محاور الخطاب الاستشراقي

عبد العزيز كحيل

[email protected]

 يخوض بعض المفكرين والصحافيين في البلاد الإسلامية حربا فكرية وإعلامية حقيقية على الإسلام يستوقفنا فيها ذلك الجانب الأكثر خطورة المتمثل في البحوث الأكاديمية المتسمة-حسبهم-بالعلمية والموضوعية وهي في الواقع إما تكرار لمقولات المستشرقين أو(اجتهاد)مستوحى من مناهجهم يهدف إلى تكسير الطابوهات كما يزعمون والتحرر من التفاسير الدينية والاجتماعية والتاريخية القديمة للإسلام وتناول النصوص والأحداث بروح(مجردة)وتأويل حديث أي-بوضوح-إخضاعها لأنماط تفكير دخيلة لا تكتفي بتجاهل قدسية الدين بل تعاديه صراحة أو ضمنا،ونجد للأسف رجلا مثل محمد أركون يلتزم هذا المنهج إلى منتهاه فتأتي أعماله الفكرية انسلاخا من الإصلاح وتحريفا لمفاهيمه وحربا على نسقه المتميز...وهو الذي يدندن حول الاسلام ويزعم لنفسه تبوء مرتبة الاجتهاد المطلق

 إنه يمكن تلخيص خطاب المستشرقين وتلاميذهم في محطات تبين موقفهم من الوحي والنبوة والإنجازات الحضارية الإسلامية والحداثة :

1_ الوحي:يدور الخطاب الاستشراقي بين الإنكار الواضح والحاسم لظاهرة الوحي الذي تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وبين رده إلى مجرد حالات نفسية كانت تعتريه عليه الصلاة والسلام،في حين يعتبره اتجاه ثالث خليطا من الكتب السابقة،وهل هذا سوى إحياء لمواقف القرشيين واليهود من الوحي عندما كان ينزل؟فليس للمستشرقين اجتهاد في الأمر إنما هو فقط تكرار لاتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاذب أو مجنون أو ناقل لصحف(اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)ولهذا يحرص مفكرونا وصحافيونا المستغربون على وصف الإسلام-في أحسن الحالات-بالتراث وفي بعض الأحيان بالتقاليد البالية وعادات البدو المتخلفين.

2_ النبوة:تبعا لموقفهم من الوحي ينكر بعض المستشرقين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تماما في حين يحصرها بعضهم-بخبث ومكر-في العبقرية الخارقة،أما آخرون فلخصوا أمره في الشهوانية و النزعة الدموية وحب العنف.

 واستغل هذه الطروحات كل المناوئين للإسلام فحزب البعث مثلا يعتبر الرسول مجرد عبقري عربي لا علاقة له بالسماء،وخصوم الصحوة الإسلامية يركزون على عنصر العنف الذي يتمحور عليه الإسلام قديما وحديثا ودائما_ بزعمهم _ وهذا ما حدا ببعض بني جلدتنا إلى غمز الني عليه الصلاة والسلام بقوله(هؤلاء الأموات الذين يحكموننا)باعتباره رجلا عاديا طواه الموت.

3_ الإنجازات الحضارية:لا يظهر تحيز المستشرقين في قضية كظهوره في موقفهم من إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية حيث يتعمدون إنكارها تماما-إلا قلة منهم- ويردونها إلى مجرد الترجمة عن الإغريق وهكذا يتهمون الفكر الإسلامي بالجدب والضحالة ويتجاهلون إبداعه للمنهج التجريبي بالإضافة إلى إنجازات علمية وأدبية وفنية لا تخلو منها المجالات الإنسانية والكونية،ومما يلاحظ أن هذا الحيف الاستشراقي أصبح حجة عند دعاة التغريب الذين يرددون بكل إمعية تلك التهم غير المؤسسة ويجاهرون بالربط بين تخلفنا وبين الإسلام واللغة العربية في حين أن الغربيين أنفسهم صاروا أكثر إنصافا إذ بهرتهم الأدلة فاعترفوا بأثر جامعات الأندلس في تكوين الفكر العلمي لديهم وبعث نهضتهم بعد قرونهم الوسطى المظلمة.

4_ الحداثة:كانت دعوة المستشرقين إلى"تحديث"الإسلام حثيثة منذ مطلع القرن العشرين على الأقل باعتباره العائق الأكبر أمام نهضة الأمم الشرقية ورقيها لأنه عندهم مظنة الخرافة والتواكل والعقلية الغيبية والاستقالة من شؤون الحياة،ودعوا في مجملهم إلى علمنة الإسلام ومعالجة مشكلة المسلمين الحضارية بوصفة الثورة الفرنسية نفسها المتمثلة في الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي أي-بعبارة صريحة-التملص من الإسلام ونسقه وضوابطه وإشعاعه،وتولى تلاميذ المستشرقين خدمة هذه الدعوة في بلاد الإسلام وتحمس لها طوائف من المثقفين والفنانين والسياسيين وبعض المنتسبين إلى العلوم الدينية ولاكت كلمة الحداثة أو العصرنة الألسن بعلم وبغير علم،وتبنى التغريبيون-كما أملى لهم أمثال ماسينيون ومارجليوت وجولد زيهر-النموذج الغربي وكفروا بسواه ووضعوا النموذج الإسلامي في قفص الاتهام متذرعين بنصوص مبتورة وبأوضاع المسلمين المتردية،ومازالت الحداثة ذريعة خصوم الإسلامي أوى إليها المتخوفون من الصحوة المباركة والمنهزمون روحيا فضلا عن الجاهلين بدين الله تعالى،ومازالت كثير من الجرائد العربية تسود صفحاتها بمناقشات بيزنطية حول الأصالة والمعاصرة لا يهدف من ورائها أصحابها العلمانيون إلا تعميق الهوة المصطنعة والتشويه المقصود في حين يثبت الإسلاميون-علماء ودعاة وطلبة ومؤسسات وتنظيمات مختلفة-كما أتيحت لهم الفرصة من قبل الأنظمة أنهم أصحاب تواصل مبدع يتناسق فيه الماضي والحاضر والمستقبل،وهذا ما يعرفه المستشرقون وأتباعهم جيدا لذلك يعملون من أجل التشويش عليه.

 هذا هو خطاب المستشرقين المتأثر بفكرة(الشعب المختار)التي يؤمن بها الغرب بحكم قاعدته اليهودية المسيحية والتي سوغت له إنكار صواب أي فكرة خارج إطار المرجعية الغربية،لكن اللوم لا ينصب على العدو بالأصالة بقدر ما ينال العدو بالعمالة الذي يرفض الوحي وقوانينه ومناهجه ولغته وتاريخه وحتى مستقبله ليس عن قناعة ذاتية وإنما بسبب التقليد الأعمى والخواء الروحي وصدق الله العظيم(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).