أفكار في الإصلاح والتغيير (5)
أفكار في الإصلاح والتغيير (5)
قانون العمل الجماعي
د.فواز القاسم / سورية
إن العمل الجماعي ، سواء أكان في ميادين السياسة ، أو الاقتصاد ، أو الاجتماع ، هو من أهم ضمانات النجاح والتفوق في الأمة ، ولقد حثَّ المنهج القرآني ، على أسلوب العمل الجماعي ، واعتبر أن يد الله مع الجماعة.
ومن يدرس السيرة المطهرة يجد كيف أكد القرآن على ضرورة الهجرة والالتحاق بالتجمع المؤمن ، لكل من يدين بالولاء لهذا الدين ، واعتبر ذلك من لوازم الإيمان الحق .
بينما عاب على من يكتفون بالإيمان السلبي ، دون حركة عمل جمعيّة موحّدة ، وذكر العلة في ذلك ، كون المشركين وأهل الباطل أنفسهم ، لا يمارسون باطلهم بشكل فردي ، بل بصورة جماعيّة (( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذين آووا ونصروا ، أولئك بعضهم أولياء بعض ، والذين آمنوا ، ولم يهاجروا ، ما لكم من ولايتهم من شيء ، حتى يهاجروا. وإن استنصروكم في الدين ، فعليكم النصر ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما تعملون بصير ، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض ، وفسادٌ كبير)) الأنفال (73) .
أي إن لم يوالِ بعضكم بعضاً ، ويقوِّ بعضكم بعضاً ، فسوف يقوم الكفارُ ، والمشركون ، الذين يتصفون بكل تلك الصفات، بفتنة المسلمين ، وإفساد الأرض .
وإنني أعتقد أن أروع صيغ العمل الجماعي في الأمة ، عندما تتعاون ( المدارس الفكرية ) مع ( المؤسسات التنفيذية ) ، أي تعاون السلطتين (الفكرية والروحية والتشريعية) مع (التنفيذية والتطبيقية) .
وأعني بالمدرسة الفكرية ، تلك المؤسسة المغيّبة اليوم عن ساحة التأثير في الأمة ، والتي أسأل الله لها الولادة في أسرع وقت ممكن ، والتي أقترح لها أن تجمع نخبة من ( العباقرة ، والأذكياء ، وأولي الألباب ) في الأمة ، من الذين لا تقلُّ معدلاتهم في الثانويّة العامة ، عن (95%) ، ثم يجري إعدادهم إعداداً فائقاً ، يؤهِّلهم لتسلّم مهمات القيادة الفكرية ، وإفراز (الحكمة النظريّة ) ، وابتكار الستراتيجيّات اللازمة في جميع ميادين الحياة ، والسهر على تطويرها ، حسب متطلّبات الزمان والمكان .
أما المؤسسات التطبيقية ، فتكون مهمة كل منها ، إفراز ( الحكمة العمليّة ) ، أي تنفيذ الجزء المتعلق بميدانها ، من الستراتيجيات والبرامج والخطط التي تفرزها المدرسة الفكرية ، في كافة الميادين التربوية ، والعسكرية ، والسياسية ، والزراعية ، والتجارية ، والصناعية ، والعلمية ، وغيرها …
والعلاقة بين ( المدرسة الفكريّة ) و ( المؤسسات التنفيذية ) ، تشبه تماماً العلاقة القائمة بين القلب والدماغ من ناحية ، وبين الأطراف والأعضاء الخارجية ، من ناحية أخرى .
ففي حين يقوم الدماغ بالتفكير والتخطيط والتقويم ، ويقوم القلب بضخ الدم والغذاء اللازم لبعث القوة ، وإشاعة الحياة ، وتفجير النشاط ، في جميع أجزاء الجسد ومكوناته وأنسجته وخلاياه .
فإن الأطراف والأعضاء الخارجية تقوم بمهمة التنفيذ وتحويل الصور الذهنية ، والمشاعر القلبية ، إلى حركات وأفعال وممارسات .
وكما يتخذ كل من القلب والدماغ مكانهما في أمنع التجاويف الداخلية وأحصنها من الجسم ، خوفاً عليهما من أن يصيبهما شيء من الصدمات أو الأضرار ، فيمنعهما من أداء دورهما كما ينبغي .
فكذلك ( المدرسة الفكرية ) يجب أن تأخذ مكانها في أمنع مواقع الأمة وأحصنها ، بعيداً عن مواقع الكبت ، والملاحقة ، والأذى ، والاعتقال . وبعيداً عن مواقع الصراع ، والتنافس ، والتناقض .
والقرآن الكريم ، يوجه لهذه العلاقة بين المؤسستين في قوله : (( فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلَّهم يحذرون )) التوبة (122)
وبغض النظر عن الخلاف الذي حصل في المقصود من الفئة المتفقِّهة ، هل هي الفئة الجالسة للتخصص ، أم هي المتحركة بحركة الدين ، والمجاهدة في سبيل العقيدة ، فإن النتيجة هي إفراز وتعاون الطائفتين أو المدرستين :
1. المدرسة الفكرية : ومهمتها (إنذار) الأمة وتبصيرها (( ولينذروا قومهم )).
2. والمدرسة التنفيذية : وهي التي تتولى إجراءات (الحذر) والتنفيذ (( لعلهم يحذرون )) .
وحين تغفل الأمة عن العناية بالمدرسة الفكرية فيها ، ولا تتوفر الأجواء والوسائل اللازمة لقيامها بعملية المراقبة والهيمنة على المؤسسات التنفيذية ، فإن واحدة أو أكثر من المضاعفات التالية ستحصل لا محالة :
1. ضياع المؤسسات التنفيذية ، وهيامها على وجهها دون إرشاد أو توجيه ، وخضوعها بدلاً من ذلك لنزوات الأفراد والأهواء ، أو تقليدها الأعمى لمؤسسات قائمة في مجتمعات أخرى ، تختلف في عقائدها، وحاجاتها ، وشواغلها ، وظروفها ، وأولوياتها .
2. غربة العباقرة والموهوبين وأولي الألباب ، الذين لا يجدون في بلدانهم ، مدرسة فكرية ، تضمهم ، وترعاهم ، وتفجر طاقاتهم وإبداعاتهم ، فإذا ما أحسّوا بالغربة والوحشة والفراغ الفكري ، فإما أن يهاجروا إلى مجتمعات أخرى يزدهر فيها الفكر والإبداع ، أو يلجؤوا إلى التعبير عن ذاتهم بتجميع الأتباع ، وتكوين الأحزاب ، وإنشاء الجماعات ، وبالتالي دفع الأمة إلى المزيد من التشرذم والتشظي .!
ومن يرزقه الله نعمة النظر في السيرة المطهّرة ، يجد كيف وصل مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى أعلى آفاق العزّة والمجد ، عندما تطابقت المؤسستان ( الفكرية ) و ( التنفيذية ) ، في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي أشخاص خلفائه الراشدين من بعده ، فلما افترقتا فيما بعد ، نزلت بالأمة ما لا يخفى من المصائب والنكسات ، والتي لم تبرأ منها ، إلا بعد أن عادتا إلى الوحدة من جديد ، وذلك في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ، حيث تعاونت وتكاملت المدرستان الرائدتان ( المدرسة الفكريّة ) بقيادة العالِمين المجدِّدين ، أبي حامد الغزالي ، وعبد القادر الكيلاني ، رحمة الله عليهما ، و ( المؤسسة التنفيذية ) ، بقيادة آل زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي ، رحمة الله عليهم أجمعين .
ولقد كانت جميع الهزائم والكوارث التي نزلت بالأمة في العصر الحديث _ فيما نرى _ نتيجة لازمة لغياب (المدرسة الفكرية ) ، الذي تمثل في جمود الأزهر وأمثاله من المؤسسات العلمية والفكرية في العالم العربي والإسلامي ، وتخبط المؤسسات التنفيذية ، المعرّاة من أبسط قوانين الأمانة والقوّة والترشيد ...!!!
ولذلك فإن أولى فقرات العلاج الصحيح للواقع الذي تحياه الأمة اليوم ، يجب أن يقوم على إيجاد ( علماء ) و ( فقهاء ) في الأمة ، من العباقرة والأذكياء وأولي الألباب ، ممن لا تقل معدلاتهم في الثانوية العامة ، كما ذكرنا ، عن (95%) . ليتسلَّموا القيادة الفكرية من أولئك الأغبياء والخطباء ، الذين حصّلوا في الثانوية العامة ( 49+1) ، ونجحوا منها بقرار ، ثم ساقتهم الظروف المغلوطة ، في غفلة من الزمن ، إلى مواقع القيادة والريادة والقدوة في العمل العام ، وهم لا يستأهلون أكثر من مدرِّسي ابتدائي ، ومعلِّمي أطفال .!!!
فتعاملوا مع الأمة ، وقضاياها المصيرية ، بنفس عقلية التلاميذ الذين يدرِّسونهم ...!!!
وبناءً على ذلك ، فقد بددوا الجهود ، وأضاعوا الأعمار، وبذّروا الأموال ، وأخفقوا في تحقيق الكثير من أهداف الإسلام، ثم أقنعوا الآخرين بعدم المبادرة إلى محاسبتهم .!!!
لأن عليهم العمل –حسب زعمهم –وليسوا مسؤولين عن النتائج .!!!
وهكذا فقد رفعوا شعار ( العمل من دون طلب النتائج ).!
فكانوا ، والحالة هذه ، يقودون الأمة من فشل إلى فشل ، ويدفعونها من مأساة إلى مأساة ، مع عدم وجود آلية لمساءلتهم ، وعدم وجود من يتجرأ على محاسبتهم .!
وفي المقابل ، نجد سر قوة ونجاح الأعداء ، يكمن في تكامل وتعاون (المؤسسات الفكرية) مع (المؤسسات التنفيذية) ، واعتماد رجال التنفيذ في المؤسسات السياسية والإدارية وغيرها من المؤسسات التنفيذية ، على ما يقدمه لهم رجال الفكر ، من أصحاب العقول النيّرة ، والذين تتفجر طاقاتهم المبدعة ، في أرقى المراكز البحثية ، والأكاديميات العلمية ، المتخصصة في جميع مجالات الحياة وفروعها .
ففي بلد كالولايات الأمريكية المتحدة ، مثلاً ، هناك حوالي تسعة آلاف من مراكز البحوث والدراسات المتخصصة في جميع مجالات الحياة ، العسكرية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية، والثقافية ، والتربوية ، وشؤون الدول ، وشؤون الأقليات ، والمعارضات ، والأحزاب ، والجماعات ، وغيرها …
وفي كل مركز من هذه المراكز ، هناك مئات الباحثين والمتخصصين، من الأذكياء والعباقرة ، وأولي الألباب ، من الذين كانوا أوائل صفوفهم ، منذ الدراسة الابتدائية ، وحتى أعلى المراحل الجامعية .
وفي الكيان الصهيوني ، هنالك تعاون وتكامل بين المؤسسات الفكرية والبحثية ، وبين المؤسسات التنفيذية ، بشكل محكم كذلك .
فلقد ذهب مرَّة البروفسور جبرائيل بيير ، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة العبرية ، إلى مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون ، ليحاضر في موضوع ( الأوقاف في الإسلام ) ، فتحدث لمدة عشر دقائق فقط ، قال خلالها ما ملخصه : إن الوقف في الإسلام ، أنواع : فهناك وقف ذري ، وهو الذي يهدف إلى عدم انتقال جزء من الميراث إلى البنات المتزوجات خارج العائلة . وهناك وقف الدراويش والصوفية ، الذين ينعزلون في زوايا خاصة ، يأكلون ، ويغنون ، ويرقصون ، وهناك وقف على الكلاب والحيوانات الضالة .
ومثل لهذه الأنواع ، بالأوقاف في القدس والخليل ، ثم خلص إلى القول بأن الوقف في الإسلام ، هو تعطيل لمساحات شاسعة من الأرض ، ووقفها على أغراض بسيطة ، ولذلك كثيراً ما عمد الحكام الأذكياء مثل محمد علي باشا ، وجمال عبد الناصر ، إلى إلغاء هذا الوقف ، والاستفادة من الأراضي الموقوفة المعطلة .
ثم انتهى البروفسور من محاضرته ، وفتح باب الأسئلة للحضور ، فانهالت عليه عبارات الاستغراب والاستهجان لهذا النظام الاقتصادي المتخلّف .! وكان بين الحاضرين ، أحد العرب الذين ينتمون إلى فئة (الخطباء الأغبياء ) ، من الذين لا تزيد معدلاتهم في التوجيهي عن (49+1) ، فضحك ساخراً من جبرائيل ، وممن منحه لقب بروفسور .!!!
طالما لم يجد في الإسلام إلا هذا الموضوع السطحي ، ليتحدث عنه بهذا الأسلوب المهلهل .
ولكن صاحبنا ، ما كان يدري أن بيير هذا ، هو ممثل ( المؤسسة الفكرية ) في الكيان الصهيوني ، ولقد كان يقوم بدوره بكل براعة ، ممهداً لرجال السياسة ، و ( المؤسسات التنفيذية ) لتضرب ضريتها ، وتطرق على الحديد المحمى ، وتقوم بدورها في مصادرة الوقف الإسلامي في فلسطين المحتلة ، وتحوله إلى مستوطنات جديدة ، للمهاجرين اليهود .
وعندما علم هذا (الخطيب ) بالحقيقة ، فغر فاه ، وقال : شياطين .! عفاريت .!!!
وللحقيقة نقول : بأن الكيان الصهيوني مليء بهؤلاء العفاريت ، الذين يعملون في الليل والنهار ، لتحقيق أهدافهم والوصول إلى غاياتهم ، بينما انتكست في عالمنا العربي والإسلامي المؤسسات الفكرية التي تخرّج العباقرة و (الفقهاء ) ، الذين يحسنون اكتشاف وتطبيق القوانين التي تسيّر علوم السياسة ، والعسكرية ، والاقتصاد ، والاجتماع ، والتربية ، وغيرها.
ورضي الله عن الصحابي الجليل ، عبد الله بن مسعود ، الذي قال :
( في آخر الزمان ، يكثر الخطباء ، ويقل الفقهاء ).