العراق: عملية جراحية أم تجميلية ؟
العراق: عملية جراحية أم تجميلية ؟
د. ضرغام الدباغ
الأمين العام للمجلس السياسي العام لثوار العراق
تشهد الساحة العراقية تحولات مهمة، ليس بفعل التدخل السياسي / العسكري، بل وأيضاً بسبب تداخل عناصر داخلية وخارجية عديدة، في مقدمتها اعتراف متزايد، بأن النظام الذي أفرزه الاحتلال قد فشل فشلاً ذريعاً في إقامة نظام سياسي وطني محترم، مقبول من كافة مكونات الشعب العراقي وأن المرحلة المنصرمة منذ 2003 وحتى الآن قد انطوت على أخطاء فادحة أرتكبها أطراف الاحتلال من القوى الخارجية والداخلية المتعاونة معها، لذلك فإن هذه المرحلة قد سقطت ولا سبيل لإنعاشها أو إعادة النضارة إليها بعمليات تجميلية، أو مخدرة. وبداهة فإن مضاعفة جرعة القمع الميليشياوي لم يعد بعد تجربة دموية مريرة حلاً ناجعاً، فالمطلوب إذن حلول جذرية، هذا إذا كانت الأطراف تريد تفادي سقوط بغداد، والأمريكان يعرفون ذلك أكثر من غيرهم، فهم يحاربون الأشباح في جبال هندكوش / أفغانستان منذ أربعة عشر عاماً دون طائل .
قلنا ولا ضير في أن نعيد : أن سقوط حكومة المالكي ينبغي يقرأ ويفهم كما هو دون لبس أو التباس، هو ليس إخفاقاً شخصياً، بل إنما هو إشهار إفلاس للنظام الذي أنتجه الاحتلال والحكومات المتعاقبة (العلاوي، الاشيقر، المالكي 1، المالكي 2) ، ولابد من الاعتراف أخيراً أن الاحتلال وما تبعه كان السبب في تدمير بلد كان على وشك مغادرة العالم الثالث والبلدان النامية، إلى بلد يقبع في آخر قائمة التخلف في كل أصعدة الحياة.
وكان اختيار المالكي من قبل الإدارة الأمريكية بالاتفاق مع إيران، بعد إزاحة د. علاوي الفائز الرسمي بالانتخابات، بانطباع تكون عنه (المالكي) بأنه شخصية يمكن معه اتخاذ قرارات مهمة دون متاعب على الأقل في البداية. ولكن الأمريكيون لاحظوا خطأ اختيارهم، ولكن بحلول خريف عام 2006 بدأ الأمريكيون يشعرون بالإحباط من المالكي الذي واصل اللعب على طريقته، ورفض الحد من سياسة التصعيد الطائفي، وبدا أن ارتباطه بإيران يغل يده في الكثير من القرارات، ومع ذلك تواصلت عاصفة الدم الطائفية ثمان سنوات عجاف ..!.
ومع تفاقم أزمة النظام، واصل المالكي السير في الاتجاه الخاطئ، باتخاذ قرارات تفتقر إلى الدقة والصواب، ناهيك عن مخالفته لنصائح المستشارين العسكريين الأمريكيين. (ربما كان هذا بدفع إيراني) وتجاهل النصائح، كانت نتيجتها أن تراجع أداء النظام، وفشله الذريع في مواجهة أي من الأزمات المستديمة، قادت بالنتيجة إلى تفاقم الغليان الشعبي، والانتفاضة المسلحة العامة، وانهيار الجيش وهزيمته، وتفكّك البلد، وانفضاض حلفاء العملية السياسية والمؤسسة الدينية وتفرق شملهم، تململ الغطاء دوليا وإقليمياً.
ورغم أن الإدارة الأمريكية أكدت على أهمية قيام العراقيين بتغيير القيادة بأنفسهم إلا أنهم أدركوا بحزم ووضوح، أن التأخير لم يعد محتملاً، وأن الوقت قد حان لتشكيل قيادة عراقية جديدة، قادرة على مواجهة تحديات مقبلة خطيرة، وهو ما فعله حقاً الرئيس معصوم بتشكيل الحكومة المقبلة.
والولايات المتحدة أدركت الآن أن هناك أخطار جسيمة مقبلة، ومن الضروري استباق تفاعلاتها، (طلب بايدن الحديث مع العراق 64 مرة مقارنة مع الرئيس الذي هاتف العراق أربع مرات خلال الشهر المنصرم)، وهي تتصرف بحيث أنها تريد أن تحول دون التفاعلات الضارة، وتحويل مسار التطورات لصالحها، فهناك نظام انتهى مفعوله، متهالك، وهناك أخطار محدقة بأن تؤدي هذه الاحتقانات إلى مخاطر جسيمة، سيكون علاجها باهض التكاليف، وصحيح أن نظام الملالي يريد الحفاظ على مكاسبه في العراق، ولكنه مع ذلك، هو الآخر مستعد للتنازل لتفادي مضاعفات أصعب سواء في العراق أم في ملفات أخرى ساخنة.
ومن أجل استشراف آفاق المستقبل، ووضع المرتسمات لعراق جديد، لابد من القول اليوم أن المالكي لم يكن مسؤولاً لمفرده في كل ما حدث في العراق منذ 2003 وحتى 2014، وإلصاق كل ما حدث بظهر رجل واحد ينطوي على استصغار لعقل الشعب، المسألة برمتها وحجم الدمار والتخريب وما حدث، أكبر من ذلك بكثير، فلا المالكي تسبب بها جميعاً، ولا العبادي سيتمكن من إصلاحها جميعاً، ومثل هذه النتيجة الكبيرة ليست من فعل رجل واحد، وسوف لن يكون بوسع البديل حلها. وإذا صار تلخيص الموقف بأسره في تبديل وجوه وشخصيات بأخرى من ذات الرعيل، فستكون فاشلة حتماً، لأن الخلل جوهري جداً، والعلاج سطحي جداً، لذلك ستعلن عن فشلها وبأقرب من المتوقع. ومثل هذه المعالجات الشكلية، هي أفعال لن تؤدي إلى حل الإشكالات القائمة، التي ستظل قائمة تتفاعل وأحتدام التناقضات قد تدخل مرحلة جديدة، وتجر إلى عواقب جديدة، حتى تجد لها حلاً شاملاً.
ويروج كثيراً لدور داعش التي هي بتقديرنا، هي منتج طبيعي لتصعيد طائفي ساهمت حتى الولايات المتحدة في إحداثه في المنطقة والعالم، والتصعيد الطائفي والتصعيد والتطرف لابد أن يكون له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، فالتطرف يقود للتطرف، وإرهاب الدولة الذي مارسته الحكومات المتعاقبة في العراق، فقد قتل وأعدم مئات الألوف، وهجرت الملايين، هي أهوال وجدت في داعش ردة الفعل، ووجدت حاضنة مستعدة لتلقفها، ولكن سؤال جوهري يطرح نفسه، لماذا لا تطلق صفة الإرهاب على ميليشيات عديدة موجودة في العراق وفي المنطقة معروفة للولايات المتحدة وللغرب عامة، مسلحة حتى الأسنان بأسلحة ثقيلة، واستراتيجية إلى جانب القوات المسلحة النظامية لحكومات شرعية معترف بها، تمارس أنشطة إرهابية وتخريبية مخالفة للقانون الدولي وسيادة الدول ....؟
ومن نافلة القول أن داعش، فصيل داخل على الساحة حديثاً، لا يمكن تجاهل وجوده، إلا أن أراء وأفكار وشبهات كثيرة تحوم حول مكاسبه وقدراته، وقبل كل شيئ الهالة الإعلامية المحلية والعربية والعالمية التي تحاك حوله أساطير لا تخلو من المبالغات التي تهول من أفعالهم وكأن لهذه الحملة السياسية والإعلامية التي بلغت مجلس الأمن، هدفاً آخر هو الأساسي يكمن خلفها، ألا وهو مزيد من التدخل في شؤون المنطقة، ومزيد من الكوارث على أيدي وكلاء ووسطاء وعملاء، وهو ما أدركته الولايات المتحدة التي تسير على خطين : مواجهة داعش والحد من تمددها، من جهة، وحرمانهم من حاضنتهم البشرية من خلال إحداث تغيرات لابد أن تبدو مقنعة من جهة أخرى، وإلا فإن الارتداد سيكون أكبر وأشد وطأة من ذي قبل.
العائق الأكبر الذي يحول دون نجاح المشاريع الأمريكية، يكمن في أن العراق والمنطقة تحفلان بالكثير من التوجهات السياسية والإرادات المتناقضة، والتداخلات العسكرية والحروب، قادت إلى نتائج سلبية، بدأت تعود بالوبال على من قاد إليها. لذلك فالعمل السياسي والاستخباري ينصب اليوم في معظمه على أحداث الخلل في عناصر الموقف الداخلي بأي ثمن، مع ضربات هنا وهناك للحد من تدهور موقف في جبهات معين، مع احتمال توسيع العمل العسكري، وفتح صراعات ثانوية، وإضعاف جبهات الخصوم بإحداث خلخلة في عناصر الموقف.