دعوة للقتل والفوضى

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

سأحكي لك القصة على عجالة، وسأترك لك الحكم في النهاية.

أتحدث عن قضية الشهيد الثائر، المقتول غدرا، الأستاذ "حمادة خليل" رحمه الله.

هل مر عليك هذا الاسم من قبل؟

لا بد أنه مر عليك، ولكنك نسيت، فكثرة القتلى، وتوالي الأحداث، تصيب الذاكرة بخلل أو شلل، أو كما قال أمير الشعراء :

اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي !

فما بالك إذا كان ليلا مليئا بأنات المعتقلين المعذبين، ونهارا مليئا بأصوات الرصاص وصرخات الشهداء !

قصة الشهيد "حمادة خليل" هي قصة الثورة المصرية مجسدة في شخص.

إنه شاب شهم، رجل بمعنى الكلمة، من مواليد 1978، بعد دراسته الجامعية، عمل بالتجارة، وبفضل الله ثم بإصراره وأمانته نجح.

"ابن بلد"، لم يتأخر عن مساعدة أي محتاج، دائرة معارفه الواسعة تشهد له بالخير، وتدين له بالفضل، إنه حلال المشاكل، و"كبير الحتة"، رغم أنه ليس كبيرا في السن.

بداية مشاكل حمادة خليل مع الشرطة كانت عام 2009، فقد اشتبك مع مندوب الشرطة المدعو "أحمد الطيب" بسبب إتاوات يفرضها الأخير على الناس، وانتهت القضية بغرامة 200 جنيه على كل منهما.

حين قامت ثورة يناير كان "حمادة خليل" رحمه الله في مقدمة الصفوف، ولا غرابة في ذلك، فهو نصير المظلومين.

حين جاء مرشح الفلول للرئاسة (أحمد شفيق) إلى إمبابة ليحاول تسويق نفسه مع شباب الثورة هناك، وقف له حمادة خليل وذكره بأنه جزء من النظام البائد، وقال له بكل ثقة (لن نضع يدنا في يد من دبر موقعة الجمل).

خلال أحداث ثورة يناير قتلت الشرطة ستة من شباب إمبابة، وكان من ضمن المتهمين بالقتل مندوب الشرطة اياه "أحمد الطيب"، بالإضافة إلى ضباط وصف ضباط القسم.

وقف حمادة خليل مع أهالي الشهداء، وحضر كل جلسات محاكمة هؤلاء المجرمين، وفي هذه الأثناء جاءته تهديدات كثيرة لكي يترك أهالي الشهداء وحدهم، ولكن كان موقف الثورة حينها أقوى، ولم يتمكن أي أحد من فعل أي شيء.

بعد ذلك حكمت المحكمة بالبراءة على جميع هؤلاء القتلة !

مندوب الشرطة القاتل قال في المحاكمة إن عمله في القسم لا يسمح له بحمل مسدس أصلا !

بعد أن كسبت الثورة المضادة جولة الثالث من يوليو 2013، بدأت الكفة تميل لصالح أجهزة الأمن.

ثم جاء اليوم الأسود، الأحد ١٣/٤/٢٠١٤، استيقظ حمادة خليل على استغاثة من زوجة أحد المحامين في امبابة، الرجل محتجز في القسم، ويحتاج إلى كفالة عشرة آلاف جنيه.

لم تجد تلك الزوجة رجلا شهما تلجأ له في مثل هذا الامر إلا حمادة خليل !

قام من فوره، وحمل المبلغ معه، وذهب إلى قسم إمبابة لكي يدفع الكفالة، هذا ما فعله الرجل الشهم، ابن البلد.

حين دخل قسم إمبابة رآه مندوب الشرطة سابق الذكر، فأسرع إليه يشتمه، ويهدده، وينهره، ويقول له (ما تعملش راجل .. الثورة اللي انت فرحان بيها خلاص ... خلصت)!

حين رد الشهيد على هذا الكلام التافه، أخرج مندوب الشرطة سلاحه، فهجم عليه الأمناء والضباط، أخذوا سلاحه، ولكن في نفس الوقت، ضربوا حمادة خليل برغم أنه لم يفعل شيئا، ورموه في حجز القسم.

لم يكن "حمادة خليل" يعرف أنه سيقضي في هذه الزنزانة عشر دقائق فقط، ولم يكن يعلم أنها الدقائق العشر الأخيرة في حياته.

