الفرقــان الحـــق فضيحة العصر-قرآن أمريكى ملفق

الفرقــان الحـــق

 فضيحة العصر  -  قرآن أمريكى ملفق

 د.إبراهيم عوض

[email protected]

كلمة سريعة

    فى الصفحات التالية دراسة وتفنيد لما يسمَّى بـ " الفرقان  الحق " ، وهو عبارة عن مجموعة من السُّوَر تتجاوز الخمسين   لفَّقَتْها ، فى الفترة الأخيرة على غرار القرآن الكريم ، بعضُ الجهات التبشيرية المتعاونة مع الصهيونية العالمية بتخطيط أمريكى بغية أن تحلّ مع الأيام فى نفوس المسلمين محل القرآن المجيد. وفى هذه السُّوَر هجومٌ  كله إقذاع وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين ، واتهامٌ بذىء بالكفر والضلال والنفاق لـه عليه الصلاة والسلام ، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ … ، وادِّعاءٌ بأن كتاب الله إنما هو وحىُ شيطانٍ إلى شيطان ، وتمجيدٌ للتثليث النصرانى ومداعبةٌ من طَرْفٍ خفى  لليهود …

    وقد نبَّه عدد من الصحف العربية مؤخرا لهذا الكتاب ، وقدَّم بعضُها عرضًا سريعا لـه أبرز فيه الغايات التى يهدف ملفقوه إليها. لكن ْ لم يصل إلى علمى أن أحدًا قد حاول أن يدرس دراسةً تحليليةً هذه السُّوَر التى يقدمها ملفقوها إلى القراء بوصفها وحيا إلهيا ، وهذا ما حَفَزنى للقيام بهذه المهمة تبصرةً للأمة بالأخطار التى تتهدد عقيدتها كى تكون على حذرٍ مما يُخَطَّط لها وتأهُّبٍ يقظٍ لما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من مصائب ومؤامرات .

    وقد استبان لى بعد الدراسة التى قمت بها لتلك النصوص أن أصحابها لم يكونوا بالذكاء الذى تتطلبه مثل هذه المؤامرة ، إذ إن الثقوب فيها كثيرة وشنيعة . وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن  الأعداء ، رغم تفوقهم العلمى والاقتصادى والعسكرى ، ليسوا معصومين بل كثيرا ما يقعون فى الأخطاء المضحكة ، وأننا نستطيع أن نضع أيدينا على جوانب ضعفهم وأن نستفيد منها ونحوِّلها إلى نقاط قوة لنا لو صحَّتْ منّا العزيمة وتسلَّحنا بالإخلاص والدأب والصبر والإيمان بالله والثقة بأنفسنا والغيرة على حاضر أمتنا ومستقبلها… كما يؤكد أيضا أن دين الله لا يمكن أن يغلبه غالب مهما تآمر المتآمرون ومهما خطّطوا  ومهما رصدوا الإمكانات والجهود . بيد أن هذا لا يعنى أن نغطّ فى نوم عميق ونَنْكِل عن أداء الواجب المَنُوط بنا ، وإلا وَكَلَنا الله للذلة والمهانة واستبدل بنا قومًا غيرنا للتشرف بحفظ دينه والعمل بما فيه من خيرٍ كفيلٍ بإبلاغ من يحرص عليه إلى قمم الذُّرَى العوالى فى القوة والتحضر !

  فضيحة العصر

 قرأت فى بعض الصحف العربية بأُخَرة عن ظهور كتاب بعنوان " الفرقان الحق " يهاجم القرآنَ هجوما شرسا، ويسبّ الرسولَ عليه السلام وأتباعَه أجمعين ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، مع أن رقبةَ أىّ عِلْج من هؤلاء الذين لفقوا الكتاب لا تساوى قُلامةَ ظُفْر مما يطيِّره المقص من أظافر أرجلهم . وجاء فى بعض ما قرأناه من مقالات عن هذا الموضوع أن جهات تبشيرية وصهيونية محترقة تشرف عليها بعض الدوائر الأمريكية وراء هذا العمل  الذى يجسد التعاون الوثيق بين هاتين  الجهتين الحاقدتين على سيد الأنبياء عليه السلام والتوحيد النقى الذى جاء به فقَشَع العقائد الوثنية للهمجيين  المغرمين بدماء البشر وتقريبها لأربابهم المتوحشين ، وكذلك العُنْجُهيّات القبلية اليهودية التى سوَّلَتْ لبنى إسرائيل ولا تزال أن الله ليس إلا ربًّا خاصًّا بهم دون سائر البشر . وكدَيْدَنِى فى مثل هذه الأحوال أخذتُ أسأل هنا وههنا عن السبيل إلى الحصول على نسخة من ذلك الكتاب كى أفهم الموضوع من مصدره الأصلى ، حتى ألهمنى الله أن أبحث عنه فى المِشــْباك ( النِّتْ ) حيث وجــدتــه فى موقــع تابــع  لمركــــز تبشيرى اســمه :   " American Center of  Divine  Love ".

قلت لنفسى : أقرأ  كى ألم  بالموضوع قبل أن أكتب عنه حسبما اقترح علىّ بعض من يُولُوننى ظنهم الحَسَن  ممن يعرفون اهتماماتى  بدراسة مثل هذه الكتب والنشرات ، وقرأت فألفيت أصحاب الموقع  يعرضونه على أنه وحى سماوى . أُوحِىَ إلى من ؟ لا أحد يعرف ! متى أُوحِى ؟ لا أحد يعرف ! فى أية ظروف أُوحِى ؟ لا أحد يعرف !  كما وجدته يفيض بالبذاءات فى حق رسولنا الطاهر النبيل الذى لم تنجب الأرض نظيره فى العبقرية والحنان والرحمة والفهم للطبيعة البشرية والحنو على ضعفها والرقة للمستضعفين والمكسورين والمحتاجين والتحمس لبناء حياة إنسانية مجيدة يسودها العمل والإنتاج والابتكار والعدل والمساواة دون تشنجات صبيانية عاجزة أو تهويمات خيالية فارغة  أو أحقاد مريضة أو ادعاءات فارغة . باختصار : حياة إنسانية تنهض على دعامتين من المثالية والواقعية على نحو لم تعرف البشرية ولن تعرف لـه مثيلا ! فمحمد صلى الله عليه سلم ، فى هذا الوحى الشيطانى البذىء ، كافر ومنافق وضال مُضِلّ يفتري الكذب على الله وسارقٌ قاتلٌ زان ٍ، ومصيره جهنم هو ومن آمن به ، وبئس المصير ! وأتباعه كَفَرَةٌ منافقون ضالون لصوصٌ قَتَلَةٌ مثله ، وصلاتهم وصيامهم نفاق ما بعده نفاق ، وحجهم وثنية ، وجنتهم جنة الزنى والخنا والفجور ، والوحى القرآنى ليس وحيا إلهيا ، بل هو وحى تنزّلت به الشياطين الكاذبون على شيطان كاذب مثلهم ! ولم يكد الذين وضعوا هذا الكتاب السفيه ونسبوه تدليسا وافتراء إلى الله يتركون شيئا فى الإسلام إلا خصصوا للهجوم الحاقد البذىء السفيه عليه سورة أو أكثر أرادوا أن يحاكوا بها السور القرآنية ، وهيهات ،  رغم أن كل شىء فى ذلك  الكتاب تقريبا مسروق من القرآن الكريم بطريقة القص واللزق كما سنوضح لاحقا ، فضلا عن أن مصطلح    " السورة " نفسه مسروق من كتابنا المجيد . والانطباع الذى يخرج به على الفور من يقرأ هذا الكتاب هو أن ملفِّقيه مجرمون عُتَاة فى السفالة وقلة الأدب وأنهم تربية شوارع ، ولا يمكن أن يكون كلامهم هذا وحيا إلهيا بحال لأن الألوهية لا يمكن أن تنحدر إلى لغة الصِّيَاعة التى لا يحسنها إلا أرباب السجون المارقون  وعصابات الحوارى والمآبين .

وقبل أن نمضى أبعد من ذلك يحسن أن نعرض على القارئ عينة من هذا الوحى المراحيضى  كى يستطيع أن يتابعنا فيما يلى عن    بينة . تقول مثلا السطور التى سمَّوْها " سورة الأنبياء " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولا لَغْوًا ما كان شعرا ولا نثرا ولا قولا سديدا ( المقصود بذلك هو القرآن ) * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدا * يرغِّب التابعين ترغيبا ويهدد المعرضين تهديدا * حَسُنَ وقعا فى نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فى دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدا * وحذرنا عبادنا المؤمنين من الرسل الأفاكين ( يقصدون سيد الرسل  والنبيين ) فمن ثمارهم   يُعْرَفون . فهل يُجْنَى من الشوكِ العنبُ أو من الَحسَكِ التين * أقوال يرتعد منها عبادنا المؤمنون هَلَعًا من التقتيل ونفورًا من الغزو وأَنَفًا من جنة الزنى والفجور * فإذا سمعوها اقشعرت أبدانهم فَرَقًا واستعاذوا بنا من الشيطان الرجيم * وما دَخَلَ الجنةَ من كرر الصلاة لغوا وأما الذين عملوا بمشيئتنا فأولئك هم عباده المفلحون لهم مقام فى الملكوت ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * إن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما السلام كالقتال وليس من يَلْقَى أخاه المؤمن بغصن الزيتون كمن يُشْرِع عليه سيفا فيقتله ذلك أنه من الكافرين * ونسختم بلَغْوكم قول التوراة والإنجيل الحق فألبستم الحق باطلا وافتريتم أقوالا ما أنزلنا بها من سلطان * وانتحل الوسواس الخناس اسمنا ووسوس فى صدور أوليائه بما ألقى فى رُوعهم من بهت وكفر وهم مصدّقوه فكان بعضهم لبعض ظهيرا * وأَمَرَهم بالمعروف مكرًا منه ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبَغْى قَوْلا إفكًا وحلله لهم تحليلا فكان فعلا مفعولا * وأغوى الجاهلين من عبادنا فاتَّبَعوه وأَبَى الجاهلون إلا ضلالا وكُفُورا * وقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه إذ اتبعوه وأما المؤمنون من عبادنا فما كان له عليهم من سلطان فما أغواهم ولا بدَّد لهم شملا فهم بما أنزلنا موقنون وبحبلنا معتصمون * وما بشرنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا لـه نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون * ولو بشرناهم لما كذّبوا وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. فأَنَّى نبشِّر بنى إسرائيل برسول ليس منهم وما لسانه بلسانهم وعندهم موسى والأنبياء والمرسلون وقفَّينا على آثارهم بكلمتنا بالحق المبين * وحذّرْنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبيَّنوه من ثمار أفعاله وأقواله وكشفوا إفكه وسحره المبين فهو شيطان رجيم لقوم كافرين " .

 هذا هو الكلام الذى  تفتقت عنه أذهان  بل أستاه هؤلاء  المآبين ، وزعموا كفرا أنه وحى من لدن رب العالمين ! على أن لى كلمة  فى هذا المقام لا أحب أن تفوتنى ، ألا وهى أن بعض المنتسبين إلى الإسلام  يتساءلون فى براءة زائفة : لماذا يصف المسلمون غير المسلمين بأنهم كافرون ؟ ألا يُعَدّ ذلك نفيــا للآخر وعـدوانـا عليـه وإهانــة لـه ؟ شـُفْ يـا أخى الرقـة والبـراءة ورهافة الشعور التى لا تظهر إلا حين يحاول المسلمون أن يدافعوا بعض دفاع  عن دينهم ضد بعض ما يوجَّه لهم ولكتابهم ورسولهم من سباب وشتائم ! وواقع الأمر أن ذلك ليس  نفيا للآخر ولا عدوانا عليه ولا إهانة له بحال من الأحوال ، فكل أهل دين يعتقدون أنهم على حق ، وبطبيعة الحال فمن لا يؤمن بدينهم يسمَّى عندهم كافرا دون أن يكون فى هذا افتئات على أحد. ذلك أن هذه هى مصطلحات أصحاب الأديان : مؤمن وكافر ومنافق ... إلخ ، بالضبط مثلما كان الشيوعيون يقولون : تقدمى ورجعى ، وطليعى شريف ورأسمالى متعفن ، ومثلما يقول الحداثيون  الآن : التنويرية والظلامية ، والفكر المتحضر والفكر المتخلف ... وهَلُمَّ جَرًّا . وهاهم أولاء مزيِّفو هذه السُّخَامات والسَّخَافات يقولون عن نبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات : أفاك وضال وكافر وكذاب وغير ذلك من الشتائم التى وردت فى النص الذى بين أيدينا وفى غيره من النصوص المشابهة الأخرى ، وما خفى مما لا يجرؤون على ترديده على الملإ ويصلنا رغم ذلك بعضُه لهو أشنع وأبشع ! فيا أيها المؤمنون لا يوسوسنّ لكم الشياطين المنتشرون كالوباء بين أظهركم ممن يحملون أسماء مثل أسمائكم ، ولهم سِحَنٌ  كسِحَنكم ، ومكتوبٌ فى هويّاتهم الرسمية أنهم مسلمون مثلكم ، بأضاليلهم التى يجهدون بها أن يَحْرِفوكم عن دينكم ويخوفوكم من التمسك بهَدْى نبيكم بشبهة أنه لا ينبغى فى هذا العصر التنويرى الذى يأخذ على عاتقه الدعوة إلى احترام حقوق الآخر أن نسمى هذا الآخر كافرا! ذلك أنهم يسموننا كفرة ، ولن يَرْعَوُوا عن هذا أبدا حتى لو مزّق الله قلوبهم تمزيقا وبدّلهم قلوبا غيرها. إننا لا نحجر على أحد أن يعتقد فينا ما  يشاء ، فهذا حقه ، وليس من حقنا ولا من حق غيرنا أن نتدخل فيما بين المرء وضميره أو نعتدى عليه أو نُكْرِهه على ما لا يحب من عقيدة أو رأى ، لكننا أيضا لا نريد من أحد أن يحجر علينا فى الرد على التهم والشتائم التى توجَّه إلى رسولنا العظيم وأن نبين وجه الوقاحة والبذاءة والبطلان والزيف فيها . ترى هل فى هذا الكلام صعوبة تَعْسُر على الفهم ؟ هم أحرار، ونحن أحرار ، وللناس آذان تسمع ، وأذهان  تفكر ، وعقول تميّز وتحكم ، ولهم وحدهم الحق فى اتباع هذا أو ذاك مما نقوله نحن أو يقوله  الآخرون .

وقبل أن ندخل فى تحليل هذا الوحى الشيطانى ونبين ما يقوم عليه ويغَصّ به من تفاهة وقلة عقل وتناقض وتكذيب للكتاب المقدس نفسه الذى زيَّف الشياطين هذا الوحى لتعضيده وإقناع المسلمين بصحته وبطلان الكتاب الذى نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، والذى  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دهر الداهرين ، قبل هذا نرى أنه لا بد من إعطاء القراء الكرام فكرة عن ذلك الوحى المسمى زورا وزيفا بـ " الفرقان الحق " ، وما هو فى الواقع  سوى " الضلال المبين " بقَضِّه وقَضِيضه ! إن هذا " الضلال المبين " ( وسيكون هذا هو اسمه هنا من الآن فصاعدا ) يشتمل ، حسبما هو موجود فى الموقع المشار إليه آنفا ، على نحو خمسة وأربعين نصًّا يُطْلَق على الواحد منها " سُورَة " تقليدا مفضوحا للقرآن ، وكل من هذه السُّوَر يتكون من عدد من الآيات يتفاوت ما بين عدد أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين والقدمين لا يزيد عن ذلك . إلا أننى قد لاحظت أن ترقيم هذه السُّوَر غير متسلسل دائما حتى إن أول سورة ، وهى " سورة   المحبة " ، قد أخذت الرقم ( 2 ) ، كما أن ترقيم السورة الأخيرة ، واسمها " سورة البهتان " ، هو ( 59 ) ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة فى بعض الأحيان بين السورة والتى تليها ، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن هناك سُوَرًا ناقصة ؟ لكن لماذا ؟ وما هى هذه السُّوَر ؟ وأين ذهبت ؟  لا أدرى . كذلك يلاحظ أن أسماء طائفة من سور " الضلال المبين " قد أُخِذَتْ من أسماء سور القرآن  الكريم ، مثل " النور والنساء والمنافقين والطلاق " . أى أن من افْترَوْا هذا " الضلال المبين " لم يَسْطُوا فقط على نصوص آيات القرآن ليصنعوا منها هذا الترقيع الرقيع بل سَطَوْا على أسماء بعض سوره الكريمة ، وإن كانوا قد نقلوها من محلها الطاهر الشريف إلى ذلك الكنيف ! أما الأسماء الأخرى التى لم يأخذوها من أسماء سور القرآن الكريم  فمنها " الأساطير والغرانيق والجنة والمحرّضين والكبائر والرُّعاة والشهادة والإنجيل "، وإن كانت كلها رغم ذلك فى الهجوم على  القرآن : فـفى " سورة الأساطير " مثلا  يزعمون أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين كما كان وثنيو العرب يقولون قبل أن يكذّبوا أنفسهم بأنفسهم ويؤمنوا به ، وفى " سورة الغرانيق " يدّعون أنه كان فى  القرآن آيتان تمجدان الغرانيق ، أى اللات والعُزَّى ومَنَاة ، ثم حُذِفتا فيما بعد. أما "سورة الرعاة " فهى هجاء للصحابة والعرب الأوائل الذين حملوا الإسلام إلى العالمين والذين يحاول أولئك اللصوص السُّطَاة أن ينالوا منهم بالقول بأنهم لم يكونوا متحضرين ولا أغنياء بل كانوا مجرد رعاة ، وكأن  التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول المسيح كانوا من أصحاب القصور ومن خريجى  الجامعات ، ولم يكونوا من صيادى السمك والعُرْج والبُرْص والعُمْى والمخلَّعين والممسوسين والعشّارين والخطاة على حسب ما جاء فى الأناجيل نفسها ! إننا بطبيعة الحال لا نبغى أن ننال من الفقراء والمساكين والمسحوقين ، فنحن لسنا من أغنياء القوم ولا من السادة ، لكننا أردنا فقط أن ننبه هؤلاء المأفونين إلى مدى السخف والسفالة التى  ينساقون إليها فى العدوان على ديننا ورسولنا وصحابته الكرام . وبالمناسبة فلم يكن الصحابة جميعا من الرعاة ، بل كان فيهم التجار والزراع والصناع والعلماء والقادة العسكريون ، وكان منهم الأفراد العاديون والرؤساء ، وكان منهم العرب وغير العرب ، كما كان فيهم كثير ممن كانوا هودا أو نصارى ثم أسلموا... وهكذا يستمر هؤلاء الأفاكون المجرمون إلى آخر السُّوَر الشيطانية المفتراة كذبًا على الله .

