الكلمة اليوم للعرب
فماذا هم صانعون؟
سيد قطب رحمه الله
[هذا المقال واحد من مقالات للأديب الشهيد سيّد قطب نشرها في مجلة الرسالة، جُمعت حديثاً في كتاب تحت عنوان "أيها العرب.. استيقظوا واحذروا" وكان هذا المقال قد نُشر في العدد 694 من المجلة عام 1946]
نحن – الأمم العربية – نستأهل كل ما يجري علينا، ما دمنا نختار لأنفسنا دائماً موقف الانتظار، ولا نخطو خطوة إيجابية واحدة؛ بل ندع ذلك لخصومنا وننتظر دائماً ماذا يصنعون!.
ومصيبتنا الكبرى أن فينا من "العقلاء" أكثر مما ينبغي، و"نتعقل" ونسلك الطرق "السلمية" حتى لا نخسر عطف العالم المتمدين، أي العالم الأوروبي والغربي على العموم!.
فماذا جنينا من الانتظار بعد الانتظار؟.
جنينا أنْ ظلت قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم يوماً بعد يوم، حتى انكفأت أخيراً في هوة "لجنة التحقيق"! ومع ذلك فالعقلاء لا يزالون إلى اليوم ينصحون لنا بالهدوء والتريث حتى نعرف ماذا سيصنع خصومنا. وخصومنا في هذه المرة هم الإنجليز والأمريكيون! ونحن الذين تطوعنا بأن نضمهم إلى صفوف أعدائنا اليهود، بعد تقرير لجنة التحقيق!.
ولنرجع بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء.
في وقت من الأوقات كانت فلسطين ثائرة فائرة. فأسرع الإنجليز يدعون الأمم العربية – ولم تكن الجامعة العربية قد أنشئت بعد – إلى مؤتمر في لندن وهم يحاولون ترضية العرب الثائرين. وفي هذا الوقت أو بعده بقليل؛ صدر الكتاب الأبيض الذي يضع حداً لهجرة اليهود، ويحظر بيع الأراضي، ويَعِدُ باستقلال فلسطين..
ولم يرض العرب عن هذا الكتاب الأبيض، ولكن "العقلاء" أشاروا عليهم بالتزام الهدوء، حتى لا يفقدوا "عطف العالم المتمدين"! وانخدع العرب بكلام "العقلاء" فأخلدوا إلى الهدوء!.
ثم جاء دور اليهود الإرهابيين، فجعلوا يخاطبون الإنجليز باللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز. ولحسن حظهم لم يكن فيهم "عقلاء" فراحوا ينفذون خطتهم في دأب وإصرار.
ووقف عقلاؤنا يَبْسُمون في دهاء ويقولون: "دعوهم في حماقتهم فإنهم يفقدون عطف العالم المتمدين. وسينقلب الشعور الإنجليزي ضدهم بسبب أعمالهم الإرهابية وجرائمهم المنكرة"! وكانت هذه سذاجة، هي والغفلة سواء!.
وفهم الإنجليز اللغة الوحيدة التي يفهمونها. وانتهزوا فرصة ضغط الولايات المتحدة في مصلحة اليهود، وأعلنوا إلغاء الكتاب الأبيض وتأليف لجنة للتحقيق، والسماح بالهجرة بعد انتهاء أجلها المحدود!.
وتحرك العرب. ولكن "العقلاء" قالوا لهم: "كونوا عقلاء أيها العرب، وانتظروا قرار لجنة التحقيق، ولا تقوموا بأية حركة الآن لئلا تفقدوا عطف العالم المتمدين، ودعوا اليهود الحمقى يرتكبون حماقاتهم ليفقدوا هذا العطف دونكم، بما يرتكبون كل يوم من الإرهاب في فلسطين وغير فلسطين"!.
وسكت العرب، وصدر قرار لجنة التحقيق!.
فيا أيها العرب ماذا أنتم اليوم صانعون؟
يقول لكم "العقلاء": انتظروا حتى تروا ماذا يصنع الإنجليز. فرئيس وزرائهم يقول: إنه لا ينفذ التقرير إلا إذا ضمن مساعدة الولايات المتحدة العسكرية والمالية. وما دام الاتفاق لم يتم بين إنجلترا والولايات المتحدة على هذه المساعدة فنحن منتظرون!.
أيها العقلاء...
إنكم مغفّلون...
إن موقف الانتظار البليد في كل مرة هو الذي جعل قضية فلسطين تتقهقر دائماً ولا تتقدم، منذ أن سمع العرب نصائحكم الغالية، وحرصوا على عطف العالم المتمدين، ووثقوا معكم بالضمير الأوروبي، أو الضمير الغربي على العموم.
أيها العقلاء!
إن الضمير الغربي كله ضمير متعفن. فالمغفلون وحدهم هم الذين يثقون بهذا الضمير، ويعلقون على يقظته حقوقهم القومية!.
واللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العالم المتمدين، هي اللغة التي يخاطبهم بها اليهود: القوة والمال، والإقلاق المستمر الذي لا يدع أعصابهم مستريحة، ولا يدع تدجيلهم الدولي مستوراً، وكلما هاجت أعصابهم وانكشف موقفهم زاد ضميرهم يقظة وتحركت في نفوسهم عواطف الرحمة والإشفاق على هؤلاء المقلقين الثائرين!.
أيها العقلاء!
ليس أمامنا تجربة واحدة تثبت أن الضمير الغربي قد تحرك مرة واحدة لقضية إنسانية بريئة يتبع أصحابها نصائح "العقلاء" فيدعون الضمير الغربي هادئاً يغطّ في نومه العميق.
لا بد من ضجة وجلبة لإيقاظ هذا الضمير النائم، واليهود اليوم يدركون هذه الحقيقة؛ ولذلك هم ناجحون!.
أيها العقلاء!
مجرم في حق أمته، وفي حق العرب أجمعين، كل من يدعو أمته أو يدعو العرب إلى الثقة بهذا الضمير المزعوم.
وبعد، فالكلمة الآن للعرب، لا لمستر أتلي، ولا للرئيس ترومان، ولا للجنة التحقيق!.
فإما أن يخاطبوا الضمير الغربي باللغة الوحيدة التي يفهمها، والتي يحذقها اليهود، فيلبيهم الضمير الغربي في كل مكان.
وإما أن يخاطبوا هذا الضمير بلغة "العقلاء" وينتظروا حتى تنطبق الحلقة، ويتم الاتفاق بين أتلي وترومان..
وحينئذ لا يلومن إلا أنفسهم، وإنهم لملومون.