر: الرهانات السياسية لما بعد الحداثة، محمد عبد الرحمن، مجلة البحرين الثقافية، العدد 22 لسـنة 1999: 106.
(11) See: The political Unconscious: Narrtive as asocially symbolic act, Fredric Jameson, Cambridge University press , Cambridge , U.K , 1981: 20 – 22 .
(12) منظورات علم السياسة في مرحلة ما بعد الحداثة، ايريك وينكر، ت: محمد الميساوي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 4 لسنة 1996: 145.
(13) الحقل الأول والثاني من المخطط من وضع إيهاب حسن في كتاب: Postmodernist Culture: (111)، والحقل الثالث (ما بعد البنيوية) من اجتهاد الباحث.
(14-16) ينظر: دليل الناقد الأدبي: 139– 143.
(17) علم اجتماع الأزمة ، أحمد حجازي : 204 .
(18) ينظر: المجتمع الاستهلاكي: دراسة في أساطير النظام الاستهلاكي وتراكيبه، جان بورديـار، ت : خليل أحمد خليل ، دار الفكر، ط1، بيروت، 1995: 14– 16.
(19) الحداثة وما بعد الحداثة ، بروكر : 34.
(20) ينظر : نظرية لا نقدية : 16 – 17 .
(21)ما بعد الحداثة، روبرت راي، في كتاب: موسوعة الأدب والنقد، الجزء الأول: الأدب والنقد والتاريخ الأدبي، مجموعة كُتّـاب، ت: عبد الحميد شيحة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافـة، القاهرة، 1999: 290.
(22) مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة: حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، ت: محمد الشيخ وياسر الطائي، دار الطليعة، ط1، بيروت، 1996: 16.
(23) See: In the post , Brian Baker : ( Internet ) .
(24) See:Working with Structuralism : Essays and Reviews on Nineteenth and twentieth century Literature , David Lodge , Routledge & Kegan Paul , Boston , London , 1981: 3 – 16.
(25) الحداثة وما بعد الحداثة ، بروكر : 29.