وأول ما ينبغى التصدى لـه فى هذا الوحى الإبليسىّ هو المشاكل الغبية غباء مزيِّفيه التى لا يمكن العثور على مخرج من أىٍّ منها ، بل كلما حاول مخترعوه التخلص من بعض ما جرَّتْهم إليه وجدوا أنفسهم يزدادون تورطا ، شأن البقرة الغبية التى تحاول الانعتاق من الحبل الملتف حول رقبتها ، لكنها بدلا من ذلك تدور فى الاتجاه المعاكس فتجده قد ازداد التفافا حتى خنقها وأودى بحياتها. فكيف كان  ذلك ؟ المعروف أولا أن النصارى لا يؤمنون بنبىٍّ بعد المسيح لأنهم يَرَوْن أنه قد أنهى فصول المأساة البشرية بموته على الصليب وتكفيره من ثَمَّ عن الخطيئة البشرية الأولى ، وأنه لم يعد هناك مجال لأى شىء إلا لمجيئه فى آخر الزمان ، هذا المجىء الذى سيكون بداية لألفيَّةٍ سعيدةٍ يعيش فيها الناس فى هناءة وسلام ، فلا خصومات ولا عداوات حتى ولا بين الحيوانات العجماوات ، حتى إن الذئب والحمل ، كما يقال ، سوف تقوم بينهما صداقة ومودة فيلعبان معا ويأكلان معا فى غاية الانسجام والتفاهم ! أما اليهود فهم أصلا فى انتظار المسيح الأول لا يزالون لأنهم لا يؤمنون بأن عيسى بن مريم هو المسيح الذى أتى ذكره فى كتبهم . وهذا الكتاب الذى نحن بصدده ليس هو الكتاب الذى ينتظره اليهود مع مسيحهم المنتظر ، فهم يريدون مسيحا من بيت داود يعيد إليهم مجدهم ويبنى لهم مملكتهم ، أما كتاب " الضلال المبين " فـلا يؤدى إلى هـذه الغـايـة  على الإطلاق ولا نعرف لـه صاحبا ، فهو  كطفل السِّفَاح الذى لا تجرؤ أمه العاهرة أن تُقِرّ به وتنسبه إلى نفسها . كذلك لا يخفى على القارئ أن غرض كل من الفريقين اللذين اشتركا فى تزييف هذا " البهتان الباطل " يتناقض مع غرض الفريق الآخر . وهكذا يأبى الله العلىّ العظيم إلا أن يوقعهم فى شر أعمالهم . وهذه أولى بركات محمد ودين محمد! وعلى كل حال فها هم أولاء المؤلفون الأغبياء يكذّبون أنفسهم بأنفسهم إذ يعلنون بملء أفواههم فى القىء المنتن الذى وَسَمُوه بـ " سورة الأنبياء " ( ومن أفواههم النجسة ندينهم ) قائلين على لسان رب العزة إننا "ما بشَّرْنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق من بعدى وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا لـه نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون " . إذن فليس هناك نبى يمكن أن يجىء بعد عيسى عندهم ، وإلا للزمهم أن يؤمنوا بمحمد ، الذى زعموا أنه لم تأت به أية بشارة لا فى التوراة ولا فى الإنجيل . ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة " الفرقان" نفسها مسروقة من  القرآن ، لأن كتابهم المقدس بعهديه العتيق والجديد لم ترد فيه هذه الكلمة ، وإلا لذكرها " فهرس الموضوعات الكتابية " . فكيف إذن يزعمون أن الله قد أنزل هذا الوحى مع أنه لم يأت به  نبى ، إذ الوحى لا ينزل هكذا من السماء على غير أحد ، اللهم إلا على سُنّة أنبياء آخر زمن من صنف أولئك الأساقفة الذين شرعت أمريكا أم التقاليع والغرائب ترسِّمهم من اللُّوطِيِّين !

لكن ما هى سُنّة أنبياء آخر زمن هؤلاء ؟ هى سنّة المومس التى تحمل سفاحا ( والمومس لا تحمل  بالطبع  إلا سفاحا ) ، ولا تريد أن يطّلع الناس على ورطتها وخــزيها ، فعندما يَئِين الأوان ويحلّ موعد الوضع تراها تلف الطفـــل المسكين الذى لا ذنب لـه فيما اقترفته يدهــا الأثيمة فى خـرقة وتأتى به فى ظلام الليل الدامس  إلى باب معبد من المعابد فتتركه هناك  أو تلقيه قرب أحد صناديق القمامة ، ثم تنصرف وترقب الموقف من بعيد دون أن يعرف أحد أنها هى صاحبة هذا  العار ! إنه شُغْل مومسات كما أقول فى بعض كتبى التى أرد فيها على أمثال هؤلاء النُّغُول ! إن الأنبياء كانوا دائما ما يأتون فى ضحوة النهار ولا يستترون هكذا فى ألفاف الظلمات المتراكبة المتكاثفة المريبة شأن محترفى اللصوص والقتلة الذين يَلْبِدُون للفريسة المسكينة فى حقل من حقول القصب أو الذرة  حتى يأخذوها غيلة وغدرا ، ثم بعد أن يرتكبوا جريمتهم الوحشية الخسيسة يعودون لبيوتهم فيمارسون حياتهم لا تُثْقِل ضمائرَهم أيّةٌ من خوالج الندم ، إذ قد ماتت قلوبهم وسَوّسَتْ ضمائرهم. ثم إن الوحى الذى ينزل على الأنبياء لا ينزل دفعة واحدة هكذا بل يتتابع مصاحبا للحوادث والمناسبات التى تجدّ ، مما يجعله تجسيدا للتجارب التى خاضها النبى مع قومه ، أما هذا " الضلال " فقد صيغ مرة واحدة ثم لُفَّ فى خرقة قذرة نجسة وأُلْقِىَ به عند صندوق قمامة فى سكون الليل البهيم مع انقطاع رِجْل السابلة .

ثم إن ذلك الرِّجْس مخالف فى الواقع لطريقة أهل الكتاب فى تسمية كثير من أسفارهم باسم الأنبياء الذين تُعْزَى إليهم : فهذا سِفْر يشوع ، وهذا نشيد الأناشيد لسليمان ، وهذه نبوة أَشَعْيا ، وهذا إنجيل متى ، وهذه رسالة القديس يعقوب ، وهذه رؤيا القديس يوحنا... وهكذا. وعلى ذلك فإننا نتساءل : أين النبى الذى أتى بهذا  الضلال ؟ ما اسمه يا ترى ؟ من أى بلد جاء؟ إلى أى أسرة ينتمى ؟ ما  صنعته ؟ ما  سيرته ؟ ما أوصافه ؟ ما أخلاقه ؟ ما رأى الناس فيه ؟ ما الذى دار بينه وبين قومه من أخذ ورد ؟ ماذا كانت استجابتهم لما أتاهم به أولا ثم آخرا ؟ ... ترى أية نبوة هذه يا إلهى ؟ إن القوم لا يحسنون  التدليس ، وهم برغم ذلك يتصدَّوْن لحرب القرآن ظانّين أنهم قادرون على محوه من النفوس والصحائف على السواء ! يا لهم من مجانين مسعورين ! وللتفكُّه أذكر أن بعض إخواننا الساخرين أجاب على سؤالى الخاص بشخصية هذا النبى المزعوم  قائلا : أتريد أن تعرف مَنْ ذلك النبى ؟ قلت : نعم . قال : ولم  لا يكون هو الابن الثانى لله ؟ قلت : لقد قالوا إنه ليس لـه إلا ابن وحيد مات على الصليب . قال : هذا كان من ألفى سنة . أتظن ذلك الإله لم تشتقْ نفسه للذرية مرة ثانية طوال هذه المدة فأراد أن ينجب ابنا آخر ؟ أم تراه ، حتى لو كان قد حدَّد النسل ، واتخذ الاحتياطات اللازمة لعدم الإنجاب ، لم يحدث أن اخترق طفل جديد هذا الحظر وأفسد تلك الاحتياطات كما يحدث لكثير منا فى مثل هذه   الظروف ؟ قلت : وهل يصح أن تقيس الآلهة على أوضاع البشر ؟ قال : لست أنا الذى قاسهم ، بل إلههم هو الذى فعل ذلك . أليس هو الذى أنجب مثلما ننجب ؟ فما الذى يمنع أن يكون لـه ولد ثان وثالث ورابع ... إلى ماشاء الله ؟  إلى جانب بعض البنات أيضا إرضاءً للسِّتّ التى لا بد أن تتطلع إلى أن يكون لها بنت أو أكثر كى يساعدنها فى أعمال المنزل ... ومضى الصديق الساخر كلما حاولت أن أغلق عليه السبيل فتح بدل الباب أبوابا، حتى وجدت أنه لا بد من غلق هذا الحوار الذى لا يؤذِن بنهاية .

ثم إن أولئك النُّغُول يرددون ما جاء فى كتابنا العزيز من أنه ما من نبى أُرْسِل إلا بلسان قومه ، فما معنى نزول هذا " الضلال المبين " بالعربية ، بل بالعربية المسجوعة ؟ معناه أنه نزل للعرب ، لأنهم هم الذين يتكلمون العربية . أليس هذا هو ما تقتضيه العبارة التى قالها النغول  والتى سرقوها بنصها من القرآن المجيد ووضعوها فى هذا الموضع الدنس ؟ بَيْدَ أننا قد سمعناهم يقولون بلسانهم ( الذى ستقطعه زبانية الجحيم يوم القيامة إن شاء الله ثم تشويه أمام أعينهم وتحشره فى حلوقهم طعامًا نجسًا لأفواهٍ نجسة ) إن النبوة لا تكون إلا فى بنى  إسرائيل ، فليس للعرب فيها إذن أى نصيب ( حقدا منهم على إسماعيل وأمه  هاجر ، التى يقولون إنها أَمَة ، وابن الأمَة لا نصيب لـه عندهم  فى البركة  النبوية ). وبطبيعة الحال فالعرب لا يمكن أن يكونوا قوم نبىّ من بنى إسرائيل ، إذ إن بنى إسرائيل هم ذرية يعقوب ، أما العرب فهم ذرية إسماعيل كما هو معروف . وهذا إن غضضنا الطرف عن تأكيدهم أن باب النبوة مغلق إلى ما قبل يوم القيامة حسب اعتقاد النصارى، ، وإلى مجىء مسيح اليهود حسب اعتقاد بنى إسرائيل ، وهو فى الواقع ما لا يمكن غض الطرف عنه  أبدا ، لكنها طبيعة الجدل المفحم التى أتبعها عادة مع هؤلاء المتاعيس حتى أبين للقارئ الكريم كيف أن الأسداد قد ضُرِبَت عليهم أَنَّى اتجهوا وأَنَّى ارتدُّوا . وهذه ثانية بركات محمد ودين محمد !

وثالثة هذه البركات المحمدية أن هؤلاء الأبالسة الأغبياء ( وهذه أول مرة يقابل الواحد فى حياته أبالسة أغبياء!  لكن ما العمل ، وكل من يقصد دين محمد بِشَرٍّ فإنه لا يُفْلِح أبدا حتى لو كان أبا الأبالسة جميعا ؟ ) ، هؤلاء الأغبياء يَسْطُون على  آيات القرآن فى مفارقة غريبة غرابةَ أمرِهم كله وشذوذه ، إذ يتهمونه بأنه وسوسة شيطان إلى شيطان . فإذا كان الأمر كما يقولون فكيف لم يجدوا فى الأرض العريضة كلها ( ولا أقول : فى السماء ، لأن مثل هذا الإجرام لا يمكن أن تصله بالسماء أية آصرة ) إلا هذا الوحى المحمدى الذى يزعمون أنه وحى شيطانى كى يتخذوه وحيا لهم ؟ بالله عليكم أيها القراء مَنِ الشيطانُ هنا ؟ إن المؤمن لينفر من الشيطان ومن كل ما لـه صلة بالشيطان ولا يفكر مجرد تفكير فى الاقتراب منه أو المرور من الطريق الذى يمكن أن يلقاه فيه . لكن هؤلاء الأبالسة الأغبياء لم يجدوا إلا الوحى القرآنى ليسرقوه ويدّعوه لأنفسهم زاعمين أنه أُنْزِل عليهم من السماء ، مع أن السماء لا يمكن أن ترضى هذا العمل الخسيس . والغريب أن عملهم هــذا يزعــق بعــلوّ حســّه شاهــدا عليهــم بالسرقــة والسطــو ، ولكن متى كان لدى هؤلاء المجرمين حياء أو خشية من التى يتحلى بها الآدميون حتى ننتظر منهم أن يستحوا أو يختشوا ؟  إنهم من نفس الطينة التى جُبِل منها أمثالهم سارقو فلسطين والعراق وأفغانستان فى عز الظهر الأحمر ، الذين يزعمون مع ذلك أننا نحن الذين نريد أن نقتلهم وندمر حضارتهم ! والمصيبة أنهم بعد ذلك كله يقولون إن هذا " الضلال المبين " هو من عند الله ،  أى أن ربهم لص وكذاب متنفِّج ، وأدنى من الشيطان قدرة على صياغة الكلام  والمعانى ، ولذلك يسطو على ما كان هذا الشيطان قد أوحاه ، حسب زعمهم ، إلى محمد ثم يدّعيه لنفسه . ثم  إنه مُلْقِيه رغم هذا كله فى قعر الجحيم يوم القيامة لقاء ما استعان  به ، وذلك على طريقة الأمريكان ، إذ يظلون يعصرون الحاكم من حكام العالم الثالث حتى يستنزفوه لآخر قطرة فيه ثم ينقلبون عليه آخر الأمر ويجزونه جزاء سِنِمّار ! وهذا دليل آخر على أن مزيفى هذا " الضلال " إنما هم الأمريكان ! إنها نفس الأخلاق المنحطة ، وإن كان الشىء من معدنه  غير مُسْتَغْرَب !