لقد دخل عليه مندوب الشرطة الملعون، وأطلق عليه ثلاث رصاصات مع سبق الإصرار والترصد.

أطلق عليه رصاصتين، ومع الثالثة قال له : "ودي عشان تموت خالص يا با ابن الـــ...." !

جريمة مكتملة الأركان، مندوب شرطة، يقتل شخصا مسجونا في حجز قسم امبابة بلا تهمة، بسلاحه الميري، بثلاث طلقات، عمدا، أمام السجناء، بلا أي تردد.

ماذا فعلت وزارة الداخلية بعد ذلك؟

لقد حاولت التستر على الواقعة بكل أشكال الكذب والتدليس الممكنة، فقالوا إنه قتل في المستشفى، وليس في القسم، وقالوا إن القتيل "إخوان" !

وبدء مدير الأمن بترهيب الشهود، وصرفهم، وحاول إقناعهم بعدم جدوى شهادتهم، وأصبح واضحا أن الشرطة تريد "طبخ" الموضوع بحيث تكون القضية أن هناك شخصا ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين قتل أثناء مهاجمته قسم الشرطة !

جنازة الشهيد غَيَّرَتْ وجهة نظر وزارة الداخلية، لقد خافوا، ومن الطبيعي أن تخاف أي مؤسسة من جنازة يسير فيها عشرات الآلاف من أهالي إمبابة.

لقد صمم أهل الفقيد على أن تخرج الجنازة من إمبابة برغم تهديدات الداخلية، وحينها انقلب الموضوع لصالح الشهيد، لقد أرهبهم حيا وميتا !

بعد الجنازة بدأت تظاهرات في حي إمبابة تطالب بالتحقيق في القضية، وهذا بدوره أدى إلى احتجاز المتهم في أحد معسكرات الأمن المركزي، وأصبح الشهود في موقف قوي، وخابت كل تهديدات قيادات الأمن، وبالتالي تقدم الشهود وشهدوا بما حدث.

مع بدء جلسات القضية جاء فى تقرير الأمن العام المرفق (أن حماده خليل محبوب من جميع أهالي المنطقة، ولكنه يكره الشرطة، ويقوم بعمل ندوات لشهداء الحرس الجمهوري ورابعة وغير مؤيد ل ٣٠/٦)!

في أول جلسات القضية يوم الاثنين 18/8/2014 ذهب مئات من أحباب "حمادة خليل" إلى قاعة المحكمة، ولكن الغريب أن سكرتير الجلسة أخبرهم بأن القضية تم تأجليها بسبب فاكس من مدير الأمن يطالب بعدم حضور المتهم لأسباب أمنية، ولذلك فإن القاضي أمر بتأجيل القضية لعدم حضور المتهم.

حين حدث ذلك انصرف أهالي إمبابة، وبعد سويعات علم الجميع أن المتهم قد حضر إلى المحكمة، وأن القاضي قد حكم بالفعل من الجلسة الأولى، وفي دقائق، والحكم كان صادما (15 سنة)، هكذا بدون حضور أهله أو المحامين !

من أجل قتيل واحد من الشرطة يحكم على العشرات بالإعدام، رجالا ونساء، وأطفالا.

يحكم بالإعدام على مهندسين وأطباء، على طلبة جامعيين، يحكم بالإعدام على أناس تهمتهم (التحريض على القتل)، يحكم بإعدام المدنيين بالمئات، بلا أي حرج!

ولكن حين يقدم إلى العدالة مندوب شرطة، قاتل، مع سبق الإصرار والترصد، بسلاحه الميري، في داخل قسم الشرطة، لشخص أعزل، محتجز ظلما، رأينا الحكم في الجلسة الأولى (15 سنة)، مع أن أقل ما يمكن الحكم به هو المؤبد

لو رصدنا مليارات الدولارات من أجل إقناع الناس في مصر بالفوضى، وبتدمير الدولة، وبأنه لا أمل لهم إلا بأخذ حقوقهم بأيديهم ... لما استطعنا أن نفعل عُشْرَ ما فعله هذا المشهد، ولما تمكنا من إقناعهم مثلما تقنعهم هذه القصة ... قصة الشهيد بإذن الله "حمادة خليل"، ابن إمبابة الشهم الأصيل.

إنها دعوة للقتل والفوضى، ولا بارك الله فيمن يحاول جر البلد كلها إلى هذا المصير الأسود.

أكرر : النصر قريب بإذن الله، وهدفنا العدالة لا الثأر، وطريقنا القصاص لا الانتقام.