الحلال والحرام
تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ
د. محمد عناد سليمان
لم يكن تحديد «الحلال» و«الحرام» متروكًا لبشر خلقه الله سبحانه وتعالى، سواء أكان رسولاً، أم نبيًّا، أم وليًا، أم فقيهًا، أم مجتهدًا؛ بل إنَّ من ادَّعى ذلك فقد أدخل في «دين الله» ما ليس فيه؛ لأنَّ الخالق هو العالم بما يصلحُ عبادَه، ويعلم الغيب المستقبليّ لهم، ولا يكون هذا لبشَرٍ.
وللوقوف على حقيقة ذلك نتدبَّر آيات الله سبحانه تعالى في «القرآن الكريم» نفسه، على نحو ما نجده في أواخر آيات سورة «النَّحل»، حيث يقول تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}النحل114، حيث نصَّت هذه الآية على أمره سبحانه وتعالى للنَّاس بأن يأكلوا مَّما رزقهم في هذه الأرض، وأن يشكروا نعمته وفضله عليهم، ثم تأتي الآية التي تليها لتبيِّن بوضوح ما حرَّمه الله تعالى من هذا الرِّزق فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}النحل115، وقد سبق ذكر هذه الآية في سورة أخرى حيث جاء: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}البقرة173.
يظهر من هذه الآيات النّصّ الصّريح على ما أحلَّه الله من الطَّيبّات، وما حرمَّه منها، فكيف يجوز لبشر أن يدَّعي القول بغير ذلك؟! بل إنَّ تتمَّة الآيات نفسها تثبت أنَّ من يفعل ذلك فقد افترى على الله الكذب، فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}النحل116.
وقد ذهب في تفسيره هذه الآية «الفخر الرَّازي» في «مفاتيحه» مذهبًا طيبًا فقال: «اعلم أنه تعالى لما حصر المحرَّمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفّار في الزّيادة على هذه الأربع تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى، فإنَّهم كانوا يحرّمون البحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام. وكانوا يقولون: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا، فقد زادوا في المحرّمات، وزادوا أيضا في المحلّلات، وذلك لأنّهم حلّلوا الميتة، والدّم، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله تعالى، فالله تعالى بيّن أنّ المحرّمات هي هذه الأربعة، وبيّن أنّ الأشياء التي يقولون: إنّ هذا حلال وهذا حرام - كذب وافتراء على الله، ثم ذكر الوعيد الشّديد على هذا الكذب».
لكنَّ هذه المحرَّمات الأربعة قد زاد عليها سبحانه وتعالى بحقّ «الذين هادوا» فقال تعالى في السُّورة نفسها: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}النحل118، لكنَّه لم يبيِّن هنا ما هي «المحرَّمات» التي فرضها على «الذين هادوا»، وباعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يظهر لنا معنى قوله تعالى: «من قبلُ» في إشارة إلى ما ذكره في سورة «الأنعام» في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}الأنعام146.
ولم يكن «التَّحريم» دون سبب معلوم؛ بل إنَّهم ارتكبوا ما استوجب المنع و«التَّحريم»، وهو أمران:
الأوَّل: الظُّلم، وهو متعلِّق بحقّ البشر من خلقه، وهو منحصر في شيئين:
الأوَّل: أخذهم الرِّبا، وأكلهم أموال النَّاس بغير وجه حقِّ في قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}النساء161. وقد وصفه الله في موضع آخر بـ«السُّحت».
الثَّاني: سماعهم للكذب، وقد أوردها سبحانه وتعالى بصيغة «المبالغة» لكثرة ما وقع ذلك منهم، فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}المائدة42.
أمَّا الأمر الثَّاني الذي بسببه وقع «التَّحريم» فهو متعلّق بحقِّ الله سبحانه وتعالى، وهو صدُّهم عن سبيله، فقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً}النِّساء160.