ولكن ما مغزى عمل هؤلاء الشياطين ؟ إنه دليل لا يُنْقَض على أنهم يَرَوْن فى أعماق قلوبهم أن أسلوب القرآن معجز ، وإن أنكروا هذا بألسنتهم النجسة ، ولذلك استعانوا به رغم اتهامهم للقرآن كله بأنه من وسوسة الشيطان ! وهنا أيضا لن أفعل شيئا آخر غير الاقتباس من كلامهم ، إذ نجدهم فى الفقرة الأولى من  " سورة السلام " يدّعون لبهتانهم هذا أنه وحى  معجز . إذن فالقرآن معجز فى رأيهم رغم كل الكذب الذى اقترفوه ضد كتاب الله فى نصوصهم المسروقة كلها تقريبا منه ، وهذا نص ما قالوه : " إنا أنزلناه فرقانًا حقًّا بلسانٍ عربىٍّ بيّن الإعجاز لتتبينوا الضلال من الهدى وتعلموا سوء ما كنتم   تفعلون " . ترى ما رأى القارئ الكريم فى ألاعيب هؤلاء النغول  الخائبة ؟ إن المسلمين يقولون ، حسبما يقرأون فى كتاب ربهم وحسبما أكده العلماء الأثبات منا ومنهم ، إن أهل الكتاب أساتذة فى العبث بالوحى الإلهى الذى نزل على رسلهم وتحريفه عن مواضعه ، لكنهم دائما ما يتهموننا بأننا نردد كلاما غير صحيح . فهل ، بعد أن بيّنّا ما صنعوه فى هذا " الضلال المبين " ، يمكن لأحد أن يتمارى فيما يتهمهم به القرآن والمسلمون ؟ هل يحتاج بعد اليوم أحد إلى برهان آخر على ذلك العبث والتزييف والتدليس والانتحال ؟ والغريب بعد هذا كله أنهم قد زيَّفوا ، فيما زيفوا من سُوَر ٍ، سورةً بعنوان " الأساطير " تقول أول آية منها للمسلمين : " يا أهل التحريف من عبادنا    الضالين " ! لا بل إنهم يتهمون الرسول بأنه قد حرّف الإنجيل نفسه ! إى والله ، الإنجيل نفسه دون أدنى مبالغة ! وهذا ما قالوه فى الفقرة الأولى من "سورة الإيمان " بالحرف الواحد : " وحرَّفْتُم آيات الإنجيل الحق وكتمتم كلمتنا واتبعتم صراطا ذا عِوَج وأوهمتم أتباعكم أنكم على صراط مستقيم " . ولا أدرى بالضبط ما الذى جرى لعقول القوم فأقدموا على هذه الهلاوس التى ليس لها من حل إلا أخذ صاحبها على الفور لمستشفى المجانين خَبْطَ لَزْق ! وصدق المثل القائل : "رمتْنى بدائها وانسلَّتِ" ! الحقّ أن هؤلاء الناس ( هذا إذا تجاوزنا وألحقناهم بالبشر ) لا يعرفون ما يسمَّى فى اللغات  بـ " الحياء " !

على أن سرقتهم لكلمات القرآن وعباراته وتركيباته وصوره وفواصله  لا تجعل مع ذلك  من " بهتانهم "  كلاما معجزا . لماذا ؟ لأنهم يفعلون ما يفعله الخياط الغبى الذى يأتى إلى أفخم الحُلَل والملابس فيقتطع من كل منها مِزْعة ثم يشبك هذه المِزَع بعضها مع بعض . وبطبيعة الحال لن ينتج عن ذلك إلا مرقّعة كمرقّعات الدراويش تبعث على السخرية أو على الرثاء أو عليهما معا! ذلك أن هؤلاء الأوغاد لم ينجحوا قط فى أن يضعوا ما يسرقونه من نصوص  القرآن فى مواضعها وسياقاتها ، بل يضعونها فى إطار يختلف عن إطارها الذى نُقِلَت   منه ، علاوة على أن أولئك اللصوص لا يحسنون عملية لزق النصوص المسطوّ عليها ، إذ كثيرا ما تأتى متنافرة لا انسجام بينها ، فضلا عن أن الفواصل ( أى نهايات الآيات ) ، التى يسرقونها هى أيضا من  القرآن ، لم يتصادف أن جاءت ولو مرة واحدة كما ينبغى أن تأتى الفاصلة الجيدة قارَّةً فى مكانها حاسمةً فى موسيقيتها ومعناها ، بل يشعر القارئ أنهم قد اجتلبوها اجتلابا لا لشىء غير أن يُنْهُوا الآية بسجعة والسلام . كذلك فإنهم إذا أضافوا شيئا من عندهم كما يقع أحيانا لم يجيئوا إلا بكلام ركيك ثقيل الظل وخيم الأنفاس ! والسورة التى أوردتُها فيما مضى من صفحات تشهد على ما أقول . زد على ذلك ما تقوم عليه المسألة كلها من سماجة ليس لها من مثيل ، إذ هم يسطون على القرآن ألفاظا وعبارات وتراكيب وصُوَرا وفواصل وينتحلونه لأنفسهم ثم يستديرون لـه بعد ذلك كله مُزْرِين عليه زاعمين أنه من وسوسة الشيطان ! فالأمر ، كما تَرَوْنَ ، يجرى على أسلوب   " حسنة وأنا سيدك ! " . إنهم أشبه بخادمة لِصَّة دنيئة حقيرة قبيحة سليطة اللسان تسرق من سيدتها بعض ملابسها التى لا تستطيع مع هذا أن ترتديها على ما يقتضيه الذوق الراقى أو حتى الذوق السليم ثم تفتعل مشكلة وتترك العمل عندها ، لتأتى بعد ذلك إلى هذه السيدة نفسها وقد ارتدت ما سرقته منها من ملابس فتختال بها أمام عينيها بُغْية إغاظتها غير واعية بما تثيره فى نفوس الناس المحترمين أهل الذوق الراقى الكريم من تهكم بغبائها وجلافتها ودناءتها فى التصرف واللبس والكلام ، وأنها مهما فعلت واستعرضت وحاولت أن تغيظ سيدتها ليست فى نهاية المطاف غير خادمة لصة حقيرة قبيحة سليطة اللسان ذات ذوقٍ فِجّ متخلف ! ترى هل يفيق هؤلاء اللصوص السفلة إلى مدى الفظاعة التى ارتكسوا فيها حين سرقوا القرآن وانثنَوْا  بعد ذلك للمسلمين يشمخون عليهم بفعلتهم الشيطانية ؟ أما أنا فمن معرفتى بهم وبطبائعهم وأساليبهم الساقطة لا أعلّق عليهم أملا ولا أتوقع منهم   خيرا ، إذ العاقل لا ينتظر من المرحاض أن يُثْمِر تفاحا وخَوْخا أو أن يُزْهِر وردًا وآسًا ورَيْحَانا !

على أن المسألة لم تنته فصولا بعد ، بل ما زال فى جراب الحاوى مفاجآت مضحكة ... مضحكة من الغم لا من السعادة ! تعالَوْا نَرَ مثلا كيف يبدأ اللصوص السارقون معظم سُوَر " ضلالهم المبين ". هل رأيتم أحدا قَطّ يبدأ  كلاما جديدا لـه بواو العطف ؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلاما سابقا وأن الكلام الحالىّ هو امتداد لفظى ومعنوى لـه ، وهو ما لا وجود لـه هنا لأن هذه هى بداية السورة . وهل قبل البداية شىء؟ وعلى رغم وضوح المسألة بل نصاعتها فإن هؤلاء اللصوص لا يراعون هذه البديهية فى عالم النحو والكتابة والأساليب ، فتجدهم يقولون مثلا فى مطلع " سورة الطهر " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ودعانا الشيطان   ( يقصدون الرسول عليه السلام ) بأسماءٍ قُبْحَى غيّبها بأسماء حسنى مكرًا منه ...  إلخ  " ، وفى مطلع  " سورة الرعاة  " نقرأ : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ومَثَلُ الرسول الصالح كمَثَل راع أورد رعيته وِرْدا طهورا ... " ، وفى" سورة المحرِّضين " نطالع :   " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ونَهَيْنا عبادنا عن القتل ووصَّيناهم بالرحمة والمحبة والسلام ... " . وعلى نفس الشاكلة تجرى بدايات سُوَر " الإيمان والحق والطهر والزنى والمائدة والمعجزات والضالين والصيام والماكرين والأمّيِّين والصلاة والملوك  والهدى " وغيرها . ترى علام يدل هذا ؟ إنه يدل على أن الأمريكان والصهاينة رغم كل تقدمهم العلمىّ والتقنىّ والعسكرىّ والسياسىّ والتخطيطىّ لا يستطيعون أن يحبكوا تآمرهم على القرآن الكريم الذى يُضْرَب بهوان أتباعه وتخلفهم فى العصر الحالىّ الأمثالُ والحكمُ  والمواعظ . فعلام يدل هذا مرة أخرى يا ترى ؟ يدل على أنهم فى حربهم للقرآن إنما يحاربون الله ، والله غالب على أمره . ولو كانت حربهم للقرآن حربا لنا نحن العرب والمسلمين لكان القرآن الآن فى خبر " كان " بعد كل تلك الحروب والمعارك الطاحنة التى لم يكفّوا يوما عن شنها عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية وجنّدوا لها أعتى العقول عندهم من مبشرين ومستشرقين وسياسيين وعسكريين وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالك من صنوف العلماء والمتنفذين لديهم . لكن هاهو ذا واحد مثلى لا فى العير ولا فى النفير وليس بين يديه ولا  واحد على الألف مما يتصرف فيه أى مستشرقٍ من الكتب والمراجع والمعاجم والموسوعات والدوريات والمعاونين ، هاهو ذا واحد مثلى منقطع عن بلده ومكتبته الخاصة التى كان من الممكن أن تمده على الأقل بالأساسيات التى يحتاجها  كـ " فهرس الموضوعات الكتابية " أو " دائرة المعارف الكتابية " أو حتى " الكتاب المقدس " نفسه الذى استغرق الأمر منى وقتا طويلا واتصالات متعددة  كى أحصل على نسخة منه  ، أما " فهرس الموضوعات الكتابية " فقد كَلَّفْتُ بموافاتى بما أحتاجه منه بعضَ من أعرف فى أرض الكنانة من خلال نظام الرسائل الفورية بالمِشْباك ، الذى لا أعرف منه أكثر مما يعرف الجاهل بالسباحة عندما يقعد على الشط مكتفيا بغمس قدمه فى الماء ثم يقول إنه قد نزل البحر وعام فيه مع العائمين ! أقول : ها هو ذا واحد مثلى فى هذه الظروف الشحيحة وبهذه الإمكانات الشديدة الضآلة يكرّ على هذا " الضلال " فيُظْهِر عوراته وسوآته بكل بساطة   وسهولة . والسبب ؟ السبب هو أننى حين أفعل ذلك إنما أدافع عن القرآن ، أى عن قضية موفَّقة مباركة يسندنى فيها ويقينى من العِثار ربُّ القرآن الذى ابتهلتُ إليه أن يسهّل مهمتى فاستجاب بكرم منه وفضل ، وهو سبحانه أهل الكرم والبر والتوفيق . أما الأمريكان والصهاينة ومن لَفَّ لفَّهم وحذا حَذْوَهم فنبشّرهم بخذلان من الله  مبين : " إن الذين كفروا يُنْفِقون أَمْوالَهم ليصُدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون . والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرون * ليَمِيز اللهُ الخبيثَ من الطيّب ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيَرْكُمَه جميعا فيجعلَه فى جَهَنَّمَ . أولئك هم الخاسرون " . صدق الله العظيم ! إن الإله الذى لا يعرف كيف يصوغ الكلام ولا يدرى أهو فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره لهو إلهٌ سكرانُ أو قد أصابه الخَرَف ! نعوذ بالله من الخرف وآلهة الخَرَف ! لقد كنا نسمع بإله الحرب وبإله الفنون وبإله الحب مثلا ، لكن هذه أول مرة نعرف أن هناك إلها للخَرَف ! ومن يَعِشْ يَرَ! إن مثل هذا الإله لو كان يعيش بين قبائل أفريقيا المتوحشة قديما لقتلوه لانتهاء عمره الافتراضى ، وربما أكلوا لحمه أيضا رغم أنه لحمٌ عجوز لا ينضج بسرعة وليس لـه حلاوة مذاق اللحم العَجَّالى ، لكن الأمريكان والصهاينة لا يتنبهون لهذا الأمر على وضوحه البالغ فيُبْقُون على هذا الإله المضطرب الذاكرة والعقل الذى يوقعهم فى مآزق محرجة ليس لها من مخرج ! ألم أقل لكم إن من يتصدى للقرآن فإن مصيره إلى البوار ، وبئس القرار ؟

على أن خيبة هذا الإله لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى الوقوع فى الأخطاء اللغوية المزرية! قد يجيبنى بعضهم  : وماذا تريد من إله أمريكانى خواجة من  أصحاب : " مُشْ فِخِمْتُو  يا خبيبى "؟ لكننى أستطيع أن أرد عليهم بأن هذا الإله الخواجة لا بد أنه استعان ببعض العرب فى اختراع هذا الوحى الدنس ، وإلا فهذا دليل آخر على أنه ، رغم كل علمه وقوته وتقدمه ، تفوته أشياء مما تفوت عباد الله اللاأمريكيين  كما حدث فى حكاية البلح الأصفر الذى كان لا يزال على شماريخ النخل فى عز الخريف فى صور القبض على صدام حسين الشهيرة . وأما إن كان قد استعان ببعض العرب ، وهو ما أنا موقن منه  إيقانا ، فمعناه أن بركة القرآن قد آتت أُكُلَها وسطعت (  كما يسطع العبيرُ وضياءُ الشمس جميعا ) نتائجُها الطيبةُ الطاهرةُ فأفشلت هذا التآمر الخسيس ، وانقلب السحر على الساحر الخائب الموكوس ، رغم كل ما معه من خبث وسلاح وفلوس !

وبعد ، فهذه عينة من الأخطاء اللغوية التى سقط فيها سقوطَ الجرادل صاحبُنا الإلهُ الخواجة وأذيالُه من بنى جلدتنا الذين أخجلونا وشمّتوا الدنيا فينا بجهلهم بلغة القرآن المجيد الجديرة بالحب بل بالعشق بل بالوَلَه حتى ممن يكره كتابَها العزيزَ والرسولَ الذى أُنْزِل عليه هذا الكتاب ضياءً وهدًى للعالمين : " وما كان النجسُ والطمثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةُ رِكْسٍ لفظها الشيطان بلسانكم " ( الطهر/ 6 )، وصوابها : "  كومةَ ركس " بفتح التاء لأنها خبر " كان" ) ، و" كى يَشْهَدهم الناسَ " ( الصلاة / 3 ، بفتح سين " الناس " رغم أنها فاعلٌ حقُّه الرفعُ بالضمة ) ، و" ذلكم هم المنافقون " ( نفس السورة والفقرة ، وهى غلطة لا يمكن أن يقع فيها إلا إله أمريكانى من الذين يقولون : " يا خبيبى ! يا خَبّة    إينى " ، أما لو كان رب العالمين هو الذى أنزل هذا الكتاب لقال :   " أولئك / أولئكم هم المنافقون " ، إذ إن الكاف التى فى آخر اسم الإشارة لا علاقة لها بالمشار إليه ، الذى هو هنا " الكافرون " ، بل تتغير حسب طبيعة من نخاطبه : إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، أما الذى يتغير حسب تغير المشار إليه فهو اسم الإشارة نفسه . ومادام " المنافقون " جمعا فينبغى استخدام " أولئك " لهم . ترى أَفَهِم الأوباشُ أم نُعِيد الكلام من البداية ؟ ولا بأس عندنا من الإعادة ، ففى التكرار للحمير إفادة ! ) ، و" خلقناكم ذكرا وأنثى يتحدان زوجًا فردا " ( الزواج / 3 ، وهو كلام ركيك من كلام الخواجات ) ، و" الإنتقام " ( الإخاء / 11 ، بهمزة تحت الألف ، وهو خطأ شنيع صحته " الانتقام " دون التلفّظ  بالهمزة لأنها همزة وصل لا تُنْطَق ) ، و" وصَّيناكم بألا تَدِنُوا " ( الماكرين / 6 ، يقصد " بألا تدينوا " ، وهذا أيضا كلامٌ خواجاتى ) ،  و " سلبتم أقواتِهم " ( الماكرين / 7 ، وهو جهلٌ مُدْقِع  أستغرب كيف يقع فيه شيطان ، والشياطين ، رغم شِرّيرِيّتهم ، لا يخطئون مثل هذه الأخطاء البدائية . لكن يبدو أنه من أولئك الشياطين الفاشلين الذين منهم أحمد الشلبى مورّط أمريكا فى العراق . على كل حال فالصواب هو  فتح تاء " أقواتَهم " لأنها ليست جمع مؤنث سالما  كما يظن الأغبياء بل جمع تكسير ، فلذلك تُنْصَب بالفتحة لا بالكسرة )، و" بإسمنا " ( الماكرين / 15 ، وهى مثل الهمزة فى " الانتقام " لا ينبغى أن تُلْفَظ ) ،  و " زَنُوا " ( الماكرين / 17 ، من  " الزنى " ، وهو خطأ لا يليق صوابه " زَنَوْا " ) ، و "حضيرة " ( مرتين : الرعاة / 13 ، والمحرّضين / 10 ،  والصواب ، كما لا يخفى إلا على جاهل قد طمس الله على عينه وجعل على عقله غشاوة ، هو "حظيرة " ، وهو المكان الذى  ينبغى أن يوضَع فيه أمام مذْوَدٍ مملوءٍ تبنًا وبرسيمًا هؤلاء الطَّغَامُ الذين يحاولون بغبائهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم النَّتِنَة ) ، و " نقول لـه : كن ، فيكونَ " ( النسخ / 10 ، بفتح نون " يكون " من غير أى داع ، والواجب ضمّها لأن الفعل المضارع لم يسبقه ناصب من أى نوع ) ،و" أشرك بنا من يشاركنا وِلائِنا لعبادنـــا " (المشركين / 12 ، بكسر همزة " ولاء " ، وحقها الفتح لأن الكلمة مفعول ثان للفعل" يشاركنا ". وهى ، كما يرى القارئ ، غلطة لا يقع فيهـا إلا جاهــل لــه فى الجهل تاريخ عريق مؤثَّل ) ،   و" مؤمنين منافقين " ( الكبائر /   9 ، ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق ، اللهم إلا إذا جاز لنا أن نقول : فلان قصير طويل ، وطيب شرير ، وذكى غبى ... إلخ ، أو إلا إذا احتُجَّ علينا بأن قائل هذا هو الله ، الذى لا تُرَد لـه مشيئة ، فهو لا يُسْأل عما يفعل . لكن فات ذلك المجادلَ الشَّكِسَ أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات وأنها فوق السخافات والسفسطات . أما إذا قبل إنه إله أمريكى يحق لـه أن يفعل أى شىء دون أدنى حرج ، فإننا نبادر بالموافقة ما دام فاعل هذا من ذلك الصنف من الناس الذين وصف رسولنا الكريم واحدا منهم قديما بـ " الأحمق  المطاع " ) ، و" وزعمتم أنكم آمنتم  بالكتاب وبأهـل الكتاب الذين هادوا والنصارى  " ( الكبائر / 9 ، والمخاطَبون هنا هم المسلمون . وفى الكلام ركاكة لا يمكن بلعها ولا هضمها، علاوة على أن المسلمين لا يقولون أبدا إنهم آمنوا باليهود والنصارى ، إذ ليس اليهود والنصارى كتابا سماويا ولا نبيا من الأنبياء حتى يكونوا موضوعا للإيمان ، فضلا عن أننا ، على العكس من ذلك ، نؤمن بأنهم حرّفوا كتبهم وعبثوا بها وأنهم ما زالوا  مقيمين على العبث والتحريف حتى هذه اللحظة باختراعهم هذا " الضلال المبين " وزَعْمهم أنه كتاب من عند رب العالمين ، ناسين أن الكتب السماوية لا تنزل على أهل الأُبْنَة اللوطيين ، حتى لو رأت أمريكا أن ترسّمهم أساقفةً وقِسّيسِين ) ، و " إنْ  هو    ( أى القرآن ) إلا خير شِرْعة أُخْرِجَت للكافــــــرين " ( البهتان / 9 ، وهو وحىٌ حلمنتيشىٌّ خَدِيجٌ  لا رأس لـه ولا ذَنَب ، ولا يمكن أن يدور إلا فى اسْت أحد الممرورين المضطربين . لا شفاه الله من دائه بل أخــزاه وجعله عبرة لغيره من الكافــرين المخبولين ! آمين يا رب العـــالمين . ومن الواضح أن الجهلاء يريدون أن يقولوا إنه " شرّ شرعةٍ أُخْرِجت  للكافرين " ).

