حرب غزة وقضية الأسرى رؤى وحقائق

فؤاد الخفش

باحث ومختص في شؤون الأسرى

لا يختلف اثنان بأنّ قضية الأسرى كانت هي المفجّر لجميع الأحداث الأخيرة التي حدثت في فلسطين، وهي التي فجّرت الحرب الأخيرة التي لم يتوقف أبطالها عن الحديث جهاراً ونهاراً وفي كل وقت أنّ هدفهم الأول تحرير أسراهم.

فمع إضراب المعتقلين الإداريين والذي استمر ستين يوماً، هاجت خلاله الجماهير وماجت تهتف وتنادي بحرية أسرانا، ولعلّ الشعار الأبرز لهذه الجماهير المعتصمة في خيام التضامن بالمدن الفلسطينية هو "يا قسام يا حبيب بدنا شاليط جديد" في رسالة واضحة أن خطف الجنود هو الطريق والسبيل لتحرير أسرانا .

لم يتوقف الأسرى من إرسال رسائلهم سواء كانت المكتوبة أو غيرها والتي كان مفادها بأن انتظارهم قد طال، فيما لم يتوقف قادة المقاومة عن التأكيد على وصول الرسائل وأن العمل جار لتحريركم فرسائلكم قد وصلت .

كل هذه الأحداث وهذا الجو كان هو المحرك لشباب الخليل المدينة التي شهدت أكبر حراك داعم مساند للأسرى في الضفة الغربية لأسر ثلاثة مستوطنين في ظل ظروف تعتبر غاية في التعقيد أدّت لرد فعل انتقامي من الاحتلال .

جن جنون المحتل فشن حملة اعتقالات كبيرة طالت قيادات وأسرى محررين، وناشطين ونواب ووزراء وأكاديميين، في محاولة منه للانتقام من الشعب الفلسطيني وقياداته على هذا الفعل .

وفي ظل كل ما سبق، لا بد من التوقف قليلاً والقول بأنه لأول مرة أشعر أن الأسرى المحررين غير نادمين على إعادة أسرهم واعتقالهم لأن الهدف هو تحرير الأسرى، وهذا ما سمعته بأذني ليس من الأسرى بل من عائلاتهم أيضًا .

ثار وجن جنون المستوطنين، فقاموا بأعمال انتقامية منها خطف الطفل محمد أبو خضير وحرقه وقتله الأمر الذي فجر غضب أبناء القدس والداخل والضفة، ورد الاحتلال على ذلك بقصف غزة التي انتفضت من أجل الضفة والأسرى والقدس، وكانت معركة "العصف المأكول".

لم يخف قادة المقاومة من اليوم الأول أنهم يسعون لتحرير أسرانا، فكانت قضية الأسرى حاضرة في جميع خطابات أيقونة هذه الحرب الملثم (أبو عبيدة) الذي كان يتوعد الاحتلال في حال شنوا حربا برية أن مصيركم الخطف، "أتعدنا بما ننتظر يا ابن اليهودية".

الحرب البرية قد حدثت بالفعل، وتوقفت معها عقارب الساعة في اتجاه قضية الأسرى، وحبست أنفاسهم وأنفاس عائلاتهم وأنفاس كل من يتابع هذه الحرب .

كانت العيون كل العيون تتجه نحو أسر الجنود وتحرير الأسرى، ومع كل عملية اشتباك من نقطة الصفر كنا نقف لنسمع الخبر المرتقب خبر الأسر إلى أن أتى ذلك اليوم الذي خرج فيه الملثم يقول: "إن "شاؤول آرون" هو أسير في قبضة المقاومة".

خرجت الضفة عن بكرة أبيها تهتف للمقاومة، وعاشت عائلات الأسرى أسعد اللحظات، وسجدنا في الشوارع إيه والله وسط الشارع سجدنا لله وقلنا "يارب".

