يا دعاة التقريب .. ما هكذا تورد الإبل
يا دعاة التقريب .. ما هكذا تورد الإبل
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
لم تتوقف جهودُ دعاة التقريب بين السنة والشيعة ولم تفتر عزائمهم أعواماً طوالاً، ولا يبدو أن تلك الجهود تُثمر تقارباً حقيقياً بقدر ما تبدو شكليةً بعيدةً عن الواقع وملابساته، في الوقت الذي يزداد فيه الوضع سوءاً وتعقيداً، ولا يظهر أثر فعلي لهذه الجهود على مجرياته.
وَيَكمُن الخللُ في دعوات التقريب هذه في التَّشَبُّث المُسبَق والمطلق بثوابتَ اعتقادية من قبل الفريقين، تتعارض في ما بينها تعارضاً حاداً يبلغ اللُّبَّ والجوهر.
وفي ظل هذا التعارض يبدو المشهدُ مظلماً قاتماً ولو نظرياً - ففعلياً هو قاتم غائم - طالما ظَلَّ الدينُ قطبَ رَحَى دعوات التقريب، ومحورَ محاولةِ جمع الفريقين.
وليس المطلوب إرغام الفريقين أو أحدِهما على التنازل عن ثوابت عقيدته، أو التظاهر بالتنازل عن بعضها إظهاراً لحسن النية والجِدِّية في التقريب، فالدين لا يملكه علماء ومُعَمَّمون مهما علا شأنهم، وإنما المطلوب البحث عن قواسم مشتركة بين الفريقين - غير الدين - تلمُّ الشعثَ وتجمع الكلمةَ وترأب الصَّدع، وما أكثر ما يجمع بين إخوة في الإنسانية وشركاء في الوطن واللغة والمصالح المشتركة.
فلا ضرورةَ للاعتراف بصحة عقيدة طائفةٍ حتى يمكنَ التعايشُ معها، وهذا من لُبِّ تعاليم الإسلام نفسِه وتوجيهاته، فالمسيحي - مثلاً - بنظر المسلم كافرٌ بما يدين به، بِنَصٍّ قرآني لا يحتمل تبديلاً ولا تأويلاً (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)، ولكن لم يَعْنِ ذلك للمسلم إهدارَ دَمِ المسيحي أو استحالةَ مُعايَشَته، بل كان الإسلامُ الدينَ الوحيد الذي حَمَى الأديان وأتباعَها في ظل حرية الرَّأي فيه، وفي ظل الإنسانية والمواطنة والثقافة التي جعلها قِيَماً تلتقي عليها الشعوبُ المختلفةُ في العقيدة، وهذا بن جوريون مؤسسُ دولة إسرائيل وأحدُ أعدى أعداء المسلمين يشهد في مذكراته أن اليهود لم ينعموا بالعيش الكريم طوال قرون إلا في ظلال الحضارة الإسلامية.
والمسلم السُّني - وفي ضوء ثوابته - لا يملك إلاَّ تكفيرَ مَن يقولُ بتحريف القرآن الكريم مِن الشيعة، ومَن لا يَتَبَرَّأ مِن هذا القول ومِن قائله، وَمَن يقول بِكُفر رجالٍ حُمِلَ الإسلامُ على أكتافهم وَبُثَّ في أصقاع الأرض، لأن في تكفيرهم - بحسب ثوابت السني - طعناً في صِحَّةِ الإسلام الذي نَقَلُوا، ولأن في انتقاصهم طعناً في آيات قرآنية كثيرة بَرَّأتهم وأثنتْ عليهم وبَشَّرَتهم بالنَّصر والتأييد والنعيم المقيم.
ولكنَّ التعايشَ بين السنة والشيعة - رغم الخلاف العقائديِّ الغائر - أَدعَى وأولى من التعايش بين المسلمين وغيرهم، فكلهم لم يَخرُج من الدائرة الواسعة للإسلام، وكلُّهم تجمعهم روابطُ الدَّمِ واللغة والثقافة والمواطنة والمصالح المشتركة.
فَهَلاَّ كانت هذه الروابطُ أساسَ الحوار والتفاهم والتقارب، طالما كان الدينُ ينكأُ الجراحَ، ويُوَسِّعُ الهُوَّةَ، ويُفَرِّقُ ولا يَجمَع، ويُباعدُ ولا يُقارب؟.