قضيةُ فَدَك وميراثها
قضيةُ فَدَك وميراثها
د. عبد الباسط بدر
المدير العام لمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
فَدَك واحةٌ خصبةٌ في حَرَّةِ خيبر وَرَدَ ذِكرُها في نقوش بابلية قديمة باسم (بادكو daku pa) دخلت في نفوذ الملك البابلي نبونيد الذي احتلَّ المنطقةَ واتخذ تيماء عاصمةً له مدة عشر سنوات من (551) إلى (541) قبل الميلاد، وثمة روايات تاريخية تذكر أنها كانت مركزاً من مراكز العبادة الوثنية، وكان فيها أصنام تحجُّ إليها بعضُ القبائل في مواسمَ معينة، ولما وصلت الهجراتُ اليهودية إلى الحجاز, استوطنت في عدد من الواحات على امتداد الطريق من تيماء إلى يثرب، ومنها فدك، وربما كانت فدك آنئذ خاليةً أو قليلةَ السكان، فغلب عليها اليهودُ وعُرِفت منذ ذلك الحين بأنها قريةٌ من قراهم.
وفي السنة السابعة للهجرة فتح الله على المسلمين خيبر فخاف اليهودُ القاطنون حولها, ومنهم أهلُ فَدَك, فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الصُّلْحَ على أن يتنازلوا عن نصف الأرض ونصف غلاَّتهم, فوافق رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم , وصارت من المناطق التي فُتحت دون قتال. وصار واردُها فيئاً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأهله وَمَن يحتاج من بني هاشم، ويضع البقية لأبناء السبيل.
ولما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الصديقُ الخلافةَ طلبت فاطمةُ رضي الله عنها ميراثَها مما أفاء اللهُ على رسوله بالمدينة وفدك وخيبر، فأخبرها بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث, ما تركنا صدقة", وقال: إني والله لا أُغيِّر شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده, ولأعملنَّ بما عمل به. فغضبت فاطمة ولم تكلمه، وتوفيت بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبق أبو بكر رضي الله عنه توجيهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجاته، ومنهن ابنته عائشة، وعمه العباس، وكل مَن يمكن أن يكون وارثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعترض منهم أحد, فقد سمع هذا الحديثَ ورواه آخرون غيرُ أبي بكر([1]).
ولما تولى عمرُ بن الخطاب الخلافةَ، أخرج غيرَ المسلمين من جزيرة العرب، وأرسل إلى فَدَك أَحَدَ الصحابة، فقَوَّمَ حصَّةَ اليهود من الأرض والثمار، ودفعها لهم، وأجلاهم عنها، وسار مسيرةَ أبي بكر في وَقْفِها صدقةً من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق ريعها على أبناء السبيل، وكذلك فعل عثمان بن عفان، ولما تولَّى عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه الخلافةَ سار على منهج أسلافه، ولم يَدَّعِ إرثاً له أو لأولاده.
وفي العهد الأموي تذكر بعضُ الروايات أن الخليفةَ معاويةَ بنَ أبي سفيان أَقْطَعَ فدك لمروان بنِ الحكم، فوهبها مروانُ لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وصارت من بعدهما لأبنائهما سليمان والوليد ابني عبد الملك ولعمرَ بنِ عبد العزيز، فطلب عمر من ابنَيْ عَمِّهِ حِصَّتَيْهِما فَوَهَبَاهَا له, ولما تولَّى الخلافةَ أَعَادَها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وَقْفاً يُنفَقُ رَيعُها على أبناء السبيل.
ويذكر المؤرخ اليعقوبي أن الخليفة العباسيَّ المأمون كان يميل إلى آل البيت حتى كاد أن يلغي السَّوَادَ (شعار العباسيين) ويتحوَّلَ إلى البياض (شعار الهاشميين) لولا أن تداركه بعض المُقَرَّبين إليه, وأنه أعطى فَدَك لِمَنْ هُمْ مِنْ نسل فاطمة وأنهم ساروا فيها سير مَن قبلهم في صرف رَيعِها على أبناء السبيل. ثم استَرَدَّها منهم المتوكِّلُ وَأَقْطَعَهَا عبدَ الله بنَ عمرَ الباريار، ثم أُعِيدَتْ إليهم في أيام المنتصر أحمد بنِ المتوكل. وتغيب أخبارُ فدك بعد ذلك إلا من كتب الحديث وتفسيره وبعض كتب الفقه في أبواب الفيء، ولكنها تستمر وتتضخم في كتب الشيعة وتصبح محوراً من محاور الخلاف الشديد مع السنة وحجة يستشهدون بها - في زعمهم - على ظلم أهل السنة لآل البيت.