قلنا "يا رب" وعيوننا كانت تنظر لعباس السيد، وحسن سلامة ومحمود عيسى، وجمال أبو الهيجاء، ورفاق قيدهم، وشعرنا بنشوة الانتصار بأن اللقاء بتحقيق الوعد بقرب الحرية قد حان، وكان الخطاب الأقوى، الذي أخرج الناس للشوارع ليوزعوا الحلوى ويتبادلوا التهاني، في فرح منقطع النظير، فلماذا هذا الفرح؟

لا أعرف قضية عليها إجماع وتحظى بتأييد وتعاطف كقضية الأسرى، قضية من أقدس القضايا لم تتلوث بالانقسام، وبقيت محافظة على مكانتها في قلوب الجميع، وهي الوجع في خاصرة القضية الفلسطينية، فهي قضية أرواح مأسورة، ونفوس يريد السجان قهرها وقتلها بكل الطرق والوسائل .

ما بين الخطاب والخطاب، وما بين الضيف وأبو عبيدة، وبعد عملية "ناحل عوز" التي تمكن المقاومون من الاشتباك من نقطة الصفر، وضرب أحد الجنود والانسحاب، آلاف التعليقات والكل حلل وجزم أن هناك جندي مخطوف مأسور رغم عدم تبني المقاومة لأي عملية أسر ولكن رغبة الناس الشديدة وسيطرة فكرة تحرير الأسرى هو السبب الأول وراء هذا التحليل، فمن تخيل شيئاً رآه في المنال، ومن فكر في قضية تراها تنعكس على كتاباته .

انتهت حرب غزة وعيون الأسرى وعائلاتهم وجماهير الشعب الفلسطيني تنتظر أي خبر أو كلمة، وأي شيء يطمئن ويبشر أن بين يدي المقاومة ورقة رابحة أي أسير، وبلغة الفلسطينيين "شاليط جديد"، وهنا كثرت وستكثر التحليلات والتي سأفرد لها مقال تحليلي خاص.

ما أريد أن أصل له من خلال هذه القراءة هو عمق قضية الأسرى لدى الكل الفلسطيني ابتداءً من المقاتل في الميدان، الذي استمات مرات عديدة كلفته الكثير من حياته مقابل تحرير الأسرى، وأن يحظى بهذا الشرف بأسر جندي لتحرير رفاق القيد .

فغرفة عمليات المقاومة كانت تحث الجند والقادة الميدانيين بضرورة تحرير الأسرى من حلال أسر الجنود، في حين أن قيادة المقاومة تقسم وتعاهد الأسرى وترسل لهم الرسائل أننا لن نترككم وسنسعى لتحريركم، وأنّ رسائلكم يجري العمل على تطبيقها وتنفيذها.

الشارع الفلسطيني الذي كان يحبس أنفاسه قبل كل صعود لأحد أيقونات الحرب "الملثمين"، لعل أحدهم ينقل لهم خبر مفاده أن جنديًا بين يدينا ينهي بذلك معاناة أسرانا.

ثقة الأسرى في سجون الاحتلال بشكل قاطع وكامل ونهائي بأن المقاومة والأسر هي الطريقة الوحيدة التي ستكون وراء تحررهم.

وبعد كل ذلك السرد والشرح سيكتشف القارئ أن الأسرى وقضيتهم هي المحرك الأول لهذه الحرب، وهي الشرارة الأولى التي كانت وراء تفجير هذه الأحداث، وأن إضرابات الأسرى وممارسات الاحتلال مع هؤلاء الأسرى وإضراباتهم المتتالية كانت الشرارة التي فجرت هذه الحرب.

وستبقى قضية الأسرى الملهم الأول للمقاتل والمقاوم في الميدان، والقائد الذي لا يترك الجند من خلفه وللشارع والشعب الفلسطيني الذي ينتظر ساعة انعتاق هؤلاء المناضلون من سجون الاحتلال.

وإلى أن تأتي هذه الساعة ستبقى معركة العصف المأكول خير شاهد على شعب وقادة، ومقاتلون لا يتركون أسراهم خلفهم، وستبقى شاهدة على حرص المقاتل والمجاهد الفلسطيني على تحرير رفيق نضاله المعتقل والمأسور، "ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا".