استنكار المعايير المزدوجة
طرفة من أخبار الأذكياء،
أم من أخبار الحمقى والمغفّلين!
عبد الله القحطاني
* لأبي الفرج بن الجَوزي ، بين كتبه الكثيرة ، كتابان طريفان في الأخبار، أحدهما اسمه : أخبار الأذكياء ، والآخر اسمه : أخبار الحمقى والمغفّلين ! وقد استعرض ، في كل من الكتابين ، الكثير من الطرائف ، الواردة في أخبار الصنف الذي يتحدّث عنه !
بَيد أن الطرفة المتداولة ، اليوم ، عن (استنكار!) تعدّد المكاييل ، وتنوّعها ، لدى الأمريكان وغيرهم .. لم تَرد في أيّ من الكتابين !
· تعدّد المكاييل ، والمعايير، والموازين .. أصل راسخ ، من أصول السلوك الإنساني ، عبر العصور، وعلى مختلف المستويات الإنسانية ، بمرور الأجيال المتعاقبة ، في سائر أقطار الأرض ، على مستوى الأفراد والجماعات ، والشعوب والحكومات !
· الفرد ، في المجتمع ، يعامِل مَن حوله ، بأنواع مختلفة من التعامل ! فلا يقدّم لعمّه ، من البرّ ، ما يقدّمه لأبيه .. ولا يسعّر لأبيه ، أو أمّه ، أو ابنه ، أو زوجه ، أو أخيه .. بالثمن الذي يسعّر به للآخرين ، الغرباء ، حتى في البيع والشراء ! فالغرباء ، يبيعهم بالسعر العادي ، الذي يحقّق له الربح ، الذي قرّره لبضاعته .. بينما يخفّض السعر لأقاربه الأدنين ! بل ، ربّما يبيعهم برأس المال ، بل ربّما يسامح بعضهم ، بالربح ورأس المال معاً ! وكذلك يعاملهم في خصوصيات العلاقات الاجتماعية ، عامّة .. من بوح في الأسرار، ومساعدة في الأعمال ، وغير ذلك !
· التعامل بين الدول ، ينطبق عليه ، ماينطبق على الأفراد ؛ من حيث تنوّع الدول ، بين: عدوّة ، وصديقة ، ومحايدة .. وبين صغيرة وكبيرة .. وبين حاكم عدوّ في هذه الدولة ، وآخر صديق في دولة أخرى .. وبين دولة صغيرة ، تسعى الدولة الكبيرة ، إلى كسب ودّها ، أوالهيمنة عليها ، أو إقامة حلف معها .. ودولة كبيرة منافسة ، تقف موقف الندّ ، أو الخصم ، من الدولة الكبيرة ، صاحبة المصلحة في كسب الآخرين !
· هناك ، في الأعراف الدولية ، ما يسمّى : الدولة الأولى بالرعاية ! وهذه لها خصوصيات في المعاملة ، ليست للدول الأخرى !
· الذين يتصوّرون أمريكا ، قاضياً عالمياً، يجب أن يقضي بين الناس بالعدل والقسطاس .. يروّجون نكتة باردة ! لكنهم يروّجونها بين أنفسهم وشعوبهم ، قبل أن يروّجوها بين الأخرين !
· والذين يتصوّرون أن أمريكا ، يمكن أن تعامل الصومال ، أو ماليزيا ، أو سوريا ، أو الجزائر.. كما تعامل إسرائيل ، أو كندا ، أو بريطانيا .. إنّما هم بسطاء سذّج ، يخدعون أنفسهم ، بألفاظ ، يعلم أكثرهم ، أنها لامعنى لها ! ويحسب بعضهم ، أنه يقيم الحجّة ضدّ أمريكا ، ويظهرها بمظهر الدولة غير المستقيمة ، أوغير العادلة ! وهذا ، بالطبع ، يثير ضحك الأمريكان ، قبل ضحك غيرهم ، من عقلاء البشر، في العالم !
· أمّا الذين يخلطون ، بين الولايات المتّحدة ، الدولة العظمى ، ذات المصالح المتنوّعة.. وبين الأمم المتّحدة ومؤسّساتها ، من مجلس الأمن وغيره .. أمّا الذين يخلطون هذا الخلط ، فيطالبون أمريكا بالعدل ، على أنها مؤسّسة عالمية محايدة ، يفترَض فيها الإنصاف ، بين الدول الخاضعة لأحكامها وقوانينها .. فهم إمّا جهلة بشكل غريب ، وإمّا يحاولون خداع شعوبهم ، بهذا العبث السمج !
· وأمّا الذبين يعلنون ولاءهم لأمريكا ، على أنهم أجزاء من إمبراطويتها ، ويطالبونها بالعدل ، بينهم وبين سائر الدول الخاضعة للإمبراطورية .. فهم جهلة ، كذلك ، في فهم سنن الحياة نفسها ، وفي التعامل الطبيعي بين الناس ! فليس ثمّة إمبراطور، يعامل حليفاً له ، كما يعامل دولة خاضعة له بالقهر والإكراه ، وشعبُها يناصبه العداوة ، أو يكنّ البغض والازدراء ، له ولحكومة بلاده ، بل للكثير من القيَم التي تعتدّ بها دولته !
· وأخيراً : إذا كان ابن الجوزي ، لم يضع هذه النكتة ، في أيّ من كتابيه المذكورين ، لأن أمريكا لم تكن مكتشفة في عهده .. فأين يضعها ، من يؤلف كتاباً حديثاً ، شبيهاً بكتابيه المذكورين : هل يضعها في أخبار الأذكياء .. أم في أخبار الحمقى والمغفّلين !؟