الديمقراطية كأداة للهيمنة
حسن أبو هنيّة
امريكا دولة مبدئية تريد تصدير مبدأها للخارج وطريقة نشر هذا المبدأ هو البلطجة والخراب ودمار الشعوب 0ع***
عندما تخلّت جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي عن منظومتها السياسية المتعلقة بالحكامة استنادًا إلى نظريات دولة “تطبيق الشريعة”، وذهبت في ممارساتها إلى استدخال الديمقراطية، كنهج سياسي في تدبير الشأن العام، لم تقدم لجمهورها سندًا فقهيًّا كافيًا يبرر مناط تحولاتها التاريخية، وتعاملت مع اختياراتها الفكرية كما لو كانت قدرية حتمية، دون تمييز نظري أو عملي بين الشرعي والكوني؛ ومع دخول العالم العربي حقبة “الربيع العربي”، كانت نتائج الانتخابات محسومة لصالحها بأغلبية كبيرة، وسط تراجع مهين للأحزاب القومية والليبرالية واليسارية، الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا داخليًّا وخارجيًّا حول مستقبل الدولة المدنية الديمقراطية.
وعلى الرغم من التطمينات المتكررة التي أصدرتها الأحزاب الإسلامية بخصوص التزامها بحدود اللعبة الديمقراطية، إلا أن المخاوف من انتكاسة الثورات العربية إلى سلطوية جديدة بقيت حاضرة في السجال والجدال والنقاش، نظرًا لغياب التجربة الإسلامية المعاصرة في الحكم، وضعف الخبرة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، تحت وطأة عبور مراحل انتقالية شاقة ومعقدة، في بلدان تعاني من أزمات بنيويّة تاريخية اقتصادية واجتماعية وثقافية. لكنّ قوى “الثورة المضادة” بأجهزتها القمعية والأيديولوجية لم تمهل حركات الإسلام السياسي ومراقبة سلوكها ومدى التزامها، وانقلبت على مسارات التحول الديمقراطي عبر الانقلابات العسكرية، المفارقة تجلّت كمأساة حين التزمت جماعات الإسلام السياسي بقواعد اللعبة الديمقراطية، في حين تحالفت معظم القوى الليبرالية والقومية واليسارية مع الديكتاتورية العسكرية.
كانت الديمقراطية تقبع في صلب البرامج التي تقدمت بها الأحزاب الإسلامية التي فازت في الانتخابات التي جرت عقب الثورات أمثال: حركة النهضة التونسية، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الحرية العدالة المصري، وحزب العدالة والبناء الليبي، وبقراءة البرامج التي تمكنت من خلالها الفوز بثقة وأصوات الناخبين في أول انتخابات شفافة ونزيهة تجري عقب ثورة “الربيع العربي”، فإنّ برامجها تتوافر نظريًّا على ضمانات تقطع مع الاستبداد والسلطوية الأحدية وترسخ لمنظومة جديدة من التعددية والحرية والعدالة والديمقراطية، وتكشف عن تحولات عميقة في التعامل مع سائر القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في إطار مرجعيتها الإسلامية، وهي مسائل شائكة ومعقّدة تندرج في إطار الجدل الأكبر المتعلق بسؤال العلاقة بين “الإسلام والحداثة”.
لقد دعمت الأنظمة الغربية لعقود طويلة النظم الاستبدادية العربية تفضيلًا للاستقرار على الديمقراطية بذريعة كونها ستجلب معها سلطوية دينيّة وأصوليّة عدميّة، وذلك في إطار قراءة استشراقية وثقافوية ترى في الإسلام كيانًا جوهرانيًّا معاديًا بطبيعته للحداثة والديمقراطية ومسكونًا بالعنف والاستبداد، ونظرت إلى تعدد الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية والجهادية باعتباره كميًّا لا نوعيًّا؛ إلا أن القراءة الغربية تؤشر على عمق الرؤية السياسية النفعية وليس المعرفية التفهمية.
إذ تمثل الديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية، وما يتعلق بها من مسائل عديدة كالحريات الأساسية، وإشكاليات الدمقرطة وشمولها وانتشارها واستثمارها، من أهمّ وأدق القضايا التي شغلت الفكر السياسي الإسلامي المعاصر طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي لا تزال مرشحة لمزيد من التنامي والتداول في المستقبل المنظور، تحت وطأة الثورات والانقلابات العربية المعاصرة، والتوترات الدولية الراهنة، وتبني الدول الكبرى منظومة من الأفكار والقيم تستخدم كسلاح مرئي في معاركها الحضارية، التي تسبق حروبها وحملاتها العسكرية أحيانًا، وتتستر خلفها للتمويه على ديمومة هيمنتها الاقتصادية والسياسية والأمنية إزاء الآخرين بكافة بلدانهم وقومياتهم أحيانًا أخرى.