وكما ثبت أن الإله الذى أوحى بهذا " الضلال المبين " هو إله جاهل باللغة التى لفَّق بها كتابه ، فسأثبت للقراء الآن أنه إله جاهل أيضا بالكتب التى يقول إنه أوحى بها قبل هذا ، وأنه إله لا منطق عنده ولا عقل ، وأنه  نسّاء كذلك ، إذ لا يستطيع أن يتذكر ما جاء فى القرآن الكريم فينقل الآيات التى فيه خطأً ، مع أنه ، كما قيل لى ، كان يفتح المصحف وهو يفعل ذلك . فهل نقول إنه لا يعرف الكتابة والقراءة جيدا ؟ أم هل نقول إنه يستعــين بمن يقـرأون لـه ، لكنـهم للأسف يستغلون جهله وأميته فيخدعونه ولا يعطونه المعلومات الصحيحة التى يطلبها منهم ؟ يقول بعد البسملة التثليثية فى أول ما يسمّى بـ " سورة الحق " ، والحق منها ومن مزيفيها براء : " وأنزلنا الفرقان الحق نورًا على نور محقًّا للحق ومبطلا للباطل وإن  كره المبطلون * ففضح مكر الشيطان الرجيم ولو تنزَّل بوحى مَلَكٍ رحيم " . بالله هل هذا إله يدرى ما يقول ؟ ما معنى أنه سيفضح مكر الشيطان الرجيم حتى لو جاء به  ملاك رحيم ؟ تُرَى  كيف يمكن أن يأتى بالوحى الشيطانى ملاك رحيم ؟ هل الملائكة تتصرف من تلقاء  نفسها ؟ بل هل يمكن أن يقع منها أى عصيان لأوامر الله ؟ ومثلُ ذلك رقاعةً وسخفًا قولُهم فى الفقرة الثانية من " سورة الطهر " : " ولو  كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمة واطلَّعتم على الغيب وأتيتم بالمعجزات دون محبة فلا حول لكم ولا منّة وإنما أنتم مفترون ". كيف بالله يمكن أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعلم الغيب والمعجزات جميعا ثم يرفض الله تعالى أن يعترف به نبيا؟ فمن الذى أرسله إذن وجعله نبيا وأيده بكل هذه المواهب الإعجازية ؟ إن القوم إنما يصدرون هنا عن الفكر الوثنى ، إذ يتصورون أن هناك إلها آخر يمكن أن يرسل نبيا من لدنه على غير هوى الله فيرفض الله من ثم أن يعترف بنبوته . وفى أول " سورة العطاء " نطالع الآتى : " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا ، لقد قيل لكم : النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ... " ، ليعود الإله الغافل فى الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها :" ورحتم تُضِلّون المهتدين وتفترون علينا الكذب إنه لا يفلح   المفترون ". والآن أيدرى القارئ الكريم من أين أتى القرآن بعبارة   " النفس بالنفس ... إلخ " ؟ إنها من التوراة ، ونص القرآن هو :    " وكتبنا عليهم فيها ( أى على بنى إسرائيل فى التوراة ) أن النفسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعيِن ، والأنفَ بالأنفِ ، والأذنَ بالأذنِ ، والسنَّ بالسنِّ ... " ( المائدة / 45 ) ، ولا أحد فى اليهودية أو النصرانية إلا ويؤمن بأن التوراة هى من عند الله . والقرآن لم يقل شيئا آخر غير هذا ، فما معنى كل ذلك ؟ معناه ببساطة أن الإله الذى أوحى هذا الكتاب المسمى بـ " الضلال المبين " هو إله لا عقل لديه ولا ذاكرة ! وقد بلغ به فقدان العقل والذاكرة أَنْ وصف هذا التشريع بأنه " حكم الجاهلية " ، فضلا عن أنه لم يحسن نقل الآية كالعادة كما لا بد أن القراء قد لاحظوا ، إذ نَسِىَ ثلاث جمل كاملة هى : " والعَيْنَ بالعين ، والأَنْفَ بالأنف ، والأُذُنَ بالأُذُنِ " ، وهكذا ينبغى أن يكون الإله والوحى الإلهى ، وإلا فلا . تصوَّروا! تصوروا أن يعيب إلهٌ شريعته التى أنزلها فى كتاب لـه أرسل به رسولا من رسله أولى العزم هو موسى عليه السلام بأنها " حكم الجاهلية " ؟ جاء ذلك فيما يسمَّى : " سورة الحكم " ، ونص كلام هذا الهَرِم الفاقد الذاكرة كما جاء فى الفقرة العاشرة من السورة المذكورة هو : " أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن إنْ هو إلا سُنَّة الأولين وقد خَلَتْ شِرْعة الغابرين " . ثم يمضى الإله المسكين فى تخبطاته بصورة تدعو إلى الرثاء قائلا فى الفقرة التى تلى ذلك مباشرة : " فلا تنتقموا وتَصَدَّقوا به فهو كفارة لكم إن كنتم مؤمنين " ، جاهلا فى غمرة نسيانه وخَرَفه أن هذا هو ما يقوله القرآن الكريم فى آية سورة " المائدة " التى سبق الاستشهاد بها قبل قليل ، مع فارق مهم هو أن القرآن لا يوجب هذا كما يريد منا مزيفو كتاب " الضلال " بل يكتفى بالحث عليه لمن أراد أن يحرز أجرا عند الله ينفعه يوم القيامة ، وهو ما يتمشى مع أوضاع المجتمعات البشرية التى لا تستطيع أن تُمْضِىَ أمرها دون محاكم وعقوبات ، وإلا لفسد الأمر وعاث المجرمون من أمثال هؤلاء الملفقين بغيا ونهبا وتقتيلا ، إذ ما الذى يردع المجرم عن عدوانه وغَيّه لو أُلْغِيَت العقوبات ؟ إن هذا ما يتمناه كل مجرم لـه فى الإجرام تاريخ عريق . أما المبالغة فى الأمر بالتسامح والتظاهر به  وتصوُّر أن البشر قادرون عليه فى كل الأحوال فهو نفاق رخيص . وليست العبرة بمثل هذه المبالغة ، بل العبرة أن يكون هناك تشريع يحقق العدل ويأخذ لكل ذى حق حقه مع دعوة الناس إلى الصفح ما أمكن ، وهو ما فعله القرآن . أما الكلام الساذج عن إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن فهو سذاجة بل بلاهة بل تنطع . وأتحداكم أن تأتوا لى بمن يدعو إلى هذا لأصفعه وأرى ماذا سيفعل ! إنه ما من دولة  نصرانية تخلو من المحاكم والعقوبات والسجون ... إلخ  مما هو موجود فى كل البلاد ! بل إن الله نفسه يعاقب الأشرار فى الدنيا والآخرة . وعلى اعتقادكم فإنه سبحانه لم يسامح البشرَ إلا بعد أن عاقب ابنه عقابا لم نسمع أن أبا طبيعيا عاقبه ابنه ، بله أن يكون هذا الابن ابنًا بريئًا بارًّا لم يرتكب ذنبا فى حق أحد ! ترى لماذا لم يجر الله على سنة التسامح التى تدعون إليها وتظنون أنكم تتفوقون بها علينا ، مع أننا، مهما صدقنا ادعاءاتكم فينا، لم نقترف عشر معشار ما اقترفتموه فى حقنا وفى حق الآخرين من جرائم وفظاعات وحشية ؟ فلماذا التساخف إذن لمكايدة المسلمين ؟ أما إذا كان الأمر مجرد تنطُّع للمباهاة والسلام ، فإنى على استعداد لعظة الأوباش بألا يكتفوا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفعهم على الأيمن بل لا بد من إدارة القفا أيضا ليتلقَّوْا عليه ما لذ وطاب من الضرب واللَّطْس ثم إدارة الأرداف كذلك للاستمتاع ببعض الركلات  ، مع كم لكمةً من اللكمات المنتقاة وكم بَصْقَةً من البَصْق الذى يعجبك كى يكون أجرهم عند الله عظيما فى ملكوت  السماوات ! وسلِّم لى على التسامح . لو أنكم كنتم صادقين فى هذه المثالية المتنطعة ، فلماذا لا تنسَوْن ما تدَّعون أننا آذيناكم به ولا تزالون حتى الآن تتخذونه ذريعة لسحقنا وسحق أية محاولة منا للنهوض من تخلفنا؟ هذا ، ولم ندخل بعد فى حكاية " من أخذ منك رداءك فأعطه أيضا إزارك " ، وامش بعد ذلك  " بلبوصا " تستعرض على الناس فى الشوارع والمجامع سوأتك وأعضاءك التناسلية والإخراجية ، ثم تعال فقابلنى يوم القيامة ! لقد كان من الممكن أن يجوز علينا هذا الكلام لو أننا لم نَخْبُرْكم ونَخْبُر سلوككم وأخلاقكم ! أمّا ، وقد عرفناكم وكان ماضيكم معنا على مدى قرون زفتًا وقَطِرانا ، فكيف يدور فى وهمكم أننا يمكن أن نصدق حرفا مما تقولون ؟ وعلى كل حال فهذا هو نَصّ سورة " المائدة " الذى سلف الحديث عنه قبل  قليل : " فمن تصدَّقَ به فهو كفّارة لـه ". أستغفر الله العظيم! رضينا بالله ربًّا، وبالإسلا م دينًا ، وبمحمد نبيًّا ورسولا ، وتبرَّأْنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام !

ليس ذلك فقط ، فالواقع أن هذا الإله إلهٌ هجّاصٌ أيضا . ذلك أنه يزعم أنه قد أيّد هذا " الضلال المبين " بالمعجزات حسبما جاء فى الفقرتين الرابعة والخامسة من " سورة المعجزات " . فأين تلك المعجزات يا ترى ؟ أفتونى بعلم أيها العقلاء ! إن النبى الكذاب الضَّلاِلىّ صاحب هذا الكتاب لم يجرؤ على الظهور للناس الذين يزعم أنه أُرسل إليهم ، فكيف يمكن أن يكون قد أتى بمعجزات أراناها فصدّقْنا به وبها ، ونحن لم نتشرف أصلا بطلعته الغبية ؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو فقد عقله وأرانا خلقته فليس لـه عندنا إلا البراطيش ننهال بها على وجهه السمج حتى تتورم خدود العِلْج الزنيم فى عَلْقَة لم يأكل مثلَها حمارٌ فى مَطْلع أو حرامىٌّ فى جامع !

وفى تلك السورة نفسها نقرأ هذا الكلام العجيب الذى لا يمكن أن يصدر عن أمّىّ ، بله رب العالمين الذى خلق العقل والبيان ، فلا يُعْقَل من ثم أن يَتَدَهْدَى لهذا الدَّرْك الأسفل من العِىّ والفَهَاهة واللامنطق ، إذ جاء فى الفقرة الثامنة منها وصفًا لـ " الضلال المبين " الذى يسمونه كذبًا ومَيْنًا بـ " الفرقان الحق " : " صِنْو الإنجيل ورَجْع الصَّدَى وبيان للناس كافة وتذكرة للكافرين ونور ورحمة وبشير ونذير وهدى للضالين لعلهم يتذكرون ويهتدون ". ترى كيف يكون بشيرا للضالين ؟ إن البشارة  إنما تكون للمهتدين لا للضالين . لكن من أين يأتى لمخترع هذا " الضلالِ " المنطقُ والبيانُ " وقد طمس الله على بصيرة المزيِّف الدجال ؟ ثم إنه ، بسلامته ، قد حسم الأمر بالنسبة لنا نحن المسلمين  ورمانا ، فى الفقرة الثالثة من " سورة المنافقين " ، فى سَقَر ، إذ قال : " وأوردكم جهنم جميعا وإنْ منكم إلا واردها وكان عليه أمرا مقضيا " ، كما أنه يقول فى الفقرة السادسة منها عنا : " وطبع الشيطان على قلوبكم وسمعكم وأبصاركم فأنتم قوم لا  تفقهون . لا جَرَمَ أنكم فى الآخرة أنتم الخاسرون " .  فكيف يجىء بعد ذلك ويتكلم عن الهداية ؟ والعجيب أنه رغم هذا يعود فى هذه السورة ذاتها فى الفقرة الثامنة قائلا : " يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم يهتدون كلما أوقدوا نار الكفر أطفأناها ويسعَوْن فى الأرض فسادًا فوَيْلٌ للمفسدين " ، مشيرا إلى أنه سوف يأتى علينا يوم نهتدى فيه ، أى نتخلى عن توحيدنا لصالح التثليث الوثنى الذى نفض معظم الناس عندهم فى الغرب أيديهم منه . فكيف يريد هؤلاء المجانين منا أن نأكل ما رماه الغربيون فى صندوق القمامة منذ قرون ؟ إن المجرمين يتخبطون فى المصيدة التى ساقهم بغضهم وكيدهم  لمحمد إليها غير مستطيعين  التخلص من ورطتهم .

وتعالَوْا ننظر أيضا فى هذا الاضطراب العقلى الذى تعكسه الفقرة حيث نقرأ أننا نحن المسلمين كلما أوقدنا نار الكفر أطفأها الله  سبحانه . فها نحن أولاء ، من وجهة نظر هذا الإله المخبول ، نشعل نار الكفر منذ أربعة عشر قرنا ، فلِمَ لَمْ يطفئها ؟ أم سيقال إن عمال المطافئ الذين يشتغلون عنده كانوا مضربين طوال هاتيك القرون عن العمل  أو إن أمريكا ضاربةٌ من يومها على مملكته حصارا اقتصاديا يشمل قطع الغيار الخاصة بعربات المطافئ ، فلذلك لا يستطيع تشغيلها بل تقف فى مكانها لا تَرِيم كقطعة الخردة ؟ ثم إنه فى الآية الثالثة عشرة من نفس السورة يعود فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من عبادنا   ( المقصود هنا النصارى ، وربما اليهود أيضا ) إذا رُفِع لنا دعاء فإنه يستجاب لكم فيهم ولا يستجاب لهم فيكم فأنتم المقسطون وهم المبطلون " . وإننا لنسأل هؤلاء الأوغاد : لماذا ، بدلا من هذه الخَوْتَة ووجع الدماغ وتزييف الكتب الذى تشغلون أنفسكم به ، لا تَدْعُون أنتم وبقية المغفلين أمثالكم لنا بالهداية وتفضونها سيرة وتنصرفون إلى ما يصلح حالكم ، لا أصلح الله لكم حالا ما دمتم تصرون على الكفر والتآمر على عباد الله الموحدين تريدون أن ترجعوهم كفارا بعد أن أنعم الله عليهم بدين التوحيد؟ ألستم تقولون إن الله أوحى لكم هذا الهباب الذى تسمونه " الفرقان الحق " وأكد لكم فيه أن دعاءكم فينا مستجاب ؟ ألستم تريدون لنا أن نؤمن بتثليثكم ؟ بسيطة ! إن الأمر لا يحتاج لأكثر من دعوة ( أو دعوتين إذا لزم الأمر وكان إلهكم نائما نومة القيلولة مثلا أو كان مشغولا بملاعبة ابنه أو مداعبة زوجته ويحتاج من ثَمّ إلى مزيد من التنبيه ) ، وبعدها تجدوننا قد دخلنا فى دينكم وأصبحنا وثنيين مثلكم ، ويرتاح بالكم وتريحوننا من هذه الشتائم التى لا تأتى معنا بنتيجة ؟ صحيح : لم لا تفعلون ذلك ؟ ولكن لا تنسَوْا أن تعطونى الحلاوة إن وفقكم الله ، ولن يوفقكم أبدا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة بمشيئته تعالى وحوله وقوته !

كذلك فهذا الإله الضالّ الُمضِلّ لا يستطيع تذكُّر الآيات القرآنية على وجهها الصحيح فتراه يخطئ فى الاستشهاد بها فى معظم الأحيان رغم حرصه على وضعها بين علامتَىْ تنصيص جريا على أسلوب الباحثين حين يريدون أن يؤكدوا أنهم قد نقلوا النص حرفيا: خذ مثلا قوله فى الاستشهاد ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة القتل " عندهم ، بالآية السابعة عشرة مــن ســورة " الأنفــال " : " ولَمْ تقتــلوهم ولكــن الله قتلـــهم "، مع أن بدايتها فى القرآن الكريم بالفاء لا بالواو . كما أنه فى أول " سورة الضالين " يستشهد بسورة" الصَّمَد " القرآنية  على غير ما جاءت عليه فى القرآن ، إذ يقول بعد البسملة الوثنية : " وألبس الشيطانُ الباطلَ ثوبَ الحق وأضفى على الظلم جلباب العدل وقال لأوليائه : أنا ربكم الأحد لم أَلِد ولم أُولَد ولم يكن لى بينكم كُفُوًا أحد " . وليس هذا نَصَّ سورة  "الصمد"  كما نعرفها فى القرآن منذ أُنْزِلت على خير البرية . ثم ما الذى يغيظ أى إله فى قولنا عنه إنه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن لـه كفوا أحد ، اللهم إلا إذا كان إلها أحمق ؟ فلنتركه لحماقته يهنأ بها كما يحلو لـه هو ومن يرافئونه على هذا  الجنون!

أما فيما يسمى : " سورة الطاغوت " فإنه ، عند مهاجمته لشريعة الجهاد التى يتهمها زورا بالعدوانية والظلم وتقتيل الأبرياء ، ينقل على نحو محرف ما جاء فى سورة  " التوبة " من أن " الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون فى سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدًا عليه حقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " ، إذ يقول :" وافترَوْا على لساننا الكذب : بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدا علينا حقا فى الإنجيل . ألا إن المفترين كاذبون ... " . وواضح أن الأفاكين قد أسقطوا عدة كلمات من الآية القرآنية الكريمة عمْدًا حتى لا يُضْطَّروا إلى الإقرار بأن فى التوراة أمرا ، لا بالقتال دفاعا عن النفس والعِرْض فقط كما فى الإسلام ، بل بالقتل بدافع الكراهية للأمم الأخرى وإبادتها لمجرد الإبادة . وهو ما يعضد قول من قال إن هذا " الضلال المبين " هو ثمرة التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية ، فلذلك يعملون على إظهار اليهود فى صورة المسالم البرىء. والنص الصحيح لآية سورة التوبة هو : " وَعْدًا عليه حَقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " . ولم يقتصر الأمر فى السورة على هذا الخطإ ، بل هناك خطأ آخر فى الفقرة العاشرة حيث أوردوا فى وحيهم الشيطانى الآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " التى تبدأ بقوله  تعالى : " فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم " على النحو التالى :  " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم " .

 كذلك نجد فى "سورة النسخ " خطأ آخر من ذات  النوع ، إذ يقول إلههم المسطول فى الفقرة الثانية عشرة : " وإذا قيل :  " هو  قولٌ افتراه ( أى الرسول ) " قلتم : " فَأْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات إن كنتم صادقين ". وتعليقا على هذا نقول : أوَّلا ليس فى القرآن عبارة " هو قول افتراه ". ثانيا : لم يتخذ ردُّ القرآن على دعوى الكفار بافتراء النبى للقرآن صيغةً واحدةً فى كل مرة ، بل كان يختلف من موضع إلى آخر . ثالثا: العبارة التى أوردها هذا الإله المائق المأفون لم ترد فى القرآن على هذا النحو ، بل نصها فى الآية الثالثة عشرة من سورة" هود " هو : " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " . وفى " سورة الوعيد " نقرأ فى الفقرة الأولى قولهم : " يا أيها الذين ضلّوا من عبادنا      ( والمقصود نحن المسلمين ورسولنا ) : لقد توعدتم عبادنا المؤمنين بلساننا افتراءً فقلتم : " يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلْنا مصدِّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت  لَعْنًا " ، مع أن النص القرآنى  يقول : " أو  نلعنهم " ( بـ " أو "  لا بالواو ) ، كما أنه يخلو من المفعول المطلق :" لَعْنًا ". وفوق ذلك فإن هذه الآية موجهة إلى اليهود ، فما معنى تسميتهم فى " الضلال المبين " بـ " عبادنا المؤمنين " ، والنصارى يعدون اليهود كَفَرَةً كُفْرًا لا كفر بعده ولا قبله ؟ أترك المخابيل مع هذه المسألة وحدها يحاولون أن يجدوا لها حلا ، وهيهات ! وإلا لكانوا مكذِّبين بالمسيح وبالأناجيل . ولعل القارئ لم ينس أيضا ما نبّهْنا إليه قبل قليل من  إسقاط هذا الإله الخَرِف للجمل الثلاث من آية سورة " المائدة " التى تتحدث عن القصاص فى التوراة . ونكتفى بهذه الأمثلة ، ومن يُرِدْ غيرها فليرجع بنفسه إلى هذه النصوص الكفرية المتهافتة السخيفة ! ومرة أخرى أرى أن هذا الإسقاط لبعض كلمات الآية القرآنية هو تعضيد لمن يقولون عن تزييف هذا " الضلال المبين " إنه نتيجة الجهود والمؤامرات المشتركة من جانب اليهود والنصارى فى أمريكا مع الاستعانة بطائفة من  العرب الأرجاس الأنجاس !

والطريف المضحك أن كتاب " الضلال المبين " يدور كله من أوله لآخره على المسلمين ونبيهم والكتاب الذى أنزله الله عليه : لا يشتم غيرهم ، ولا يحاول أن يَخْتِل أحدا عن دينه سواهم ، ولا يترك شيئا أىّ شىء فى دينهم دون أن يسفِّهه ويُزْرِىَ به مناديا إياهم فى مفتتح كل سورة تقريبا من سور "ضلالهم المبين" بـ " يا أهل الجهل "  أو " يا أهل الظلم من عبادنا "  أو " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا "  أو " يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين " أو" يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين "  أو " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين "  أو " يا أيها المفترون من عبادنا الضالين "  أو " يا أهل التحريف من عبادنا  الضالين "، وكأن الله سبحانه وتعالى لم تعد لـه شُغْلَة ولا مَشْغَلَة إلا المسلمون . ولكن لم يا ترى ؟ السبب هو أن المسلمين يوحّدونه ولا ينسبون لـه ولدا ، سبحانه ! ولأنهم يصلّون لـه وحده لا يشركون فى عبادتهم لـه أحدا من خلقه . باختصار : لأنهم لا يتبعون سُنّة الوثنيين فى أىٍّ من عقائدهم أو عباداتهم أو تشريعاتهم . فهذا التوحيد النقى المطلق هو الذى يغيظ ... يغيظ من ؟ لا ، لا يمكن أن يغيظ هذا الإيمانُ الناصعُ الصافى  اللهَ سبحانه وتعالى بل إلها أحمق مغفَّلا كهؤلاء الذين يعبدونه وهم يحسبون ، بعقولهم الزَّنِخَة العَطِنة وقلوبهم السوداء العَفِنة ، أنهم يُحْسِنون صنعا! هذا إلهٌ متخلفٌ ينبغى أن يُعْهَد به إلى من يُفَهِّمه ويرشده ويُحَضِّره ويُبَصِّره بمصلحته وما يصحّ وما لا يصحّ فى حقه ، بالضبط  كما يفعلون بأولياء العهد فى الدُّوَل الملكية ، إذ يُحْضِرون لهم فى صغرهم أساتذة  يعلّمونهم فنون البروتوكول ، حتى إذا جاء عليهم الدَّوْر ليحكموا البلاد كانوا جاهزين لتولى أمور المُلْك ولم يكونوا عارا على بلادهم وأُسَرهم . ولكن يبدو أن هذا الإله لم يجد فى صباه من يأخذ بيده ويعلّمه مقتضيات الألوهية على وجهها الصحيح ، فلذلك نراه يفضّل أن يشرك به عبادُه على أن يُفْرِدوه بالألوهية ويخصّوه بالعبادة والدعاء والتمجيد ! إن هؤلاء الأغبياء ما زالوا سادرين فى أوهامهم التى كانت تجوز على المتخلفين فى العصور الوسطى والتى تخلصت منها أوربا عندما أذَّن فيها المؤذن ببزوغ فجر النهضة ، ناسين أننا الآن فى القرن الواحد والعشرين ! صحّ النوميا أيها المتخلفون !

أو لم تجدوا فى طول الأرض وعرضها على رُحْبها واتساعها من يحتاج إلى الهداية إلا المسلمين ؟ أولم يأتكم نبأ عُبّاد البقر أو عُبّاد النار أو عُبّاد الشيطان أو الشيوعيين مثلا ؟ أَوَقَدْ نَسِيتم ما كنتم تقولونه فى اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربكم ؟ ألا يحتاج أىٌّ من هؤلاء أن تُولُوه شيئا من هذا الحنان الزائف الذى تغدقونه علينا بالإكراه والذى  تسمونه : " المحبة " ؟ فلنفترض أننا نحن المسلمين ضالون فعلا كما تزعمون كذبًا ومَيْنًا ، أليس ضلالنا هذا أنظف من ضلال هؤلاء الذين ذكرتُهم آنفا؟ إننا على الأقل نعبد الله ونوحّده ولا نشرك به شيئا ، فضلا عن أننا لم نقتل المسيح ولم نطعن أمه فى عِرْضها مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد ، بل نؤمن به نبيًّا من أنبياء الله ونحترمه ونكرّم أمه تكريما لا يكرِّمها إياه أحد من العالمين . فنحن إذن ، على أسوإ الفروض ، أفضل من غيرنا، فلماذا كل هذه البذاءة والسفالة والوقاحة مع رسولنا ومعنا دون الناس أجمعين ؟ ثم تقولون لنا بعد ذلك إن دينكم هو دين المحبة !

أية محبة تلك التى تسوِّل لكم التطاول علينا واتهامنا مع ذلك كله بأننا نحن المعتدون القاتلون اللصوص السارقون ، فى الوقت الذى تهجمون فيه على بلادنا وتدمرونها تدميرا ، وتقتّلون رجالنا ونساءنا وأطفالنا ، وتسرقون بترولنا ، وتحتلون بلادنا ، وتعذّبوننا وتهينوننا وتنتهكون أعراض نسائنا ، وتضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج ... إلخ ؟ إن جنودكم اللوطيين ومجنَّداتكم السحاقيات يعتدون على إخواننا وأخواتنا فى السجون والمعتقلات فى أرض الرافدين ( وهذا مجرد مثال ) بكسر عظامهم ، وإبقائهم عرايا فى صَبَارَّة الشتاء مع غمر الزنازين بالماء الوسخ حتى لا يستطيع المساكين النوم ، وتسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم فينزفون حتى الموت ، فضلا عن إكراههم للأب أن يمارس اللواط مع ابنه والعكس بالعكس ، واغتصاب النساء والفتيات العفيفات اللاتى يفضلن الموت بعد خروجهن من المعتقل على الحياة مع هذا العار ، طالبين منهم ومنهن أن يشتموا الله ورسوله ويرددوا أنهم يؤمنون بالصليب وبيسوع ابن الله ، قائلين إنهم جاؤوا إليهم يحملون رسالة المحبة ، وهم لم يحملوا إلا رسالة اللواط والسحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربرى الذى لا يترك شيئا يمرّ عليه إلا جعله أنقاضًا وأحجارًا لا يُعْفِى من ذلك مدرسة ولا مصنعا ولا متحفا ولا بيتا ولا مسجدا ؟ أية محبة جئتمونا بها أيها الوحوش ؟ لعنة الله عليكم وعلى ما جئتمونا به ! اغربوا عن  وجوهنا ، لا نريد أن نراكم ! أىّ جنون ذلك الذى طوّع لكم أننا يمكن أن نترك توحيدنا الطاهر العظيم وندخل معكم فى تثليثكم وتصليبكم ؟ فلتحتفظوا بهذه المحبة لأنفسكم بدلا من اللهاث وراء إضلال من هداهم الله وعافاهم من هذا الرجس وذلك البلاء ، والعياذ بالله ! لماذا لا توجهون دعوتكم هذه إلى من تركوا منكم دينهم واتخذوا الإلحاد دينا  بديلا ، وهم الأغلبية الساحقة فيكم ؟ أنتم تقولون فى " ضلالكم المبين " إننا ذاهبون إلى الجحيم ! ماشٍ ، فلتريحوا إذن أنفسكم ولتوفروا جهودكم وأموالكم وأوقاتكم ، ولتنصرفوا عنا ما دام الأمل فينا مقطوعا. أليس هذا ما يقول به العقل يا من عدمتم العقل ؟

والآن إلى بعض ما يقوله هؤلاء الأوساخ فينا وفى رسولنا وديننا عقيدةً وعبادةً وتشريعًا : " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين : أَنَّى تشهدون بما لم تشهدوا وترددون ما لا تفقهون . لقد شهدتم إفكا وقلتم بَهْتًا ونُكْرا * وبلَّغتم الناس ما ليس لكم به علم . وأنفذتم جاهليتكم على الراسخين فى العلم والدين القويم فأثقلتم كواهلهم وزرا * وشُبِّه لكم الحق فما فهمتم للتجسد معنى وما فهمتم للبنوة مغزى وما أدركتم للفداء مرمى وما علمتم من أمور الروح أمرا * وعلَّم الأميين أمِّىٌّ  كافر فزادهم جهلا وكفرا * وأخرجهم من النور إلى الظلمات وأضلهم قسرا " ( الشهادة/ 1- 6 ) ، " إن الذين يُقِيمون الصلاة فى زوايا الشوارع والمساجد رياءً كى يشهدهم الناس ذلكم هم المنافقون وهم فى الحقيقة لا يُصَلّون * فمن نوى أن يصلى فليدخل داره وليغلق بابه ويصلِّ خفيةً نجزيه علانية بعين العالمين * تكررون الكلام لغوا كعَبَدَة أوثان تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا نعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألون * وترددون الدعاء طمعًا بدخول الجنة فلن تُفْتَح أبواب الجنة  للمنافقين . أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون " ( الصلاة / 3 – 7 ) ، " يا أيها المنافقون من عبادنا : إن صيامكم غير مقبول لدينا وغير ممنون * فما كان الصوم تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تتخمون صُوَّما أكثر منكم مفاطر وكالأنعام تَطْعَمون * ترهقون أجسادكم ونفوسكم نهما فكأنكم ما طَعِمْتم من قبل ولن تكونوا من بعد طاعمين * وتأكلون السنة فى شهرٍ جشعا لضَعَتكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألا تصوموا فإنه لا أجر للضعاء والمتضورين * وتكلِّحون وجوهكم وتصعِّرون خدودكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعل ذلك القوم المنافقون " ( الصيام / 3 - 8 ) ، " يا أهل العدوان من عبادنا   الضالين : تسفكون دماء البهائم أضحيات تبتغون مغفرة ورحمة من لدُنّا عما اقترفت أيديكم من قتل وزنى وإثم وعدوان * إنما أضحية الحق قلبٌ طهيرٌ يتفجر رحمة ومحبة وسلاما لعبادنا ورفقا بالبهائم فلن ينالنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالنا تقوى المتقين " ( الأضحى/ 7 – 8 ) ، " وهبط الذين اتبعوا الطاغوت إلى دركٍ سحيقٍ فاشْتَرَوُا الحربَ بالسلام والسلبَ بالإحسان والزنى بالعفة والكفرَ بالإيمان فخسرت تجارتهم وكسبوا عذابا وبيلا * واقترفوا الفحشاء والمنكر والبغى سعيًا وراء جنة الزنى يوعَدونها وَعْدًا غَرورًا وثوابًا إفكًا من  الشيطان ، ألا بُعْدًا لجَنّة الكافرين وتَعْسًا لمن بها يُوعَدون  * وافترَوْا على لساننا الكذب : " بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الحنة يقاتلون فى سبيلنا وعدًا علينا حَقًّا فى  الإنجيل " . ألا إن المفترين كاذبون . فإنا لا نشترى نفوس المجرمين إنما اشتراها الشيطان اللعين * وأشركونا فى عصبة تقتل وتسلب عبادنا وفرضوا لنا فى خمس ما يغنم الغزاة المجرمون * وبرّأهم المنافقون فقالوا : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم ". ألا إنا لا نقتل عيالنا لنغنم مع القتلة والمعتدين "( الطاغوت / 6 – 1 ) ، " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين : لقد جعلتم من جناتنا مواخر للزناة ومغاور للقتلة ومخادع رِجْس للزانيات ونُزُل دعارة للسُّكارَى والمجرمين " ( الكبائر / 1 )... إلخ .

ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعيب على دين رب العالمين كَمَثَل المومس التى لا يعجبها عفة الحرائر الشريفات فتذهب تعيبهن قائلةً فى تباهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعرٍ إنها عشيقة لفلان وفلان من أكابر القوم وليست زوجة لرجل لا هو صاحب شهرة ولا ذو منصب كبير من السفلة المجرمين ! ماذا فى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والصلاة والصيام ؟ وماذا فى الصلاة فى المساجد بحيث يُزْرِى عليها الكَفَرَة المارقون ؟ ألا يصلون فى الكنائس ؟ أكل من صلى منهم يذهب إلى مخدعه فيصلِّى؟ إن الصلاة فى الإسلام تجوز فى أى  مكان : فى الشارع ، وفى الحقل ، وفى المصنع ، وفى ميدان القتال ، وفى السَّفَر ، وفى الحَضَر... ذلك أن الله سبحانه فى كل مكان ، ولا بد من عبادته فى كل حين ، وإلا فلو انتظر الإنسان حتى يعود إلى كِسْر داره ويدخل مخدعه فلن يصلى ركعة واحدة إن شاء الله ، وهذا ما حدث فى  بلادكم ، حيث لا تذكرون الله إلا  كل أسبوعٍ  مـرة . وهذا بالنسبة للعجائز وأمثالهم ، أما الشبان والشابات فإنهم لم يعودوا  يعبدون الله ولا مرة كل مائة عـام ، فقَسَتْ قلوبهم ، فبئس الاقتراح اللعين من القوم الملاعين ! والعبرة فى كل حال بإخلاص النية وتطهير القلب من الرياء ، أما اتهام الآخرين بالنفاق زورا وبهتانا عاطلا مع باطل ، واحتقار عبادة الموحدين وإظهار التنطُّس والاشمئزاز منها ، فهو بعينه الكِبْر وجمود القلب الذى أَصْلَى المسيحُ عليه السلام اليهودَ بسببه قوارصَ الكلمات وقوارضَ اللعنات ! ثم ماذا فى الصيام ؟ أليس فى دينكم صيام أيضا ؟ وماذا فى الأضاحى ؟ إنكم تُظْهِرون الشفقة عليها ، فهل نفهم من هذا أنكم لا تذبحون الحيوانات ولا تتسمَّمون بها ؟ وهل يكره الله من عباده أن يُطْعِموا من أضاحيهم الفقراء والمساكين ؟ فأين المحبة والرحمة التى تصدِّعون رؤوسنا بها ليل نهار ؟ أم إن اللحم لا يصلح إلا إذا كان من جسد المسيح تأكلونه كما يفعل الوثنيون ؟ كيف يا إلهى يأكل الإنسان جسد ربه ويشرب دمه ؟ ومن غبائكم وجهلكم تسمّونه " الخروف "  كما أفهمكم يوحنا فى هلاويسه ( رؤيا / 5 / 6 فصاعدا . وفى إنجيل يوحنا أنه" حَمَل " /  1 / 29 ، 36 ) ، فيا لكم من خرفان غبية بليدة تسمِّى ربَّها خروفا يا أكلة الخنزير الذى حرّمته السماء وحلّله لكم ، تقرُّبًا إلى الوثنيين ، بولس  اللعين ( كورنتوس 1 / 6 / 12– 13 ،  9 / 19 – 29 ، وكولُسِّى/ 2  كله ) ، ومهّد لـه الطريقَ قبلا بطرسُ ذو العقل الثخين ( أعمال الرسل / 9 – 16، و 11/ 2 – 10 ) ، والذى يجعلكم تبغضوننا وتحقدون علينا إلى يوم الدين ! إننا حين نذبح الأضاحى إنما نذبحها ليَطْعَم معنا منها المحتاجون والجائعون لا ليتمتع برائحتها الله رب العالمين ، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما صورتموه  فى " الكتاب المقدس " لديكم ، ولذلك تُتْرَك فلا يأكل منها أحد. وهذا معنى قوله تعالى :  " لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكنْ يناله التقوى منكم " ( الحج / 37 ) ، الذى سرقتموه كعادتكم  ونقلتموه إلى " ضلالكم المبين " دون فهم كالحمار الذى يجلس إلى مكتب ويمسك كتابا بحوافره يظن أنه بذلك سيكون من الآدميين الذين  يفهمون ، ثم جئتم تَشْغَبون به علينا فى عنادٍ حَرُون . وهذه أول مرة أسمع بإله يضيق صدره بإطعام الفقراء والمساكين . أىّ إله هذا  يا ترى ؟ ومن أية جِبِلَّةٍ جُعِل ؟ هذا إلهٌ قاسٍ غليظ القلب  والوجدان ، نعوذ بالله منه وممن صنعوه وعبدوه !

على أن ثمة شيئا خطيرا فات هؤلاء الأوغاد ، ألا وهو أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام  بالعفة ، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه  الأكاذيب ؟ إن ذلك لهو الحماقة بل هو الجنون بعينه ، فضلا عما فيه من قلة أدب ووغادة ! ومعروف ما يقوله ، عن عيسى وأمه ، اليهود الذين يضع الأوغاد الآن أيديهم فى أيديهم ليكونوا علينا إِلْبًا واحدا . إنه عندهم ابن سِفَاح ، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه : " لسنا مولودين من زِنًى"( يوحنا / 8 / 42 ). وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال هذه التهمة بأدلة قانونية ، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل  : عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية . ولم تكن مريم قد تزوجت بعد ، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى ، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم ، الذى يتطاول عليه بَغْيًا وعَدْوًا أغبى من عرفت الأرض من   المخلوقات ؟ لقد ذكر المولى فى كتابه  أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملت بعيسى . لكن أحدا لم  يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك ، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها ، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى ! فما معنى  هذا ؟ معناه أن هؤلاء الحمقى المغفلين يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين ، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهؤلاء البهائم من ورطتهم ! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه ، وهو أمر طبيعى جدا ، إذ ما الذى  ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس ؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه نورًا للعيون وهُدًى للقلوب ؟

ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر ، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى ، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة ! لقد كتب يوحنا فى إنجيله ( 1 / 5 ) أن الناس كانت تسميه " ابن يوسف " ، وهو نفس ما قاله متى  ( 1 / 55 ) ولوقا ( 3 / 23 ، و 4 /  22 ) ، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم . بل إن لوقا نفسه ( 2 / 27 ، 33 ، 41 ، 42 ) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما  " أبواه " أو " أبوه وأمه ". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه  أبوه  ( لوقا / 2 / 48 ). ليس ذلك فحسب ، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة    عندهم ، وهو إنجيل متى ، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ( " رجل مريم "  كما سماه مؤلف هذا الإنجيل ) ثم تتوقف عنده . فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ...؟ لقد توقعتُ ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى  حياتى ، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر ، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا ، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا . ثم إنهم بعد ذلك ، ويا للغرابة ، يجدون فى أنفسهم النَّتِنة الجرأةَ على التَّسَافُه على رب العالمين وإيذاء رسوله الكريم فى صحائفَ ملفقة زاعمين أنها وحى من لدن رب العالمين ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يجد فى كونه الواسع العريض غير المآبين الموكوسين ليتخذ منهم أنبياءه وينزّل عليهم وحيه الشريف !

لكن خيبة هؤلاء السفهاء لا تنتهى عند هذا الحد ، إذ هم يُصِرّون على أنه عليه السلام قد صُلِب ، ويخطِّئون القرآن لنفيه واقعة الصَّلْب ، بل يكفّروننا نحن ورسولنا لهذا السبب ، مع أنهم لو عقلوا لقبلوا أيديهم ظهرًا  لبطن ، ثم عادوا فقبلوها بطنًا لظهر ... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لماذا ؟ لأن العهد العتيق  الذى لا يصح لهم إيمان إلا به يؤكد أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون من الله ( تثنية الاشتراع / 21 / 22 ) ، وعيسى ، بنَصّ ما جاء فى " أعمال الرسل " ، قد عُلِّق على خشبة  ( 5 / 30 ، و10 /  39 ) ، أى صُلِب . ولقد شعر اللعين بولس بالوكسة  التى وقع فيها محرِّفو الأناجيل ومزيِّفوها حين قالوا بصلبه عليه السلام فأقرّ ، فى رسالته إلى أهل غلاطية ( 3 / 13 ) ، باللعنة التى وقعت على رأس المسيح بتعليقه على الخشبة ، بَيْدَ أنه سارع إلى لىّ الكلام عن معناه مدَّعِيًا أن تحمُّل ذلك النبى الكريم للّعنة إنما كان من أجل البشر. وبطبيعة الحال هو لم يقل عنه إنه نبى بل إله ! إذن فهم أنفسهم يقرون بأن إلههم   ملعون ، وهذا يكفينا ، ولا يهم بعد ذلك أن نعرف السبب الذى صار ملعونا لأجله ، فهو لا يقدم فى الأمر ولا يؤخر! أليس من العار أن يعتقد إنسان أن الرب الذى يؤمن به ويعبده ويبتهل إليه ويطلب منه البركة والخير هو نفسه  ملعون ؟ فكيف يطلب منه إذن ما لا يملكه بل ما يحتاج من غيره أن يوفّره لـه ؟ على رأى المثل : جئتك يا عبد المعين تُعِيننى ، فإذا بك  يا عبد المعين تُعَان ! والله إنها لمهزلة ! إنها أول مرة يسمع الواحد فيها بإله ملعون ! ولكن لم  لا ، وقد جعلوه خروفا ، كما روَوْا فى أناجيلهم المزيَّفة أنه قد مات على الصليب بعد أن أُهين وضُرِب وشُتِم وبُصِق عليه ووُضِع الشوك على رأسه وسُخِر منه وسُمِّرَت يداه ورجلاه فى الخشب وطُعِن فى خاصرته بالرمح وجعلوا من لا يشترى يتفرّج ، وهو فى حال من العجز تامة لا يستطيع أن يصنع هو  ولا أبوه شيئا رغم الآلام التى كانت تعذّبه والصرخات التى كان يرسلها فى الفضاء فى مسامع ذلك الأب القاسى الغبى ؟ أما نحن المسلمين فإننا نرفض الصَّلْب أصلا من جذوره ، ومن ثَمَّ فلا لعنة ولا يحزنون ! وبهذا يتبين للقراء البؤس العقلى الضارب بأطنابه على أولئك الطَّغَام الذين يزعمون أنهم أَتَوْا لهدايتنا ، وهم أضلّ خلق الله ! أترى أحدا قد سمع بمثل هذا البؤس من قبل ؟ ألم أقل إن من يغضب الله عليه لا يفلح أبدا ؟

ومع العَمَى الحَيْسِىّ الذى يسدّ السبيل على هؤلاء الأغبياء  نمضى ، فماذا نجد ؟ لقد وردت ، فى الفقرة الحادية عشرة من" سورة الزنى " فى " ضلالهم المبين " ، الكلمة التالية : " ووصينا عبادنا ألا يحلفوا باسمنا أبدا وجوابهم نَعَمْ أَوْ لا . فقلتم بأن من كان حالفا فليحلف باسم الإله أو يصمت . وهذا قول الكفرة المارقين " . وأول شىء نحب أن نقوله هو : ما علاقة الحلف بالله بالكفر ؟ وإذا لم نحلف بالله إذا أردنا أو أُرِيدَ منا أن نُطَمْئِن الآخرين فبأى شىء نحلف ؟ أنحلف بسيدى سِحْلِف ، الذى يأكل ويَحْلِف ؟ أنا لا أضحك ، ولكنى أحاول تجنب انفقاع مرارتى ! وطبعا مفهومٌ من الذى يقصده الأوباش بالكفرة المارقين ! إنه نبينا وسيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم . نعم سيدهم وتاج رؤوسهم ، وإن كانوا لا يستحقون شرف سيادته عليهم . إن الحَلِف موجود فى كل المجتمعات والعصور والديانات بما فيها شريعة موسى التى أكد المسيح ، حسبما تروى عنه الأناجيل ، أنه ما جاء لينقض أحكامها بل ليتمّمها والتى تنظّم عملية الحلف  بتشريعات خاصة به جوازا ووجوبا وحرمة ( تكوين / 25 / 3 ، وخروج / 22 / 1، وعدد / 30 / 2 ). فمن أين جاءت المشكلة إذن ؟ إن المسيح فى نفس العبارة التى يؤكد فيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أى شريعة موسى ) بل ليتمّمه يسارع فى التو واللحظة بنقض كل ما أكده فى هذا الصدد قائلا إنه إذا كان قد قيل للقدماء كذا فإنه هو يغيّره إلى كذا . وكان من بين ما غَيَّرَ  حُكْمَه  القَسَمُ ، وهذا نَصّ ما قاله فى هذا الصدد : " قد سمعتم أيضا أنه قيل للأولين : لا تحنث بل أَوْفِ للرب بأقسامك ، أما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة : لا بالسماء لأنها عرش الله ، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك الأعظم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء . ولكن ليكن كلامكم : " نَعَمْ  نَعَمْ ، ولا  لا " ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير " ( متى / 5 / 33 –  37 ). وجاء فى "رسالة يعقوب "    ( 5 / 12) : " يا إخوتى ، لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقَسَمٍ آخر، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا ، لئلا تقعوا فى الدينونة ". وهذا كل ما هنالك . فهل فى هذا الكلام ما يفهم منه أن القسم كفر؟ بطبيعة الحال لا يوجد شىء من هذا لا من قريب ولا من بعيد.

هذه واحدة ، والثانية هى أن الله نفسه قد صدر عنه القَسَم  حسبما روى لنا  العهد الجديد نفسه ، فما القول إذن ؟ جاء على سبيل المثال فى " لوقا " ( 1 / 73 - 74 ) : " ... القَسَمَ الذى حلف ( الله ) لأبينا إبراهيم أن يُنْعِم علينا * بأن نَنْجُوَ من أيدى أعدائنا ... " ، ويقول كاتب " أعمال الرسل " ( 2 / 31 ) :      "  كان ( داود ) نبيا وعلم أن الله أقسم لـه بيمينٍ أن واحدا من نسل صلبه يجلس على عرشه ... ". بل إننا نقرأ فى " رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " ( 6 / 13 – 17 ) : " لأن الله عند وعده لإبراهيم ، إذ لم يمكن أن يُقْسِم بما هو أعظم منه ، أقسم بنفسه * ... * وإنما الناس يُقْسِمون بما هو أعظم منهم وتنقضى كل مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت * فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثَة الموعد بيانا لعدم تحوُّل عزمه أقسم بنفسه " . وهذا ما قلناه قبل قليل ، فلماذا إذن التنطع الكاذب وقلة الأدب والسفاهة مع سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟  كذلك فالملاك ، بنص كلام يوحنا فى " رؤياه "  ( 1  / 6 ) ، يقسم بالله " الحى إلى دهر الدهور خالق السماء وما فيها والأرض وما فيها والبحر وما فيه " . ليس ذلك  فقط ، بل هذا هو بطرس ، خليفة السيد المسيح كما يقولون وأكبر حوارييه ومؤسس كنيسة روما ، يحلف كذبا ، فى آخر حياة سيده أمام الجمع الذى جاء للقبض عليه ، ثلاث مرات متتالية إنه لا يعرفه ولا علاقة لـه به قائلا :  " إنى لا أعرف  الرجل ! " ، رغم أن المسيح كان قد نبَّهه إلى أنه سينكره فى تلك الليلة ثلاثًا قبل أن يصيح الديك ، ومع ذلك وقع كالجردل فى الإثم الذى نبَّهه إليه نبيُّه! ( متى / 26 / 72 – 73 ، ومرقس / 14 / 71 ) مستحقا بأثرٍ رجعىٍّ وَسْم السيد المسيح لـه قبلا بأنه " شيطان " وأنه لا يفطن إلا لما للناس ولا يفطن لما لله  ( مرقس / 8 / 32 ) . فماذا يقول الأوغاد فى هذه أيضا؟ ثم إننا نسألهم : ألا تحلفون كلكم فى حياتكم  اليومية وفى المحاكم وعند ممارسة الأطباء منكم الطب وتَوَلِّى الحكّام حُكْم بلادهم ... إلخ ؟ ألا يُقْسِم النصارى فى كل لحظة أمامنا بـ " المسيح الحى "       و" العذراء "  و " الإنجيل " ؟

