الحاكم الرشيد يودّع منصبه !
السياسة العربية والديمقراطية :
أ.د. حلمي محمد القاعود
نقلت إلينا الأنباء يوم الاثنين 2 من مارس 2015 خبر فوز رئيس ناميبيا المنتهية ولايته " هيفيكبوني بوهامبا " بجائزة إفريقيا للحكم الرشيد المقدمة من مؤسسة محمد إبراهيم وقيمتها 5 ملايين دولار تقدم له على مدى عشر سنوات وبعد ذلك يتلقى 200 ألف دولار سنويا مدى الحياة. وفاز بالجائزة من قبل بيدرو دي فيرونا روجريجيس بيرس رئيس الرأس الاخضر السابق ويواكيم شيسانو رئيس موزامبيق السابق وفيستوس موجاي رئيس بتسوانا السابق.
ويشترط للفوز بالجائزة أن يكون المرشح لها قد انتخب ديمقراطيا وترك منصبه في الأعوام الثلاثة السابقة ولم يستمر في المنصب أكثر من مدته القانونية المحددة. ويجب أن يتوفر في المرشح "الحكم الرشيد". ولم تنطبق معايير الجائزة علي أي شخص في عديد من السنوات الماضية . وبالطبع لم يفز بالجائزة حاكم عربي حتى الآن ولو فوزا شرفيا مثل الرئيس الراحل نيلسون مانديلا!
أشادت مؤسسة محمد إبراهيم وهي تعلن فوز بوهامبا بالتزامه بحكم القانون واحترامه للدستور، ورأى مراقبو الانتخابات التي أجريت في عهده أنها حرة ونزيهة..
في الوقت نفسه أشارت الأنباء إلى انسحاب خوسيه موخيكا من رئاسة الأوروجواي بعد ما جعل بلاده كالدول الاسكندنافية ، وترك منصبه للرئيس الجديد تاباري باسكيث ووصفت الأنباء موخيكا أنه تحول بزهده إلى ما يشبه الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز ، ولقي الحدث اهتماما دوليا – وليس عربيا - بطبيعة الرئيس المنتهية ولايته موخيكا لدوره في تحقيق قفزة نوعية لهذا البلد النموذجي في أمريكا اللاتينية حيث انتقل إلى مصاف الدول الإسكندنافية.
لا يسمح دستور الأوروجواي بولايتين رئاسيتين متتاليتين، ولهذا لم يترشح خوسيه موخيكا للرئاسة مع ارتفاع دعوات سياسية بتعديل الدستور في البلاد لكي يتقدم للمرة الثانية على شاكلة ما أقدمت عليه دول في المنطقة قامت بتعديل دستورها مثل الإكوادور وفنزويلا.
خوسيه موخيكا أفقر رئيس في العالم . تخلى عن القصر الرئاسي وعاش في منزله المتواضع في ضواحي العاصمة وبميزانية لا تتعدى ألف دولار شهريا. كان راتبه طيلة السنوات التي عمل فيها رئيسا للبلاد 440 ألف دولار، تبرع بـ 400 ألف لصالح أعمال خيرية ومنها الإسهام في بناء منازل للشبان وعاش بما تبقى وهو أقل من ألف دولار دون اعتماد على ميزانية القصر الرئاسي.
أرسى موخيكا روح الإنصاف والعدالة سياسيا واجتماعيا إلى مستويات جعلت المراقبين يعدون الأوروجواي بمثابة دولة اسكندنافية وسط أمريكا اللاتينية. وكتبت عنه جريدة «إكسلسيور» المكسيكية «موخيكا من الرؤساء النادرين، يختلف عن باراك أوباما وفلاديمير بوتين والكاريزما التي يتمتع بها لا تضاهى».
وفي حوار خاص بإذاعة فرنسا الدولية تحدث رئيس الاورجواي عن أهم الإنجازات التي تحققت في فترته الرئاسية فقال إن"عدد الفقراء والمحتاجين انخفض في البلاد" واستطرد قائلا: " لكن، للأسف لا يزال هناك فقراء ومحتاجون في هذا البلد الغني بالموارد".
و من مقولاته التي شاعت في العالم "من يعشق المال لا مكان له في السياسة" ، ولذا عاش لا يملك حسابات مصرفية وليس عليه ديون ، ويسكن منذ توليه الرئاسة في شهر مارس 2010، في بيت ريفي بمزرعته، مفضلا البيت المتواضع عن القصر الرئاسي، دون حراسة مشددة مثل بقية رؤساء العالم. وتمنى عند انقضاء فترة حكمه أن يعيش بسلام في مزرعته، برفقة زوجته .
وأفاد مؤشر منظمة الشفافية العالمية أن معدل الفساد في الأوروجواي انخفض بشكل كبير في عهد موخيكا، حيث احتلت المرتبة الثانية في قائمة الدول الأقل فسادا في أميركا اللاتينية.
يقول موخيكا إن "أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه". ورأى أن أغلبية الشعب الذي صوّت له من الفقراء، لذلك وجب عليه كما قال " أن يعيش مثلهم ولا يحق له عيش حياة الترف ".
أردت أن أقدم مثالين للحاكم الصالح من غير المسلمين ؛ شبه أحدهما بعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه ، لزهده وتقشفه وعدله ، ونقله بلاده من قائمة جمهوريات الموز إلى مستوى الدول الاسكندنافية الأكثر رخاء في العالم .
وجمهوريات الموز أو دول أميركا اللاتينية عانت في نصف القرن الماضي عناء شديدا من الحكام الطغاة الذين كانوا يشبهون العصابات ، وكانوا لا يتوقفون عن الانقلاب العسكري على بعضهم بتدبير خارجي أو بمبادرات ذاتية للاستمتاع بخيرات البلاد أو إشباع رغباتهم النرجسية المجنونة بالتسلط وسفك الدماء . لم تكن هناك حرية أو كرامة إنسانية أو وجود لدساتير أو قوانين بشكل حقيقي .ازدهر الفساد ، وساد النهب والمحسوبية والرشوة ، وغصت السجون بالمظلومين والضعفاء ، وهرب الأحرار إلى المنافي ، وكان جل الهاربين من الأدباء والكتاب والمثقفين الذين أخذوا على عاتقهم كشف المظالم والاستبداد والطغيان ، والمطالبة بالحرية ، ولم يهادنوا الحكومات المستبدة ، أو يقبلوا إغراءاتها ، وامتلأت كتاباتهم بتصوير ما يجري في بلادهم من فظائع ومآس ، لفتت أنظار العالم إلى محنة شعوب أميركا اللاتينية ، وكسبت تعاطف الأحرار في كل مكان .
لقد استطاع مثقفو أميركا اللاتينية أن يحركوا شعوبهم لانتزاع الحرية ، وبناء أنظمة ديمقراطية يحكمها صندوق الانتخابات وليس صندوق الذخيرة ، وتعالج مشكلات الفساد والتخلف من خلال قوانين عادلة تحقق التوازن الاجتماعي ، وترفض العنصرية والاستثناءات والامتيازات والتمييز بين المواطنين ، ثم ينسحب المسئول بعد أن تنتهي مدته بهدوء .
ولكن المشكلة في بلادنا العربية هو وجود النخبة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية العميقة التي تحرص على مصالحها بالدرجة الأولى ، ولديها استعداد بعدئذ لفعل أي شيء ضد الدين والوطن ، بدءا من محاربة الإسلام وشيطنته ومحاصرته في المساجد والزوايا ، حتى موالاة العدو الصهيوني وسادته الصليبيين ، والترويج لمقولاتهم المعادية للعرب والمسلمين .
هذه النخبة صنعها الغرب الصليبي على عينه منذ مائتي سنة تقريبا ، ووضعها في مرتبة تفوق بقية مواطني الشعوب العربية ، فكان ولاؤها الكامل للثقافة الغربية ، أو بالأحرى للجانب السلبي في هذه الثقافة : العنصرية ، وكراهية الإسلام أو فهمه فهما مغلوطا ، والاستسلام لإرادة الأجنبي في القضايا القومية والوطنية ، والتغاضي عن الفكرة الديمقراطية بوصفها آلية من آليات اختيار المسئولين والنواب عن الأمة ونواب المحليات ، ثم إن هذه النخبة كانت وما زالت تحبّذ الاحتكام إلى القوة أو السلاح المادي أو المعنوي الذي تملكه لفرض الرأي أوحسم الخلاف حول القضايا العامة المطروحة.
ويعزى تعثر ثورات الربيع العربي إلى تجذّر هذه النخبة في السياسة العربية ، والإدارة الحكومية ، مما جعلها تملك قوة ذاتية قادرة على مواجهة أي مدّ ثوري أو إصلاحي ، وتعويقه عن تحقيق غايات التغيير وإقامة العدل وبسط راية الحرية والأمل ،وهو ما رأيناه في الدول التي شهدت ربيعا عربيا يبشر بتحقيق الكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .
لقد استباحت هذه النحبة الدماء بغزارة غير مسبوقة ، ولم تخجل من الكذب والتدليس وهي تقمع الملايين ، وفي الوقت نفسه تتحدث باسمهم وتزعم أنها تعبر عن إرادتهم في مصادرة الحريات وتكميم الأفواه ، وإغلاق وسائط التعبير ، وأسْر عشرات الألوف في أقبية السجون ، ومطاردة المتظاهرين في الشوارع والميادين بالرصاص الحي والخرطوش والغاز المسيل للدموع ، ودفع البلطجية والشبيحة ليقوموا بالعمليات القذرة ضد الثوار والأحرار .
ويلاحظ أن الفترة التي أعقبت هزيمة العرب في فلسطين 1948 شهدت انقلابات عسكرية في أهم العوصم العربية كان من أهم ملامحها محاربة الحركات الإسلامية وخاصة التي أبلت بلاء حسنا في هذه الحرب ، مع إلغاء الصورة المتاحة للديمقراطية في تلك الفترة ، وصار القرار الحاسم بيد الحاكم الذي كان عسكريا في الغالب ، أو يحركه العسكر ، وفي الوقت نفسه كانت النخبة تؤيد الاستبداد العسكري أو الاستبداد العسكري الذي تغطيه المسحة المدنية ، وعلى امتداد أكثر من ستين عاما انهزم العرب عسكريا وسياسيا في معظم معاركهم التي خاضوها ، مما مكن العدوّ الصهيوني من الوجود رسميا مع الاعتراف العربي الصريح والضمني بهذا الوجود ، في ظل تخلف مهين أعاد العرب إلى ما وراء مستوى جمهوريات الموز !
ومن المعلوم أن الفكر العسكري أو الاستبدادي بصفة عامة لا يفقه معني السياسة بمعناها الحضاري ، وهي فن الممكن الذي يحقق مصلحة الشعوب على ضوء المعادلات القائمة ، أو علم تدبير المنزل وفقا لتعريف علماء المسلمين قديما . عدم فقه معنى السياسة أدى إلى قرارات عشوائية أو انفعالية أو بمعنى أخف غير مدروسة ، وهو ما أوقع العرب بعامة ودول القيادة العربية – إذا صح التعبير – بصفة خاصة في مآزق استراتيجية عانت منها عناء شديدا ولما تزل ، وتتفاقم المعاناة كلما ضاقت حلقات الاستبداد واشتدت .
صاحب الاستبداد عمليات بطش وقمع وإهدار لكرامة المواطن العربي ، وهي عمليات لا تتوقف بحال ، والغرض منها تحويل الإنسان العربي إلى مجرد عبد يأكل ويسبح بحمد السلطان ، ويهتف له : بالرح والدم نفدي عظمتك !
من حاولوا صناعة نوع من الديمقراطية الصورية المزيفة لم يسمحوا للنواب شبه المعينين أن يتخذوا القرارات التي تعبر عن رؤاهم وأفكارهم ، بل تأتيهم القرارات بغتة من الجهات العليا ليوافقوا عليها . والأمر نفسه ينطبق على الأحزاب الكرتونية المصنوعة أمنيا ، فإنها لا تستطيع أن تتحرك إلا وفق خط مرسوم ، إذا تجاوزته يتم تأديبها بطرق متعددة أشهرها تحريك بعض المنتمين إليها لعمل انشقاق وجمعية عمومية وإعلان رئيس جديد للحزب ، ثم يلجأ الطرفان للجنة الأحزاب أو المحاكم ويتم تجميد الحزب وإنهاء وجوده بطريقة غير مباشرة .
الديمقراطية أو الشورى بالمصطلح الإسلامي ضرورة لتدبير المنزل ، واتخاذ القرار الملائم في القضية المطروحة ، فضلا عن الرقابة على ما يجري في الوطن ، ومتابعته وحمايته من الفساد والخلل ، ودراسة أي قانون أو موضوع سياسي دراسة حقيقية ، وصياغة دستور تراعى فيه العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ، والفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية ، والقضائية ، والتنفيذية . وكلها عناصر ضرورية لبناء أوطان مستقرة تعمل وتنتج وتشارك في الحضارة الإنسانية وتملك القوة التي تحميها وتصنع هيبتها .
لقد ظلت أوربة تتطاحن وتتقاتل وتسفك الدماء فيما بين دولها وشعوبها عدة قرون ، ولم يتوقف سيل الدم والعنف والاضطراب إلا بعد التوافق على الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة ، وتحديد مدة الرئاسة ، وتداول السلطة وفقا لإرادة الناس ، فاستطاعت أن تستقرأمنيا وتتقدم بدون انقلابات أو قلاقل ، وتمكنت من إقامة اتحاد شمل معظم دول القارة يتكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ويستطيع أي مواطن في دولة أوربية أن يعبر إلى بقية الدول ببطاقته الشخصية . أي أقام الأوربيون خلافة تشبه الخلافة الإسلامية الراشدة في عهدها البعيد .
مشكلة المستبدين في عالمنا العربي أنهم يعتمدون على الإعلام الكذاب ومثقفي الزور ومفكري العنصرية لتجميل صورهم الاستبدادية القبيحة وصرف الناس إلى قضايا هامشية أو وهمية ، دون مواجهة المواقف الخطيرة التي تحتاج إلى جهد وجهاد وعمل يقوم على العلم والتخطيط ..
هل تواجه الأمة هجوما عسكريا غشوما مسلحا بالعلم والتدريب وأقوى الأسلحة بأغان وأناشيد من نوع : " ولا يهمّك يا ريّس - ولا يهمك يا ريس - م الأمريكان يا ريس - حواليك أشجع رجال - دا الصبر قاد حرايق - جوّه صدور الخلايق - ما يصنع الحقايق - إلا عبور المحال!!" ؟ هل يمكن أن تُغْني هذه الكلمات عن عمل جاد ، وقوات مدربة وسلاح فعال أمام عدو لا يحارب بالأناشيد ؟ على كل لم تُغْن هذه الكلمات ولا غيرها شيئا أمام احتلال مساحات شاسعة من بلاد العرب والمسلمين على رأسها القدس ، كما لم تُغْن عنها خطب الاستبداد والغطرسة التي كانت تتيه وتتفاخر بأن صاحبها " مش خرع زي مستر إيدن! " .
الاستبداد يحُول بين الناس وبين الحرية ، ويحوّلهم إلى عبيد ، ويعرّض البلاد لخراب عاجل . فالعبيد لا يستطيعون الدفاع عن أوطانهم ، ولا يقدرون على حمايتها أو صيانتها ، فضلا عن بنائها !
وعادة فإن النخبة المثقفة المؤيدة للمستبد المهزوم الفاشل لا تناقش القضايا الجوهرية أو القضايا التي تعني الناس وتفتح لهم مخرجا من الأزمات، بل تنحرف إلى قضايا هامشية بل مفتعلة ولا مسوغ لها ، مثلما نسمع أو نقرأ عن التبشير بما يسمى الثورة الدينية في بلاد المسلمين ، وكأن الإسلام كهنوت وكرادلة وحرمان أوغفران يوزع صكوكه رجال دين يتحكمون في البلاد والعباد ، ومثلما نسمع أو نقرأ من صعاليك الثقافة عن رفض مصطلح الأمة الإسلامية ، وإنكار أن تكون هناك راية تجمع المسلمين في إطار واحد يعترف بالشعوب والقبائل والخصوصية البشرية في البيئات المختلفة .
من المؤكد أن مناخ الشورى الحقيقي يمنح الشعوب حرية الحركة ويحفزهم على النشاط والعمل ، ويدفعهم إلى الإنتاج والإبداع ، ويُظهر أفضل ما لديهم من طاقات وأفكار وقدرة على المشاركة . أما مناخ الاستبداد فهو أساس الفشل والإخفاق وأس الفساد والظلم ، والحاضنة الطبيعية للاضرابات والعنف وعدم الاستقرار .
السياسة العربية تتخبط ، لأنها لم تصل حتى اليوم إلى التوافق والتعايش من خلال الديمقراطية أو الشورى ، وتسقط في دركات التخلف والانحطاط الحضاري والإنساني ، وإذا كانت النخب الحاكمة تظن أنها تمكنت من رقاب الشعوب بالثورة المضادة للربيع العربي ، فمن المؤكد أن هذه الشعوب التي تهتف بالحرية في مظاهرات مستمرة منذ عشرين شهرا وتواجه الرصاص الحي لن تتراجع ، فقد ذاقت طعم الحرية ، وعرفت معنى الكرامة ولن يطفئ لهيب الثورة إعلام كذوب ، ولا قوة غشوم !
ومهما قيل عن سلبيات للديمقراطية ؛ فهي في كل الأحوال أقل من خطايا الديكتاتورية والاستبداد ..والحاكم الصالح هو الذي يودع شعبه بعد انتهاء مدته مبتسما ، ويودعه شعبه بالورود والزهور .. مثلما حدث مع خوسيه موخيكا الرئيس الفقير الذي قال لشعبه وهو يسلم خلفه الحكم أنه سيبقى معهم بمشاعره وجهده :
" لن أرحل..سأرحل عندما ألفظ أنفاسى الأخيرة..فأينما كنت سأكون معكم..شكرا أيها الشعب العزيز".