منظّر “صدام الحضارات” صموئيل هنتنجتون كان يصرّ بأن الحروب الأمريكية المعاصرة التي شنت على الآخرين كانت من أجل الإصلاح والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان قبل كلّ شيء، ويؤكّد على أن الديمقراطية أحد أهم أسباب نـزاع الحضارات وصدام الكيانات الثقافية، إذ يقول: “وإذا كان صحيحًا على المستوى السطحي أن الحضارة الغربية تخللت حقًّا باقي العالم، فإن المفاهيم الغربية على مستوى أساسي بدرجة أكبر، تختلف بصورة أساسية عن تلك السائدة في الحضارات الأخرى؛ فالأفكار الغربية عن: الفردية، والليبرالية، والدستورية، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، وحكم القانون، والديمقراطية، والأسواق الحرة، وفصل الكنيسة عن الدولة، ليس لها عادة جاذبية كبيرة في الثقافات الإسلامية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والهندوسية، والبوذية، والأرثوذكسية”.
هذا التصور الغربي لمفهوم الديمقراطية وغيرها من قيم التحرر الغربي يجعلها مسألة ذات حساسية بالغة لدى المسلمين، ويحولها إلى قضية هيمنة ثقافية وسياسية وعسكرية في سياق التفكير الخارجي للغربيين، ويدشنها كقضية تحدّ حضاريّ ونزاع ثقافيّ معاصر بامتياز. فإذا كان الغرب ينظر إلى الديمقراطية على هذا النحو من الاستعلاء والاستغلال، فكيف يمكن للمسلمين أن ينظروا إليها باعتبارها قضية تحررية وثقافية واجتماعية وحقوقية، وإذا كان الغرب يرى في قضية الديمقراطية ساحة للنـزاع الثقافي والصدام الحضاري، فكيف يمكن للمسلمين أن ينظروا إليها باعتبارها مسألة فكرية وثقافية داخلية، لا من باب رفض بحثها فكريًّا، وإنما من باب وضعها في مكانتها المعاصرة الصحيحة، سواء على صعيد بحثها كقضية إسلامية بحاجة إلى اجتهاد إسلامي تجديدي، أو في سياق تناولها للتوصل إلى تفاعل حكيم مع الآخر وإنجاز حوار حضاري منتج، أو التعرف على الحجج الحقوقية للتدخل الخارجي.
هنتنجتون لا يقصر محاور الصدام الحضاري على الديمقراطية فحسب، وإنما من خلال الربط بينها وبين قضايا عديدة أخرى تنحصر في عشرة قضايا؛ وهي: 1ـ الفردية، 2ـ والليبرالية، 3ـ والدستورية، 4ـ وحقوق الإنسان، 5ـ والمساواة، 6ـ والحرية، 7ـ وحكم القانون، 8ـ والديمقراطية، 9ـ والأسواق الحرة، 10ـ وفصل الكنيسة عن الدولة، وهذه الأركان العشرة تشكل وحدة واحدة في الفكر الغربي، لا تنفصل عن بعضها، ولا تبحث إحداها بمعزل عن الأركان الأخرى، بل إن هذه القضايا العشر توشك أن تماثل الوصايا العشر في التراث الديني، وتكوّن في العقل الغربي أركان الدين العلماني الحديث، الذي تؤمن به الحضارة الغربية المعاصرة وتدعو إليه وتحاسب دول العالم الثالث على أساسه.
وإذا أراد المفكر الإسلامي أن يكون جادًّا ومعاصرًا في نفس الوقت، فينبغي عليه دراسة مفهوم الديمقراطية في العقل الغربي والبحث عن أسس فلسفته المعاصرة، فلا تكفي بدراسة الديمقراطية أو ما يقابلها من مفاهيم في الدين الإسلامي كالشورى والعدل وحرية الاختيار في مسألة الإمامة وغيرها؛ بل لا بد له من دراستها في إطار الفلسفة الغربية الحديثة، وفي سياق البُعد الدولي الخارجي. فالفكر الإسلامي لم تشغله هذه القضايا إلا بعد ظهور الفلسفة الغربية الحديثة، بل نذهب إلى القول: لو لم يكن الغرب يلوح بسيف الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ضد الدول الإسلامية التي لا تسير وفق برامجه، لما أخذت هذه القضايا هذا الاهتمام الدولي والإقليمي والوطني، ولو لم تتدخل هذه القضايا في الشؤون الداخلية لحياة المسلمين وتهديد بلدانهم، لما وجد الاهتمام الكبير من قبل علماء المسلمين ومفكريهم، في سبيل تقديم اجتهاداتهم وأبحاثهم ومؤلفاتهم في هذا المجال الحضاري المعاصر.
وقد عزز ذلك بصورة ملحّة منزلة الديمقراطية من الثورات العربية المعاصرة، الأمر الذي فرض مسألة الديمقراطية كمخرج وحيد للأزمات القائمة قبل الثورة وبعدها، فالفكر الإسلامي النظري والعملي لا يملك أن يكون في تفسيره وتأويله للديمقراطية معزولًا عن ظروف عصره وثقافته، كما لا يمكنه أن يكون معزولًا عن انعكاساتها الفكرية والتطبيقية في الحياة الغربية المعاصرة، سواء بالقياس عليها، أو في جعلها معيارية حضارية ملزمة في التقييم والاعتراف.
إذن، الإسلام بات في أسر الليبرالية، وتتمتع الديمقراطية بحضور كثيف في المجال التداولي العربي والإسلامي المعاصر، ومنذ دخول المصطلح الحقل الدلالي السياسي العربي الإسلامي مع عصر النهضة شهد قراءات تأويلية عديدة، فلا جدال بأن المصطلح منقول من المجال التداولي الغربي وهو من نتاج عصر الأنوار الأوروبي الذي استعاره من التراث اليوناني، فالديمقراطية بحسب مجالها الأوروبي والأمريكي تتوافر على عشرات التعريفات لدى مفكريها، وتطورت إلى العديد من النماذج الكلاسيكية كما بيّن ديفيد هيلد في كتابه “نماذج الديمقراطية”؛ كالديمقراطية الأثينية والديمقراطية الجمهورية والديمقراطية الليبرالية والديمقراطية المباشرة، وانحلت إلى مجموعة من الأنماط الديمقراطية الحديثة التي تناهض الديمقراطية الليبرالية التي عملت بصيغتها الجديدة على التوحد مع اقتصاد السوق المتوحش دون أدنى اعتبار لمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، وقد جاءت الاستجابة من داخل الفضاءات الغربية بطرح بدائل أكثر إنسانية لهذا النموذج من الديمقراطية، وبرزت أنواع جديدة كالديمقراطية الجمعانية، والديمقراطية التدولية أو التشاورية، والديمقراطية الكونية، وهذه الأخيرة يدعو اليها هيلد، وهي حيلة جميلة لإعادة الضبط والإخضاع والهيمنة الغربية.
وبهذا يمكن إدراك اتساع مفهوم الديمقراطية وديناميكيته وحيوته، فهو يتسم بالتحول ويبتعد عن السكون والجوهرانية، ومن هنا فالسؤال حول علاقة المفهوم بالإسلام يغدو مجانيًّا، فالخضوع لشروط المفهوم والتساؤل حول أوليته يعبر عن حالة تاريخية خضعت بموجبها دار الإسلام للسيطرة المباشرة أو الهيمنة الظاهرة، وهي الإشكالية التي حكمت فكر النهضة العربي إبان الحقبة الكولينيالية وأسفرت عن توجهاته الفكرية وخياراته الأيديولوجية ولا تزال تتحكم بالتيارات الإسلامية واجتهاداتها، فلا غرابة من الجدل والخلاف في أن تبين موقع الديمقراطية من الإسلام وصل حدّ القول بكفرها أو أسلمتها فضلًا عما بينهما من أقول وابتداعات واجتهادات، وعلى الحركات والجماعات والتيارات الإسلامية المعاصرة الخروج من مركب النقص التاريخي وعدم الاشتغال نضاليًّا بهواجس جرح الهوية النرجسي الذي حكم تنظيرها وسلوكها في إطار الدولة الوطنية، ومقاومة الهيمنة في ظل العولمة المتوحشة؛ فالنظر إلى استخدام الديمقراطية أيديولوجيًّا من قبل الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا في سبيل بناء شبكات إسلام معتدل يمثل سلاحًا يحمل على الانغلاق بحجة التغريب وفقدان الهوية، وقصر النظر على التراث الإسلامي والممارسة التاريخية يعوق الانطلاق والنهوض واكتشاف نماذج ديمقراطية إبداعية تستند إلى النصوص المعصومة.
الديمقراطية جميلة، وهي تعبّر عن نهج وليس أيديولوجيا بعينها، وإذا كانت تشكل ثقافة مخصوصة فمن جهة مفهومها، ومن جهة صياغتها في مواد قانونية دستورية، تحدد الصلاحيات الممنوحة لسلطات النظام، وتعمل على ضبط وظيفة الدولة كي لا تقصر في وظيفتها، ولا تتجاوز صلاحياتها، ولا تهيمن على النظام، ولا تستبد بالشعب، ولا تستأثر بالمال ولا بالثروة ولا بالسلطة، أما أن تصبح أداة أيديولوجية للهيمنة بيد الغرب أو الإسلاميين فضلًا عن العسكر فهي غاية في القبح.