وفي العصر الحديث استمرت الكتابات الشيعية عن فدك تُؤَجِّجُ الحقدَ وَتُعَمِّقُه, وتوظِّفها في أغراض عقدية وسياسية، وَيُعَدُّ كتابُ محمد باقر الصدر فَدَك في التاريخ من أعمق الكتابات الحديثة التي تتمظهر بالمنهجية والموضوعية والاحتجاج بشواهد من كتابات أهل السنة، والتهجُّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واتهامهما بالتآمر وتوظيف فَدَك لمشروعهما السياسي، حيث يستعرض الكاتبُ الرواياتِ والأخبارَ التي وردت في كتب الحديث والسيرة والتاريخ، وخاصة كتب الصِّحَاح وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وابن خلدون، ويوجهها في تفسيراته ليخلص إلى النتائج التالية:
أولاً: إن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وَضَعَا خطةً للاستيلاء على الخلافة وحرمان آل البيت منها وَنَفَّذَاها ببراعة فائقة في اجتماع السقيفة.
ثانياً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهَبَ فَدَك لفاطمة بشهادة علي وأم أيمن، ولم يعترف أبو بكر بذلك، وإن مطالبةَ فاطمة بفدك وبقية الإرث كانت ثورةً مُقَنَّعةً وإعداداً لثورة كان يُهَيِّئُ لها زوجُها علي لاسترداد الخلافة من أبي بكر.
ثالثاً: إن الشيخين خططا لمنع حدوث أية مقاومة أو معارضة قوية بتجريد فريق المعارضة (آل البيت) من عناصر القوة والتمكين وفي مقدمتها قوة المال.
رابعاً: إن أبا بكر ادَّعَى حديثَ عدمِ توريث الأنبياء لحرمان آل البيت من وراثة الحكم ووراثة المال، وإنَّ في القرآن شواهدَ تُثبِتُ وُجُودَ الوراثة في الأنبياء منها (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) النمل 16. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) مريم 5-6.
خامساً: إن عمرَ بنَ الخطابِ وعثمانَ بنَ عفان رضي الله عنهما واصلا مسيرةَ أبي بكر في حرمان آل البيت من إرثهم للأسباب السياسية نفسِها.
سادساً: إن عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه انشغل خلال خلافته القصيرة بالحروب ولم يسترد فَدَك تَرَفُّعاً وأنفةً، بل وأمضاها صدقةً على المسلمين.
سابعاً: إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أقطعها لمروان بن الحكم وورثها أبناؤه، ثم خلصت إلى عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله الذي رَدَّها لآل البيت لَمَّا تولَّى الخلافةَ، اعترافاً منه بحقِّهم في وراثتها، لكنَّ خَلَفَهُ مِنْ بعده استردَّها للأسباب السياسية نفسها.
ثامناً: إن الخليفة العباسيَّ المأمون ردَّها لآل البيت اعترافاً منه بحقهم في وراثتها، ولكنَّ الخليفةَ المتوكِّلَ استردَّها منهم، ثم رَدَّها إليهم ابنُه الخليفةُ المنتصر.
تاسعاً: إن قضيةَ فدك مفتوحةٌ ومستمرةٌ ومتعلِّقة بأصل من أصول الحكم، وشاهدٌ تاريخيٌّ وسياسيٌّ على حَقِّ آل البيت والظُّلمِ الذي عانَوْا منه.
واللاَّفِتُ للنظر أنَّ جمعياتٍ دعويةً وحقوقية أُسِّسَتْ في العقدين الماضيين تحمل اسمَ (فَدَك)، وتَتَبَنَّى قضيتَها من وجهة نظر شيعية، ولها مواقع على شبكة الإنترنت، فضلاً عن الكتب والبحوث والمقالات التي ما زالت تصدر عنها وتجتهد في تحديد موقعها وقيمتها المادية وعوائدها.
ومما يجدر ذِكرُه أن فَدَك غائبةٌ عن الخرائط المعاصرة، فمنذ أن أخرج عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه اليهودَ منها لم يَرِدْ ذِكرُها في أحداث التاريخ، وربما لَمْ تُسكَن، ويُقَرِّرُ بعضُ الباحثين أن موقعها قامت فيه قريةُ الحائط أو الحويط أو قريباً منها، وتقع هذه القرى في الجنوب الغربي من مدينة حائل على بعد (250)كم تقريباً.
([1]) من رواة هذا الحديث العباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وغيرهم.