المـفـكـر المـسـلـم الاوروبـي المـلـتـزم: طـارق رمـضـان نمـوذجـاً

المـفـكـر المـسـلـم الاوروبـي المـلـتـزم: طـارق رمـضـان نمـوذجـاً
 

سامي دورليان
 

يستلزم الكلام على مسألة علاقة الاسلام بالعلمانية في اوروبا اليوم، وفي فرنسا تحديداً، الرجوع الى أواسط القرن التاسع عشر ومقاربة نشوء تيار "الاصلاح الديني" واختلاف عن تيار "التقليد الشمولي" Traditionalisme integriste. فبعودته الى مصادر الإسلام (القرآن والسنّة خاصة)، وقيامه بجهد مزدوج يكمن في تأطير contextualisation النصوص الدينية وملاءمتها  adaptation مع روح العصر، يتعارض تيّار "الاصلاح الديني" بوضوح مع تيّار "التقليد الشمولي" الذي يقضي باستيعاب التفسيرات المتراكمة للنصوص الدينية من قبل العلماء ودمجها بمصادر الإسلام الأساسية.
ثمة رأيان متعارضان بصدد الاصلاح الاسلامي، فبينما ينحو الرأي الأول الى اعتبار اصلاحيي القرن العشرين، من علي عبد الرزاق وطه حسين الى نصر حامد ابو زيد وغيرهم، أوفياءلنهج مؤسسي تيار الاصلاح، أي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، يميل الرأي الثاني - وهو رأي طارق رمضان، استاذ مادة الفلسفة في ثانوية سوسور في جنيف، مادة الاسلامولوجيا في جامعة فرايبورغ - الى  نفي هذه العلاقة. باستخدامه مفاهيم ومصطلحات عقلانية، يندرج فكر "اتباع عبد الرزاق"، في نظر رمضان، في حقل المرجعيات الغربية التي لا تأخذ في الاعتبار خصوصية مرجعية العالم الاسلامي.
هذا، على الرغم من حصر عبد الرزاق عمله، على المستوى النظري، ضمن نطاق المصادر
الدينية الاسلامية، في السياق نفسه، يدرج طارق رمضان جدّه حسن البنّا، مؤسس جماعة "الاخوان المسلمين" في مصر عام ،1928 في خانة الاصلاحيين الأمناء لنهج جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وميراثهما، ويرفض بالتالي ان يكون البنّا، مع أبي الأعلى المودودي في باكستان، "ملهم" التيارات الاسلامية المعاصرة، كما يصفه من ينعتهم رمضان بـ"اخصائيي الاسلام الجدد" كجيل كيبيل واوليفيه روا واوليفييه كاري وغيرهم.

أما جوهر عمل عبد الرزاق، فيتجلّى في اعادة تعريفه بالأسس اللاهوتية (او الفقهية) لمسألة الخلافة، وحسمه ضرورة الفصل بين الدين والسياسة في الاسلام. ولئن انتُقِدت هذه الرؤية من جانب محمد رشيد رضا الذي اعتبر ان عبد الرزاق يعيد النظر في أحد فروض الاسلام اي تنظيم السلطة، فإنها في المقابل أوحت للكثيرين من المفكرين الاصلاحيين المعاصرين كمحمد اركون الذي يرى في عبد الرزاق "الاصلاحي الحقيقي الذي يبحث من الداخل"، بدفع التفكير نحو تحرير العالم الاسلامي من الاسطورة القديمة التي تربط الدين بالسياسة. أما عبدو فيلالي انصاري، فيذهب الى حد تشبيه عمل عبد الرزاق بما قام به رينيه ديكارت، إذ أن الأمر يتعلّق "بادخال النقد التاريخي في الحقل الثقافي العربي وتطبيق المنهج العلمي في الشؤون المقدّسة". لكن ثمّة فكر مسلم اوروبي ملتزم لا يتّبع نهج عبد الرزاق وفكره، من دون ان يدفعه هذا الاختلاف الى التخلّي عن مضمونه الاصلاحي. انه، كما سبق وأشرنا اليه، فكر طارق رمضان الذي سوف نحاول تبيان ميزته وخصوصيته في ما يأتي:
مسألة حقلي المرجعيات
قديمة هي تصورات الاسلام في اوروبا وفي فرنسا خاصة، وباستثناء بعض المستشرقين
"
المتنوّرين" كاليسوعي هنري لاووست، نقع على أفكار ارنست رينان الذي منذ 1883
رأى في الاسلام "الأغلال أكثر ثقلاً التي حملتها الانسانية". وهذا ما يدل على ان مشكلة العلاقة بين الاسلام والغرب العلماني لا تندرج فقط في تحديد ما هو ارهابي، اذ ان اصول هذه المشكلة "قديمة جداً وتختلط مع أفكار مسبقة ومغروسة عميقاً". كان ذلك أحد الاسباب التي دفعت بمحمد رشيد رضا الى التفكير بتأسيس معهد دعوة في أوروبا بهدف "تحديد طبيعة المسائل والمشاكل التي تقلق الشعوب الاوروبية حيال الاسلام، وتنظيم لقاءات تتيح معرفة افضل لوقائع الاسلام والعالم الاسلامي".
كان رضا يرفض الخلط بين الشعوب الاوروبية والسلطات الاوروبية، أما طارق رمضان، فيرى ان هذا التمييز يكتسب أهميته في أيامنا نظراً الى انزلاقات بعض المسلمين الذين جعلوا من الغرب العلماني "كتلة احادية صافية تحمل في طياتها صراعات وجنوحات اخلاقية، غاضين الطرف عن كل الحقوق ومساحة الحريات الموفّرة للمواطنين في الغرب، والتي (أي الحقوق والحريات) كنا نأمل بواحد بالمئة منها في البلدان المسلمة". من جهة اخرى، نقع على تبسيطات وتسطيحات برنار هنري ليفي وصموئيل هنتنغتون، وهما حسب رمضان بمنزلة "نظيرين للمسلمين المتحجرّين بحيث يتغذّى فكر الواحد منهما بالآخر، كما تكتسب رؤية كل من الطرفين قوتها من حضور "الأنا الآخر" Alter Ego في الفضاء الثقافي الآخر". هناك عدد مهم من المثقفين والمناضلين الأوروبيين العلمانيين الذين يجعلون من نظرائهم في العالم الاسلامي
هدفاً لانتقاداتهم، لا لشيء إلا لأنهم يبرزون هويتهم الدينية الى جانب التزامهم السياسي والاجتماعي. بهذا "يلعب هؤلاء المثقفون العقلانيون لعبة القوى العظمى التي يتمتّع "نظامها" بفاعلية مكيافيلية هائلة، إي يجعل من ألدّ معارضيه في الداخل حلفاء له تجاه كل ما هو خارجي".
في سياق نقده للمثقفين المتأثرين بعلي عبد الرزاق، يشير رمضان الى الانتشار الواسع لأفكارهم في الغرب سيما وانهم "يستخدمون المفاهيم العقلانية والمصطلحات نفسها المعمول بها في الغرب، كما وان علاقتهم بالعلوم هي نفسها علاقة المثقفين الغربيين في الحقل الثقافي الغربي". بايجاز، "يطيب للأوروبيين ان يقولوا بصددهم انهم يتكلّمون مثلنا".أما بالنسبة الى المرجعيات العقلانية، فيستشهد رمضان بجدّه حسن البنا الذي كان يعتبر ان "كثيرين هم المثقفون الذين يجهلون دينهم وثقافتهم وتاريخهم، ويتكلّمون عن أنفسهم كما يتكلّم الأجنبي عنهم: يرون انفسهم بعيونه، ويستخدمون ألفاظه، ويرجون رجاءه".

من جهة ثانية، يطرح تصدير المصطلحات العقلانية والعملانية من الحقل الثقافي الاوروبي الى الحقل الثقافي المسلم، مشكلة جدية تكمن في "رؤية الآخر في مرآة المراجع الغربية"، وفي الحكم على الاختلاف باعتبارها جنوحات، الأمر الذي يؤدي الى حل سهل، وفي "البحث عند الآخر عن آخر يشبهنا". في هذا السياق من الأفكار، يحض طارق رمضان المثقفين الاوروبيين على فتح حوار مع المثقفين المسلمين الذين، بالاضافة الى اعترافهم بالقيم العلمانية "الكونية" الغربية، خطوا "خطوة لا الى الوراء، وانما خطوة جانبية" فعبّروا عن ايمانهم وعن نمط عيشهم وفهمهم للانسان والحياة على طريقتهم، لا بد هنا من الإشارة الى ان "تطبيق شبكة قراءة لا صلاحية
لها إلا ضمن نطاق ثقافي محدّد، وفي ظرف تاريخي محدّد، ولكن على فضاء ثقافي مختلف، يؤدي الى لغط في المعنى"، كالموازاة بين الحملات الصليبية والجهاد على سبيل المثال لا الحصر. ولابراز صعوبة بل استحالة الترجمة بواسطة الكلمات نفسها لوقائع مختلفة جداً، يعطي طارق رمضان مثل لوي غاردي Louis Gardet الذي حاول تفسير خصوصية المجتمع الاسلامي بنحته مصطلح "التيوقراطية العلمانية" Theocratie laique. يفنّد رمضان هذه "التركيبة" على مستويين: فمن جهة، وعلى الرغم من أن في المجتمع الاسلامي "ثمة لجوءاً الى مرجعية القرآن والسنّة"، إلا انه لا وجود للإكليروس Clerge باستثناء الحالة الشيعية. هنا تبرز ضرورة البحث "الفقهي" العقلاني والمشاركة الاجتماعية بالمعنى الواسع للكلمة، ما يعني ان المجتمع الاسلامي ليس بتيوقراطي. أما من جهة أخرى، وإذا كان هناك ثمة اعتراف بحرية
المعتقد والإيمان، إلا أن الاعتراف هذا لا ينفصل عن الغايات العامة للمرجعية الدينية، وبالتالي ليس المجتمع الاسلامي بعلماني.
بعدما تطرّقنا الى مسألة حقلي المرجعيات، نرى انه من الضرورة بمكان مقاربة مسألة أخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، تتعلق بمشاكل الاندماج وآلياته لدى المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وفي فرنسا تحديداً.

عوائق اندماج المسلمين الفرنسيين وآلياته لعل أحد أبرز العوائق أمام "الاندماج" يكمن في "أبلسة" (من ابليس Diabolisation) الغرب. هنا أيضاً يلجأ رمضان الى جدّه الذي طالما عبّر عن اعجابه بالجدارة الفائقة التي تتمتع بها الحضارة الغربية في مجالي التنظيم والتنسيق، ذاهباً الى حدّ اعتبار هذه الحقائق بمنزلة "بديهيات لا يجرؤ على انكارها سوى الجهلة او المحدودين". ولسدّ الطريق أمام "أبلسة" الغرب، كان البنّا لا ينفك يردد هذه العبارة: "ليـس كل ما في الغرب
سيئاً، ولا كل ما فيه جيد". فما ينبغي القيام به هو اختيار الانجازات العلمية والتربوية، و"إلباسها ثوب الإسلام لأن العنصر المفقود في الغرب هو ذكر الله".
ولكن يجب وضع هذه "الأبلسة" في إطار ثنائـية الانجـذاب/ النفور Attraction/ Repulsion، إذ لا بــد في البـدء من انجـذاب يفسح المجال، في الوقت نفسه، لممانعة عنيفة تتجسّد في إظهار المسلمين في الغرب عن انتماء "ديني" يحدده كرههم لهذا الغرب نفـسه. هنا يصوغ طارق رمضان رأياً هو في غاية الأهمية، إذ يرى ان "رفض هيمنة الفضاء الرمزي للغرب يجب أن يعني معارضة او اعتراضاً لا على وجود الغرب وانما على شكل هذا الوجود او طريقته Non a son etre mais a sa facon d etre. هذا الشكل الذي بموجبه "نستضـيف الآخر ليتكلّم بيننا". أما اذا اراد هذا الآخر ان يتكلم "بينهم"، كما فـعل طـارق رمضان عندما قرر العمل داخل الحضور المسلم في اوروبا شارحاً للمسلمين الاوروبيين دينهم وحضارتهم وآليات اندماجهم،
عندها تنهال عليه النعوت فيضحي "صاحب خطاب مزدج" أو "اسلامي متطرّف"، أو غيرها
من العبارات في لائحة تطول.
لنأتِ الآن الى النقطة المتعلّقة بمشاكل اندماج المسلمين في فرنسا وآلياته. فإذا ذهب جاك نيرينك Jacques Neirynck الى حد تشبيه فرنسا العلمانية بنظام "الطالبان" لأن "كليهما لا يتيحان للفتيات حق ارتداء اللباس كما يحلو لهنّ"، فمن جهته يتجاوز رمضان هذه المقارنة السطحية والكاريكاتورية لينتقد رد فعل بعض المسلمين الذين "يرهبون" محيطهم على قاعدة قضية الحجاب، فيرفضون بالتالي المدرسة والمشاركة. ما يريده رمضان هو "تنسيق اندماج ثلاثي البعد. البعد الأول يتعلّق بالهوية ويطرح شروط الوفاء للوعي الاسلامي في محيط جديد، والبعد الثاني يتناول مسألة تحديد نمط العلاقة مع التشريع في بلد معيّن، أما البعد الثالث فيتضمن البحث عن امكانات الالتزام المواطني".يعي طارق رمضان "ان العيش معاً" يتطلّب وقتاً ليس بقليل كما تدل عليه تجربة البروتستانت واليهود، فيعقد اهمية قصوى على التمثيل المحلّي، ويحض المسلمين الفرنسيين على "إنشاء قواعد لهم على مستوى المدن تتكوّن من ممثـلين لمساجد مختلفة او معيات اسلامية ناشطة ميدانياً لمعالجة المسائل المتعلقة بالاسلام في مجلس متعدد ومفتوح". كما يرى انه ينبغي في البداية حلّ المسائل الأكثر عملية كأماكن العبادة، والمدافن، واللحم الحلال وغيرها. فـ"المشروعية الحقيقة" ترتكز، حسب رمضان، "على مبادئ ثلاثة:  حضور في الميدان، كفاءة،  واعتراف من قبل "الجماعة". وعندما رفض في العام 1999 مختلف انواع الترتيبات "السياسوية"، كفكرة تمثيل المسلمين على المستوى الوطني - لا سيما أن تمثيلاً كهذا خاضع حتماً لتبعية مالية وسياسية خارجية وداخلية - كان طارق رمضان رؤيـوياً بعض الشيء، إذ أن تجربة "المجلس الفرنسي للعبادة الاسلامية" الذي انشئ في نيسان 2003 خير دليل
على تبعية كهذه.
بصدد المدارس الاسلامية، يعرض رمضان لحالتين. الأولى، وهي الأكثر انتشاراً وتؤدي الى غيتوات والى عزل وقطيعة مع المحيط، أما الثانية، وعلى الرغم من تضمهنها مشاريع مفتوحة ومتفاعلة مع المحيط، إلا أنها قليلة جداً. لذلك، يخلص رمضان الى التشديد على أولوية الالتزام خارج المدرسة وفي موازاتها Engagement dans le parascolaire لسببين اثنين: "أولاً لجذب اكبر عدد ممكن من الشباب وبطريقـة أكثر ديموقراطية; ثانياً لأن مشكلة الشباب الحقيقية تكمن في التأطير والمرافقة Encadrement et accompagnement. بهذه الطريقة يكتسب المسلمون الاوروبيون، والفرنسيون منهم تحديداً، "الشعور المثلّث بالمقدرة، والمسؤولية،
والمنفعة" الذي يشكّل هوية فريدة لهم ضمن إطار التزامهم بمواطنية كاملة.منذ حوالى ستة أشهر، يتعرض طارق رمضان لحملة شعواء في الصحافة الفرنسية، وهي حملة نادراً ما تتطرّق لكتاباته الفكرية بل تكتفي بإبراز بعض مقالاته ومواقفه من الأمور الخلافية ولا سيما موقفه الملتبس من مسألة رجم النساء الزانيات الذي اعلنه في تشرين الثاني الفائت ضمن برنامج "مئة دقيقة للاقناع" في مواجهة مع وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي، حيث اكتفى رمضان بالقول ان هذه الممارسة   غير قابلة للتطبيق العملي مقترحاً اعتماد التأجيل Moratoire.
إلام تهدف هذه الحملة، كيف تمرحلت، والى أين انتهت؟ كان يحلو لنا التطرّق الى كل هذه المسائل، إلا أن لذلك مبحثاً آخر...

   

المراجع

جامعي لبناني في جامعة القديس يوسف
بيروت ومعهد الدراسات السياسية
اكس آن بروفانس - فرنسا