وبعد ، فهل يشجِّع الإسلام على القَسَم كما يوحى كلام هؤلاء المآبين فى " ضلالهم المبين " ؟ كلا على الإطلاق ، ففى القرآن نقرأ قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عُرْضَةً لأيمانكم " ( البقرة / 225 ) ،  " واحفظوا أيمانكم " ( المائدة / 89 ) ، " ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّف مَهِين " ( القلم / 10 ) ، وفى الحديث مثلا أن الحَلِف إذا كان مَنْفَقَةً  للسلعة ، فهو  َممْحَقَةٌ للبركة . إذن فما قاله هؤلاء الفجرة التافهون المتنطعون لا يعدو أن يكون زوبعة فى فنجان ! أما نَهْى الرسول عليه السلام الذى ذكره الأوغاد الفَجَرة فى سورتهم المفتراة المزيَّفة عن الحَلِف بالآباء وأَمْره عليه السلام لمن يريد الحَلِف أن يحلف بالله بدلا من ذلك أو فلْيصمت ، فمعناه بكل وضوح لمن يريد أن يعرف الحقيقة لا مجرد الشَّغَب على سيد المرسلين هو محاربة العصبية القبلية التى كانت متفشية بين العرب أوانذاك وما يرتبط بها من التعظُّم بالآباء والأحساب والأنساب ، فأراد الرسول الكريم أن يبين لهم أن البشر جميعا هم خلق الله وعياله وأنه لا فضل لأحد على أحد بنسب أو حسب ، وأن توجُّه المؤمن ينبغى أن يكون لله وحده بوصفه عبدا لـه ينبغى أن يكون دائما على ذكْرٍ منه . وهذا هو المعنى الذى أراده الرسول عليه السلام ، وهو معنى إنسانى عظيم لمن لم يطمس الله على بصيرته ويريد أن يفهم . وبداية الحديث وختامه يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبِّذ الحَلِف ، وهذا واضح من استخدام جملة الشرط ، التى تعنى أنه إذا كان لا بد من الحَلِف فليكن باسم الله لا بأسماء الآباء التى من شأنها إحياء النوازع والنعرات الجاهلية لا أن الحلف فى ذاته مرغوب! ولنفترض أن المسيح قد نسخ حكم التوراة فى الأيمان ، فلم لا يكون من حق سيدنا رسول الله أن ينسخ بدوره ما قاله المسيح ؟ وأغلب الظن أن عيسى  عليه السلام ، إن صحّ ما ترويه عنه الأناجيل فى هذا الصدد ، قد لاحظ كثرة لجوء اليهود إلى الحَلِف لأكل حقوق الناس بالباطل ، فأراد أن يضع حدا لهذه الظاهرة ، وإن كان فى عبارته ، كما هى العادة فى الكلام المنسوب إليه فى الأناجيل ، مغالاةٌ أراد أن يوازن  بها مغالاة  اليهود فى المسارعة إلى استغلال اسم الله فى خداع  الآخرين ! فكلا النبيين الكريمين أراد أن يعالج ظاهرة نفسية وخلقية ذميمة رآها منتشرة بين معاصريه . وبالمناسبة فإنهم يعيبون محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه أتى بالنسخ  ويكفّرونه من أجل ذلك ( سورة الرعاة / 8 – 10 ) ، مع أن   المسيح ، حسبما ورد فى الأناجيل كما رأينا ، هو الذى ابتكره رغم أنه أنكر أن يكون قد أتى لينقض الشريعة أو يَحُلّ الناموس ! وهكذا نرى أنه ما من شىء يقوله هؤلاء الأغبياء زورًا وبهتانًا  إلا فضحهم الله فيه ! وبالمناسبة فعلماء الإسلام لا يقولون كلهم  بوقوع  النسخ فى القرآن .

وأخيرا نود أن نجلِّىَ جانبا من جوانب العبقرية الإسلامية فى مجال القَسَم ، فعلى عادة الإسلام نراه ينتهز هذه السانحة لاستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها من فوائد ، إذ يفرض كفارة على من يُقْسِم ثم يحنث بيمينه ، إذ يُوجِب عليه عتق أحد الأرقاء أو إطعام عشرة مساكين أو كساءهم ... وهَلُمَّ جَرًّا ، نافعا بذلك المجتمعَ ومساكينَه وفقراءه بأيسر سبيل . فانظر إلى هذه العبقرية الخلاقة التى تنجز أضخم الإنجازات بأقل الإمكانات ، بدلا من التوقف عند لطم الخدود وشق الجيوب على قلة الإمكانات وعدم الفرص كما يفعل كثير من العرب والمسلمين اليوم حتى فى ميدان الكرة  كما هو معلوم . والنتيجة هى هذا التخلف الشامل الذى نعانى منه على كل المستويات وفى كل المجالات !

فهذا عن القَسَم ، ثم ننتقل إلى تعدد الزوجات ، الذى يعده أهل اللواط والسحاق زِنًى وإشراكا بالله ، فكأنهم يؤلهون المرأة ويعدّون من يأخذ معها زوجة أخرى مشركا . ولو أنهم قالوا إن الأفضل الاقتصار على زوجة واحدة ما لم تكن هناك ضرورة  لما وجدوا من يخالفهم ، وهذا هو موقف الإسلام  ، أما الزعم بأن الزواج بأكثر من واحدة هو زنى وشِرْكٌ فَجُنونٌ مُطْبِقٌ ليس لصاحبه موضع إلا فى مستشفيات الصحة العقلية والنفسية ! ألا يدرك هؤلاء الأغبياء أنهم بهذا يكفّرون أنبياءهم ويَقْرِفونهم بالفحشاء ؟ ألا يعرف هؤلاء المخابيل أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد ، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء ؟ ألا يعى هؤلاء المناكيد أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه ، الذى ينتمى إلى داود وسليمان ، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا ؟ لكنْ مَتَى كان عند أولئك البلهاء عقل يميّزون به ؟ ألا يذكر كتابهم المقدس " فوق البيعة "  أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر( ولا أدرى لماذا ، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران ، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت " على عينك يا تاجر " ، وكأننا فى فلم من أفلام البورنو والإستربتيز ! ومن يدرى ؟ فربما كان معه منظار مقرِّب حتى تتم المتعة على أصولها ! ) . المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه  كما لا أحتاج  أن أقول ، فأرسل فأحضرها وزنى بها ( بارك الله فيه ! ) ، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس ، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب  المعمعة ، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا ، فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن تزوجها وبعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا ( سفر الملوك الثانى / 16 كله ) . انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير ! وبَتْشاَبَع هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك ! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف ! أى أن نسب المسيح ، حسبما يقول  كتابهم ، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام . أما نحن فننزّهه عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلا ونبلا . ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح ، كما جاء فى " متى " ( 22 /45 ) ، قد نفى أن يكون من ذرية داود ! والله معه حق ، فإن مثل هذا النسب  لا يشرّف أحدا ، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة ! ثم هم بعد هذا يتهموننا نحن بالكفر والشرك والضلال ! عجبى ! لو كنت من أصحاب الأصوات الجميلة لفَقَعْتُ بالموّال وقلت :  " خسيس قال للأصيل : ...! " ، لكنى للأسف لست حَسَن الصوت .

ومن المهازل التى لها صلة بقضية تعدد الزوجات نسبةُ  كتابهم المقدس إلى الله أولادا من أمهات شتى ، فضلا بطبيعة الحال عن آدم ، الذى لم تكن لـه أم . ومن هذا الوادى تسمية العهد العتيق للرجال فى بدء الخليقة بـ " بَنِى الله " فى مقابل تسمية النساء بـ " بنات الناس "  ( تكوين / 6 / 2 ) ، وقول الله لبنى إسرائيل : " أنتم بنو الرب  إلهكم " ( تثنية الاشتراع / 14 / 1 )، وقوله سبحانه لداود : " أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك " ( مزامير / 1 / 7 ) . ليس هذا فقط ، بل يجعله بِكْره ( مزامير / 88 / 27 ) ، ليعود بعد ذلك فيقول إن إبراهيم هو بكره ( إرميا / 31 / 9 ) ، ناسيا أنه قد جعل البكورية فى موضع سابق على هذين الموضعين لإسرائيل ( خروج / 4 /  2 )! يا لـه من إله مسكين ! إنه يذكِّرنا بخَرَاش الذى تكاثرت الظباء عليه فلم يعد يدرى من كثرتها ماذا يصيد منها وماذا يدع . لقد كثر أبناء الله حتى لم يعد يتذكر مَنِ البِكْر منهم ومن ليس  كذلك ! معذور يا ناس ! كان " الله " فى عونه ! فإذا كان الإله ، كما يقول كتابهم ، لـه كل هؤلاء الأولاد الذين جاء بهم من أمهات شتى ، فمعنى هذا أنه هو أيضا كان من المعدّدين مثل من ذكرنا من الأنبياء السابقين  ـ  فكيف يجرؤون إذن أن يرموا المسلمين ورسولهم وحدهم بالكفر والزنى لنفس السبب ؟ أإلى هذا الحد ينغِّص حقدُكم على سيد الأنبياء والمرسلين ودينه النقى البرىء من الشرك والوثنيات حياتَكم ويخرجكم عن طوركم فلا تستطيعون تفكيرا ولا تحسنون تعبيرا ، بل يأخذكم البِرْسام فتَهْذُون وتَبْذُؤون متصورين أنكم تقدرون على تلطيخ  صورته ؟ هيهات ثم هيهات ثم هيهات ... إلى آخر الهياهيت التى فى الدنيا جميعا ! ثم إنكم بعد ذلك لصائرون إلى المكان الذى يليق بأمثالكم ، وأنتم تعرفونه جيدا . ألا وهو مراحيض الغِسْلِين فى قاع سَقَر !

لقد كان التعدد هو شريعة الأنبياء إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم وابتدعوا أناجيل ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوا للسيد المسيح ، عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة السلام ، أقوالا وتشريعات ينقض هو فى بعضها أحكام التوراة ويفسِّرون هم بعضها الآخر بما ينقض التوراة ، ثم جاء بولس الكذاب اللعين فبَرْجَلَ النصرانية وشَقْلَبَ حالها . لقد ابتدأ حياته فى النصرانية بكذبة بائسة مثله وابتلعها القوم بما يدل على خلوّ رؤوسهم من العقل ، وإلا فهل يصدّق أى شخص عنده مُسْكَة من هذا العقل أنــه ، عندما شاهد نورا فى السماء قبل تحوله إلى النصرانية مباشرة  وسمع صوتا يسأله لماذا يضطهده ، كان سؤاله لهذا الصوت : من أنت يا رب ؟ ( أعمال الرسل / 9 / 3 – 5 ، و 26 / 14 -  15) . أأنا فى حُلْمٍ أم فى عِلْمٍ يا إلهى ؟ أهذا سؤال يُسْأَل ؟ إن هذا الكذاب قد أجاب فى السؤال على السؤال ، وإذن فما معنى السؤال ؟ لكننا لا ينبغى أن نطرح مثل هذا  السؤال ، لأن الأباعد لا يدركون معنى لمثل هذا الجواب أو ذاك  السؤال ، وإلا لكانوا قد تركوا النصرانية كلها بسبب بولس وما افتراه من جواب فى هيئة سؤال ! حلوة " من أنت يا رب ؟ " هذه ! دمّها مثل  الشربات : شربات الطُّرْشِى ، بل شربات الفسيخ !

لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء كما قلنا ، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد ، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط ، بل فى الطلاق ! يقول متى ( 19 / 3 – 12) : " ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين : هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة ؟ * فأجابهم قائلا : أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال : * لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا ؟ * فليسا هما اثنين بعد ، ولكنهما جسدٌ واحد . وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان * فقالوا له : فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى ؟ * فقال لهم : إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم ، ولم يكن من البدء هكذا * وأنا أقول لكم : من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى * فقال له تلاميذه : إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ لـه ألا يتزوج * فقال لهم : ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم * لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم ، ومنهم من خصاهم الناس ، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات . فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل " . هذا هو نص الكلام  الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا . ومن الواضح أن عيسى عليه السلام ( إن صدّقنا أنه هو قائل هذا النص ) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد ، إذ كان الكلام كله عن الطلاق . وإذا كان قد عرَّج  على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج ، فهذا أيضا لا علاقة لـه بالتعدد من قريب أو بعيد . أما قوله : " ذكرًا وأنثى خلقهم " فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو ، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها ، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور ، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة ، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة  كما تقول الإحصاءات السكانية . ولا ننس بالذات الحروب ، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء .

ثم جاء بولس ، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب ، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس ( 7 / 1 – 2 ) :  " أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ  للرجل ألا يَمَسّ امرأة * ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته ، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ لـه أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة   ( تيموتاوس / 1 / 12 ). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية : فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى ، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر  والأنثى ، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها ، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف . ولو أن نصائح بولس الغبية هذه قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة ! إن هذه النصائح المجنونة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية ورجال الكنيسة إلى المرأة والجسد الإنسانى ، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء لـه بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل  ( تكوين / 3 / 6 – 24 ) ، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا ، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء  فقط ، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد( الروم / 21 ) لا علاقة العداوة والبغضاء. ولقد كانت النتيجة ، وهنا وجه المفارقة ، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية . ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء . لكن من  الممكن ، ومن المطلوب أيضا ، ترويضها والسمو  بها إلى أقصى قدر ممكن ، وهذا ما يفعله الإسلام . ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة ، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور . وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض ! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين ، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود  النصرانية المُعْنِتَة .

وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة ، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى ، فشأنه إذن  كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة ، فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية ؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء ، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة  فى هذا ، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم ، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق مَثَله مثَل أى شىء آخر . ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة ؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط ، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء . وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام ، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية . فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما ، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط ؟ إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون ، لكنْ طلاقًا غير رسمى ، وهم يسمونه : " انفصالا " . وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين ، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة ، تحت ضغط  الغرائز ، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام ، فلماذا كل هذا الإعنات ؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق ؟ إن الطلاق شديد  البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله ، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى . ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا ، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية .

كذلك يسىء الأوغادُ الأدبَ مع سيدنا رسول الله ، إذ يتهمونه بالكفر والقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم . افترَوْا ذلك عليه فى أكثر من سورة من سورهم المزيفة الكاذبة التى أوحى بها الشيطان إليهم فى أدبارهم كـ " سورة القتل " و" سورة الماكرين " و" سورة الطاغوت " و" سورة المحرِّضين " و" سورة الملوك " ، زاعمين أن دينهم يقوم على المحبة والسلام ! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح لم يمض عليه فى النبوة  أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا ، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم . كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة ، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام ، وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد   المسيح ، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا ، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم . فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا ، من مثل قوله لأحد اليهود :  " يا مُرَائى " ( متى / 7 / 5 ) ، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته : " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم "    ( متى / 7 / 6 ) ، وقوله لبعض الفَرّيسيّين : " يا أولاد الأفاعى "  ( متى /  12 / 3 ) ، وقوله لأهل كورزين وصيدا : " الويل لك يا كورزين ! الويل لك يا بيت صيدا ! " ( متى /11 / 21 ، ولوقا / 10 / 13 ) ، وقوله لمن طلبوا منه آية : " إن الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية " ( متى / 12 / 38 ، و 16 / 4 ) ، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها : " ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب " ( متى/ 15 / 26 ) ، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه حسبما أشرنا من قبل : " اذهب خلفى  يا شيطان " ( متى / 16 / 23 ،  ومرقس / 8 / 33 ) ، وقوله لحوارييه : " أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون ؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء ؟ * لكم أعين ، أفلا تبصرون ؟ ولكم آذان ، أفلا تسمعون ولا تذكرون ؟ " ( مرقس/ 8 / 17 ) ، وقوله  لبعض الفَرِّيسِيّين :   " أيها الجهال ... ويل لكم أيها الفريسيون " ( لوقا / 11 / 39 – 50 ) ، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر : " هذا الثعلب " ( لوقا/ 13 /    32 ). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد ( مرقس/ 12 / 15 – 17 ) ، وكذلك قوله لحوارييه : " أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا * أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه ، والابنة عن أمها ، والكَنَّة عن حماتها " ( متى / 10 / 34 – 35 ) ، وقوله أيضا فى نفس المعنى : " إنى جئت لألقى على الأرض نارا ، وما أريد إلا اضطرامها " ( لوقا /  12 / 44 ) .

من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست  حقيقية ، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا  بها . ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام ، فهو نبىٌّ  كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به ، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين ، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين ، وربما غير المجرمين أيضا، مع أن المسيح عليه السلام  لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثا لا غير . بل إنهم ، فى سِيَره التى ألفوها وأطلقوا عليها : " الأناجيل " ، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام : من ذلك أنه ، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم ، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام ، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا : " إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها "   ( لوقا /  8 / 19 – 20 ) ، وحين دعت لـه امرأة بأنْ " طُوبَى للبطن الذى حملك وللثديين اللذين رضعتهما " ردَّ فى جفاء : " بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها " ( لوقا / 11 / 27 –28 ) . وليس لهذا من معنى ، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا ، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها ! وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل ، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك ، فأجابها فى غلظة : " ما لى ولك يا امرأة ؟ " ( يوحنا / 2 / 1-  3 ). إننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك ، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ ( مريم / 32 ) ، فكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته ! على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب ، بل إنهم ليصورونه ، عقب مقتل النبى يحيى ( الذى كان أبوه زكريا يكفل مريم عليها السلام ، والذى تعمّد هو على يديه  فى نهر الأردن ) ، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر ، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل ، وكأن شيئا لم يقع  ( متى/ 14 / 12 وما بعدها ، ومرقس / 6 / 28 وما بعدها ) ، وهو ما يدل على تحجر الإحساس ، أستغفر  الله ! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع ، ورأى شجرة تين هناك ، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله ، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا ، فيبست التينة  لوقتها ، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان ( متى / 21 / 19 وما بعدها ، ومرقس / 11 / 12 وما بعدها ) . وإن الإنسان ليتساءل : كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان ؟ وما ذنب التينة يا ترى ؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها ؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحلم والوداعة ؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة  ، وخلاصته أن رجلا كانت لـه شجرة تين مغروسة فى كَرْمه ظلت لا تثمر ثلاث سنين ، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها ، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر ، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته ( لوقا / 13 / 6 – 9 ). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم . فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة ، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته ؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم ، عليه وعلى ابن مريم  السلام ، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا ، وظل هكذا ، لا ثلاث سنوات فقط مثله ، بل ثلاثة وعشرين عاما !

أما فى المدينة فقد كانت هناك دولة ، ومن ثم كان لا بد أن تجد نفسها منغمسةً فى حروب عاجلا أو آجلا شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة . أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول ، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء ، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد ! ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة  كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه ؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك ! هذه تشنجات لفظية لا أكثر ! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا ! حتى الصَّلْب ، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة ، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن ، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم  والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى . بل إنه ، وهو فوق الصليب ، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة . وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم !

وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية ، أما على مستوى الحُكْم فلا ، لأن عيسى عليه  السلام ، كما سبق أن  وضّحت ، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام ، ولم يتولَّ أى منصب إدارى ، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم  كرسولنا الكريم . ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون ؟ وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم  ، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله  الكريم : " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ( النساء / 59 ) يتناقض مع قوله جل  شأنه : " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " ( الزمر/   39 ) ، إذ يتساءلون : كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس ، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد ؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى ، وسخروا منه وتطاولوا عليه ( سورة المشركين/ 5 –6 ). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء  " هو الحكم فى خصومات الدنيا ، وهو من مهمة النبى عليه السلام ، بخلاف الحكم فى   آية " الزمر " ، التى تتحدث عن الحساب الأخروى ، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد . فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء ، بيد أن البهائم لا يفهمون !

كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة لـه عند كل من لـه أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية ! ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة ، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما . وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد ، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا . ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك . لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية : حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة  أبيهم تقريبا ، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر ، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه ! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت ! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب ، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية ، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا ، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله . والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة  لا غير ، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى عند اللزوم من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو ... أو ... أو ... ! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض ، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية ، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف ، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا .

ولا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة ، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على  بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد ، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان . وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم ، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب . وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة ، ودون شقشقة لفظية أيضا ، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن : " تحرُّج الضمير " ، إذ لمّا  كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة . وفضلا عن هذا فإن المسلمين ، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة ، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية ، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم .

 ومع ذلك كله  يُبْدِئ الشياطين مزيفو " الضلال المبين " ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية : " وحَمَل الذين كفروا على عبادنا بالسيف فمنهم من استسلم للكفر خوفَ السيف والرَّدَى فآمن بالطاغوت مُكْرَهًا فسَلِم وضلَّ سبيلا * ومنهم من اشترى دين الحق بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلا * ... * وزعمتم بأننا قلنا : قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون صُغْرا " ( سورة الجزية / 5 – 6 ،  12 ) .

والملاحظ أن الشياطين يخلطون عن عمد بين القتال والقتل ، فالآية  تقول : " قاتلوا " لا " اقتلوا " ، والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى . ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم ، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتدخلون فى شؤون الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا ، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة ، وإلا ضاع كل    شىء . كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاجتياح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب ! وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا " الجزية " ( هكذا بالنص ) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، حسبما قال لهم المسيح حرفيا ( متى / 22 / 17 – 21 ، و 12 / 24 – 25 ، ومرقس / 12 / 14 – 17 ) . كما أن بولس ، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه ، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن ، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم ، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها ، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر :  " لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من  الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله * فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم * لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا * لأنه خادمُ الله لك للخير . فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر * فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا * فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه * أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ، والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن لـه المهابة ، والكرامة لمن لـه الكرامة "( رسالة القديس بولس إلى أهل رومية / 13 / 1 – 7 ) .

وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية ، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم ؟ أَكُلُّ هذه الضجة لبغضكم القتّال لدين محمد بسبب فضحه لوثنياتكم وتثليثكم وبسبب كَسْبه القلوبَ المتعطشةَ لنور التوحيد واستقامة العقل  والضمير ؟

وربما يسأل أحدٌ نفسَه : ولكن لماذا كان حكم النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك ؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية ، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح ، الذى رأيناه هو وحوارييه ، على العكس من ذلك ، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء . وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا .

وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل ، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير . وهذا أمر طبيعى لأنها مؤسسة على التفكير الخرافى ، إذا صح وصف الخرافات بأنها   تفكير ، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه . ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه . فهذا هذا ! ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية . ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب . جاء فى " سفر تثنية الاشتراع  " : " وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم * فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك * وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها * وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف * وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك ، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك * هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا * وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة * بل أَبْسِلْهم إبسالا ... "  ( 20 / 10 – 17 ) .

هذا مثال من  التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص  ( والمحبة والتسامح والتواضع أيضا من فضلك ! ) متى واتتهم الظروف  كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا ، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا ، وكما حدث كذلك فى  فلسطين ، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات . على يد من ؟ على يد النصارى أنفسهم ، وليس على أيدى العرب  والفلسطينيين ! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو  أخلاق ؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم ، وليس بحجة أن الله قد أعطانا بلاد الآخرين    والسلام ، استلطافا منه لنا ! أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله ، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل ، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم . أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال لـه فى الإسلام ! ومع ذلك كله يظل هؤلاء المناكيد يرددون أكاذيبهم عنا وعن قسوتنا وإكراهنا غيرنا على الدخول فى ديننا ... إلى آخر تلك المفتريات  اللعينة . ولكن ما وجه الغرابة فى هذا ، وقد اجترأوا على الله نفسه فصنعوا كلاما سمجا كله كفر وقلة أدب وسفاهة وتطاول على رسول الله ، ثم ادَّعَوْا أنه من عند رب العالمين ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يطمئن له عاقل ذو ضمير ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يكون فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ؟ وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية" الجزية " فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا ، فإنها تكذِّب الأوغاد المجرمين مخترعى الوحى المزيف وناسبيه لرب العالمين كفرًا منهم وإلحادا ، إذ يزعمون أن الرسول هو الذى اخترع  " الجزية " من عنده وأنها لم تنزل من السماء!

وكما يُبْدِئ الأوغاد المجرمون ويُعِيدون فى الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف رغم أنهم هم الذين نشروا دينهم بالسيف والكذب والخداع واستغلال السذاجة عند الشعوب البدائية ... إلخ ، فكذلك نراهم يُبْدِئون ويُعِيدون فى الإزراء على الجنة ونعيمها  كما صورها القرآن الكريم ، مدَّعين أنها جنة مادية شهوانية لا تليق بالناس المتحضرين أمثالهم من أصحاب الروحانيات والخلق السامى الكريم ! عجيبٌ أمر هؤلاء الأوغاد عجيبٌ عجيب ! أية روحانيات يتحدثون عنها ، وقد نزلوا بربهم من عليائه إلى دنيا البشر المادية فتجسَّد وأكل وشرب وتجرع الخمر وصنعها آية لضيوف حفل قانا الجليل وتبول وتغوَّط وتألم وحزن ولُعِن وشُتِم وضُرِب وأُهِين وحُوكِم وصُلِب ، ثم مات أيضا " فوق البيعة " كيلا يكون أحدٌ أحسن من أحد ؟ أَوَبَعْد أن جسَّدتم الله تواتيكم نفوسكم على التظاهر بالاشمئزاز من جنة المسلمين قائلين إنها جنة مادية ؟ وماذا فى الجنة المادية ؟ ألا تحبون الأكل ؟ ألا تحبون الشرب ؟ ألا تحبون الجنس ؟ ألا تحبون التمتع بالظلال والجمال والهدوء ؟ ألا تحبون أن تستمعوا إلى الأصوات العذبة الجميلة ؟ ألا تحبون راحة البال وسكينة النفس بعد كل هذا القلق الذى اصطليناه فى الدنيا ؟ إن من  يقول : " لا " لأى من هذه الأسئلة لهو ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشِرٌ عريقٌ فى النفاق والدجل ! فما الحال إذا عرفنا أن هذه المتع الفردوسية ستكون متعا صافية مبرَّأة من كل ما كان يتلبَّس بها على الأرض من نقصان ونفاد وملل أو كِظَّة وغثيان أو قلق وآلام وأوجاع وإفرازات وعلل وتعب وكدح وصراع وخوف ، وكذلك من كل ما كان يعقبها من إخراج وتجشؤ وفتور وإرهاق ونوم ومرض ... إلخ ؟ لقد ذكر القرآن المجيد أنه فى العالم الآخر سوف " تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ " ( إبراهيم / 48 ) ، وأن أهل الجنة " لا يَمَسّهم فيها نَصَبٌ ، وما هم منها بمُخْرَجين " (الحجر/ 48) ، وأنهم سيَبْقَوْن " خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلا " ( الكهف / 108 ) ، وزاد الرسول الكريم فى أحاديثه الأمر بيانا فأوضح أن هذه المتع ستكون متعا خالصة تماما لا يكدّرها مكدِّر عضوىّ أو نفسىّ . فما وجه التنطع والاشمئزاز الكاذب إذن ؟ لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف  لذائذها ، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة ، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء !

أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة ؟ أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى  الجنة ، لكنْ مصفَّاةً  مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب ، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم ، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس ؟ إن هذا ، وَايْمِ الحق ، لَنِفاقٌ أثيم !

سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان ، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق  مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل  سافلين . وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال ؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية ؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب ؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟  كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها ، لأن هذا من شأنه أن  يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه .

أمّا ، ونحن لا نقول بهذا ، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض ! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر . ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية . ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد ، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه ، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية ، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا . المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام !

لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " ( متى / 22 / 23 – 30 ) ، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده  إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر ، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة ؟والسؤال ، كما هو جلىٌّ بيِّن ، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا ، كما جاء فى القصة ، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث . وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة ، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم ! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج ، فنحن لسنا فى الدنيا ، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية . وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة . فهذا شىء ، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء  آخر . وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر ، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج ،  وقد تتم دون زواج . ومتع الجنة ، كما أشرنا آنفا ، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا منه فى الدنيا ، ومن ثم فلا خِطْبة ولا مهر ولا زواج  بما يعنيه كل هذا من استعدادات وتكاليف ، فضلا عن أن تكون هناك صراعات بين عدة رجال مثلا على الفوز بامرأة جميلة كل منهم واقع فى غرامها ولا يهنأ لـه عيش إلا بالزواج منها ، أو بين عدة نساء على الفوز برجل غنى وسيم كلهن مدلَّهات فى هواه فلا تروق لهن الدنيا إلا بالاقتران به .

ومما يؤيد كلامى أن المسيح نفسه فى الفقرات التى سبقت  جوابه على سؤال اليهود ، حين أراد أن يوضح ملكوت السماوات ، وهو ما يقابل الجنة عندنا ، ضرب لمستمعيه مثلا من عُرْسٍ أقامه أحد الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً  " على كيفك " قُدِّمَتْ فيها الذبائح والمسمَّنات ، وحضرها المدعوُّون وقد لبسوا الحلل التى تليق بهذه المناسبة   السعيدة . فعلام يدل هذا ؟ وهل يختلف يا ترى عما نقوله نحن عن الجنة ؟ أَوَلَمْ يقل المسيح ( مرقس / 14 / 25 ، ولوقا / 22 /  18) إنه سيشرب عصير الكرمة فى ملكوت الله  جديدا ، أى على نحو آخر غير ما كان عليه فى الدنيا ، وهو ما يقوله الإسلام ؟  أولم يقل لتلاميذه إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته فى الملكوت( لوقا / 22 / 29 – 30 ) ؟ فما الفرق بين الشراب والطعام وبين الجنس ؟ أليست كلها متعا من متع هذه الدنيا التى تتأففون منها نفاقا ورياء ، وأنتم غارقون فيها ، لا إلى أذقانكم فقط كما يقول التعبير المشهور ، بل إلى شُوشَة رؤوسكم ؟ ثم إننا لا ينبغى أن ننسى أن السيد المسيح ، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ النبى يحيى ، كان عزوفا عن النساء لأسباب خاصة به قد يمكن أن نجد لها إيماء فى كلامه عليه السلام عن أولئك الذين خصاهم الناس أو خَصَوْا هم أنفسَهم أو كانوا مَخْصِيِّين خِلْقَةً  مما مَرَّ بنا  من قبل . ثم أين كان آدم وحواء فى بدء أمرهما ؟ ألم يكونا فى الجنة ؟ فماذا كانا يفعلان هناك ؟ يقول كتابكم المقدس إن هذه الجنة كان فيها أشجار حسنة المنظر طيبة المأكل ، وإن الرجل يترك أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسدا واحدا ، وإن آدم وزوجه كانا عريانين لا يشعران بخجل ، وإن الله قد ضمن لهما الخلود فيها... إلخ  ( تكوين / 2 / 8 –  9 ، 24 ) . فما معنى كل هذا ؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملان فى الجنة ؟  أكانا يكتفيان بتمضية وقتهما فى التأملات الروحانية واضعَيْن أيديهما على خدودهما ليلا ونهارا ؟  كذلك يتحدث بولس فى رسالته الأولى لأهل كورنتس  ( 15 / 35 فصاعدا ) عن " الأجساد الأخروية " التى لا تعرف الفساد ولا التحلل والتى يسميها أيضا بـ " الأجساد السماوية " و" الأجساد الروحانية " . وفى السِّفْر المسمَّى بـ " رؤيا القديس يوحنا " وَصْفٌ مفصَّلٌ لكثير من متع الفردوس وعذابات الجحيم ، وكلها مادية كالمتع  والعذابات التى نعرفها فى دنيانا هذه ، مع التنبيه بين الحين والحين إلى أن كل شىء من هذه الأشياء سيكون جديدا ولا يجرى عليه ما كان يجرى على نظيره فى الأرض من فساد ونقصان ، وهو ما لا يختلف عما قلناه ، فلم التعنت إذن ومهاجمة الإسلام نفاقا وحقدا ؟

وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم "  كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم  فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى  دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه . وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى  المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب!

وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .

وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى  سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة  " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .

وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال  للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله   الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره !  كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة  ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !

هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين  هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة . كيف ذلك ؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده   سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط  نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة  " ر ج  و " على صيغة   " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو  :   " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ،  يملك " .

 كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(فـ)ـرأيتم...؟" ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد   التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله   تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين  " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟  وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .

وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله  كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم  السفهاء / إنه هو التواب  الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب  الرحيم /  إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم  الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون /  وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم  العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً  " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .

مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت  فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام . وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن  كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .

ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة  ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع  ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحـــديث إلى المـدح بـدلا من الــذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ /  26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك  الباب . ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة  كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ  لا  يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه ! ومن ذلك  أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه  المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن  " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة لـه "، ومرة : " فعلا   وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .

ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها لـه يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف  " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان لـه ما  أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته  إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم  بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟ مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل  أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !

وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة ! أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟ ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها  كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !

إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ   شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق . ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال  مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى  سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب لـه عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد!  كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم  دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم  يُكْتَب لـه أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين لـه مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا لـه وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .

لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ لـه إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك ! طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ! ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء ! أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار.لكن هذا شىء ،والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما.وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت!