حول الحراك المذهبي والأقوامي..

عقاب يحيى

حين كانت الآلاف تهتف : واحد واحد واحد   الشعب السوري واحد..كانت الكلمات تخرج من عمق أعماق الوعي، والاندفاع والإيمان بكل ما يمثله ذلك من معاني وطنية وثورية وفكرية وسياسية ومجتمعية، اختصاراً وتكثيفاً لهوية وإرادة السوري وذلك الإصرار على انتزاع الحرية لسورية كلها : دولة، ونظاماً تعددياً، وشعباً واحداً عبر اشتلاع نظام الاستبداد وإقامة البديل، ولم يكن بذهن هؤلاء الرواد أن ثورتهم ستحاصر في أي زاروب ضيّق، أو سيُصار إلى إدخالها، ولو عنوة، إلى كهوف ماضوية، وما قبل وطنية، بل وإلى قرون خلت قبل أن تتشكل الدولة السورية الحديثة، وقبل أن تنجز سورية الناهضة تجربة ديمقراطية كانت رائدة في التعايش والتعددية في الخمسينات..

لم تنطلق الثورة من خلفية دينية، أومذهبية، ولا طائفية، ولم تعتبر نفسها خاصية لفئة، او مدينة، أو حارة، أو عشيرة، أو جهة دون أخرى..بل لبلد عريق اسمه سورية بكل تنوعه الإثني والديني والمذهبي والفكري والسياسي.. ينتمي لأمة ضاربة الجذور في التاريخ، ولوطن كبير مزّقته عوامل متداخلة فتلقفتها فئات شعبية متعددة الاتجاهات السياسية، و"المناطقية"، وشاركت فيها مختلف التلاوين التي لم تكن المذهبية صفتها، ولا هويتها، أو محدداتها، أو آفاقها وسجونها.. بما فيهم عديد من المحسوبين على الطائفة العلوية، او في "مناطق الأقليات الدينية والإثنية".. وكانت حمص ـ عاصمة الثورةـ  ودوما، وبرزة، وحرستا، وعديد مدن ومناطق دمشق، وإدلب، وحماة واللاذقية، وصولاً لحلب وغيرها تشهد ذلك التشابك الشبابي في الحراك السلمي بزخمه وصعوده، وارتحال آلاف الشباب من عديد المناطق للمشاركة بحماس في ذلك الحراك، ولم يخطر ببال الرعيل الأول من شباب الثورة، وقيادتها في الصفوف الأولى، وحتى الثانية، والثالثة التي واجهت التصفية المنهّجة، والاعتقال والإبعاد..أن تتحول إلى حالة خاصة، ثم تتفرّع إلى مسارات فرعية يحاول كثير إلباسها لوناً مذهبياً خاصاً.. ثم النبش في الكهوف عن موضعات وهويات وبدائل تجاوزها السوري من عقود طويلة ...

***

نظام الإجرام والفئوية كان يدرك أن في ذلك مقتله فركّز منذ البداية على جرّ الثورة نحو حقول ألغام أعدّها بخبث خبراته الأمنية، ومخططاته الشيطانية بالتركيز على الجانب المذهبي وكأن الثورة حالة سنية ضد البقية، وخاصة الطائفة العلوية، ثم بقية المكونات الدينية والمذهبية.. فالمؤامرة : الفزّاعة والستارة الأبدية للهروب والتغرير والتدليس ..وكانت طلائع الثوار تدرك هذه المطبّات وأفخاخها فنجحت على مدار أشهر طويلة من تجنّبها، ومن نحر محاولات النظام الشرسة المسلحة بمزيد الأفعال الطائفية : المذابح وتوزيع الأشرطة الخاصة لإثارة الناس ودفعها لردّ فعل، وتوسيع مطاق عمل ومجالات الشبيحة وقطعان القتل وإصباغ البعد الطائفي على ما تقوم به..

ـ لكن مجموعة من التداخلات أخذت تدفع باتجاهات معينة لحصار الثورة في أقفاص خاصة، وصولاً إلى تمدمد الاتجاهات المتطرفة وسيطرتها العامة على العمل المسلح، وبروز ألوان حادّة نصّبت نفسها وصية، وبديلاً، ثم طغيان قوة داعش وأخواتها ومحاولات الخندقة على أساس مذهبي وكأن الصراع طائفي ولا علاقة له بانتزاع الحرية، وبمواجهة نظام فئوي، استبدادي، مجرم. دون إغفال الأثر الكبير لدخول حزب الله، وأولاد عمومته من الأحزاب الشيعية، الحرب المعلنة إلى جانب النظام ودور كل ذلك في تأجيج النزاعات المذهبية وتفويشها وتصديرها، وارتباط ما يجري في سورية بما يعرفه العراق وبلدان المنطقة، ودعم عديد الدول الإقليمية والخارجية لهذه الاتجاهات بديلاً عن الخط الوطني، والعروبي، والديمقراطي، والتعددي.. وما شكّله ذلك من أخطار حقيقية ليس على الثورة وجوهرها وحسب، بل على البلد والمنطقة، وبما يهدد بحروب أهلية ـ طائفية، وإثنية تستفيد منها نظم الاستبداد والقوى العالمية التي تسعى لمزيد من تفتيت المنطقة واستنزافها .

***

أمام هذه اللوحة وما يعرفه المشهد من خندقات لم تعد تخفي نفسها، ومن بروز الإشكالات القومية والدينية والمذهبية...انتشرت الأفكار المذهبية والقومية من كل الجهات، وعلت اصوات البحث في أوضاع تلك المكونات من خلفيات، ولأسباب مختلفة ..

ـ وكي لا نطلق أحكاماً تعميمية، وكي لا نقع في حواكير الانجرار لما يراد وضع البلاد فيها، فهناك من كان مؤمنا ـ عن قناعة ـ بواجب وضرورة"تحريك" الوضع في الطائفة العلوية باتجاه الخلخلة وإحداث الفرز، وباتجاه فك عرى"البلوك" القوي الملتفّ حول النظام، أو إحداث"اختراقات" مهمة داخل تلك الحالة التي فشلت المعارضة ـ بكل أطيافها ـ في قلقلتها لصالح الثورة، وفي ربط جمهور تلك الطائفة بالوطن الواحد والمجتمع الواحد والمستقبل الواحد.

بالوقت نفسه هناك من استخدم هذه الحالة لمزيد المكاسب الخاصة، وللاستثمار، وتحسين المواقع والتكسّب فاختلطت النوايا والأوراق، وعمّت هذه الحالة معظم الأقليات القومية والدينية والمذهبية تحت عناوين وأهداف مختلفة..في حين تبرز وتقوى دعوات إثنية ودينية ومذهبية باسم الواقعية، وإقرار السائد لموضعة تلك الظواهر في مؤتمرات ولقاءات.. ولمَ لا في مجالس وأحزاب، ومحاصصات تريد تحسين مواقعها ودورها في عديد المجالات..

ورغم اكوام الشعارات العامة عن الوطن، والوحدة الوطنية، والثورة..إلا أن عمليات تكريس هذه التوجهات تؤدي إلى إضعاف الخط الوطني العام، وإلى تكريس واقع طوائفي وأقوامي يمكن أن يتعضّى أكثر لاحقاً، ثم يقسّم مستقبل البلاد على أساسه، والعراق شاهد، وأمواج المنطقة تغذي ذلك.

***

نعم الثورة معنية بالاهتمام بواقع جميع المكونات، خاصة في الكتلة الكبيرة الصامتة، من مختلف المكوّنات والاتجاهات، بما فيهم الطائفة العلوية ـ المعنية أكثر من غيرها ـ وباتجاه كسبها لصالح الثورة، ولكن عبر خطاب وطني جامع يعزز الانتماء لوطن واحد، ولنظام تعددي يحقق المساواة بين جميعه المواطنين على اساس المواطنة وليس غيرها .

ـ الثورة السورية بحاجة اليوم لمراجعة جريئة وشاملة، وصياغة خطاب مشتقّ من روحها يوحّد السوريين ويجمّعهم حولها، ويمنح الثقة للجميع بمكانهم فيها وفي وطن حر يعامل الناس فيه وفق دستور وقوانين عصرية لا تمييز ولا تفريق بينهم في الحقوق والواجبات.