العلمانية في بلادي والحصاد المر

إحسان الفقيه

(ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بُني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر).

د. فيتز جيرالد

"شر قد انتصر على شرٍ آخر".

هذا هو أنسب وصف لفوز العلمانية في معركتها ضد الحكم الكنسي الثيوقراطي في أوروبا، فالغرب الذي كان يرزخ تحت نيْر حكم الكنيسة، واستبدادها، ووقوفها حجر عثرة في سبيل العلم والتقدم، واستغلال القساوسة سلطتهم الدينية في تحصيل نزواتهم ومآربهم الخاصة وقمع الناس هو ذاته الغرب الأجوف، الذي انقطع بكل صلة بالسماء، وغرق في أوحال المادية والبهيمية.

*لم يكن عجيبا أن يثور الناس على استبداد الكنيسة التي ادّعت لنفسها الحق الإلهي وتاجرت بصكوك الغفران وإقطاعيات الجنة، في الوقت الذي مارست فيه أبشع وسائل التعذيب والقتل ضد مخالفيها، وواجهت الاكتشافات العلمية بتهم الهرطقة وما يترتب عليها من حرق وقتل، وحالت بين البشر وبين فطرتهم وجبلتهم.

وجاءت نظرية دارون في أصل الأنواع، لتقطع صلة الإنسان بالسماء، وتُوهمه عدم الارتباط بأي مؤثر خارجي، ونسف فكرة الدين، ليأتي فرويد ويكمل المنظومة البهيمية بالتفسير الجنسي للسلوك الإنساني.

*وتمّ التكريس لنسبية القيم، ففقد الإطار الأخلاقي البشري العام ثباته، وتلون وفق قانون المصلحة، وامتدّت النسبية لتشمل العقائد والأخلاق، وأصبحت قانونا يحكم على الظواهر الطبيعية والمجتمعات البشرية، وهكذا انتصر الشر على الشر.

ودخلنا جحر الضبّ

وعلى الفور، ربط الذين وقعوا فريسة الهزيمة النفسية، وآخرون من المتآمرين على الأمة، بين تقدم الغرب وبين نبذ الدين، فسهّلوا تمرير العلمانية إلى بلادنا.

توغّلت وتغوّلت العلمانية، وهيمنت على الأنظمة العربية، ووجدت مكانا لها في شتى مناحي الحياة العربية، كلٌ يرى أن الدين لا دخل له بالسياسة، ولا النظام الاقتصادي للدولة، ولا الإعلام، ولا العلاقات الاجتماعية.

وصار الدين مجموعة من القيم الروحية بين العبد وبين ربه لا شأن له بالحياة العامة، بل لا أبالغ إن قلتُ أن بعض الإسلاميين تأثروا بالمد العلماني، وحصروا أنفسهم في الزوايا والمساجد ودروس العلم، عازفين عن الحياة السياسية والعمل الاجتماعي، غافلين عن كوْن هذا المسلك تكريسا للعلمانية.

الحصاد المر

وأتساءل بعد عقود من صولات وجولات العلمانيين في بلادنا، ما الذي قدموه عبر مشروعهم العلماني للأمة؟

هل نهضوا باقتصاد البلاد وقضوا على الفقر والبطالة والجوع؟

هل قدموا شيئا في مجال الصحة والبيئة، وانتشلوا الناس من سيطرة الأمراض والأوبئة؟

هل طوّروا التعليم وفق منظومة متكاملة؟

كم براءة اختراع سُجّلت في الوطن العربي مقابل ما سجله الصهاينة؟

هل وجدوا لجيوش بلادنا مكانا في سباق التسلح؟

هل طوروا الصناعات الخفيفة والثقيلة؟

هل استغلوا ثروات البلاد من مسطحات مائية ونفط وطاقة شمسية الاستغلال الأمثل؟

ماذا قدموا للناس؟

لا شيء، مجرد أفكار، ونظريات، ومُهاترات، وصراعات...

كل ما فعله التيار العلماني في بلادنا، أنه ناهض الفكرة الإسلامية ونابذها وناجزها وشغَّب عليها، وجعلها غريبة في موطنها.

*فليس للعلمانية في بلادي رصيد من العمل على أرض الواقع؛ إلا في مجال مواجهة الإسلاميين والحكم الإسلامي، هذا ما اقتاتوا عليه طوال هذه الفترة.

*المجتمعات الإسلامية قبل توغّل العلمانية كانت لها بلا شك أزماتها وأمراضها، من استبداد وديكتاتورية من قبل الحُكّام، وصراعات داخلية، وفقر ونحوه، لكنها كانت أزمات مؤقتة، فهي تحتفظ بهويتها الإسلامية التي لا تُنازع عليها، وتجتمع عليها كلما توافرت ظروف الوحدة.

فكان الناس في السابق ينطلقون من تلك الهوية ويؤمنون بأحقيتها في الهيمنة على مناحي الحياة، حتى وإن قصروا في تطبيقاتها العملية.

*أما اليوم ومع سيطرة العلمانية على المجتمعات الإسلامية، فأصبحت هناك فجوة بين الشعوب في كثير من قطاعاتها وبين الفكرة الإسلامية الخالصة، خاصة وقد تبنّت الأنظمة العربية مبادئ العلمانية واصطبغت بها ووظفت إعلامها ومؤسساتها الصلبة في ترسيخها.

*العلمانية في بلادي ينطبق عليه الوصف النبوي: (لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى)، فلا نجح العلمانيون في صناعة نهضة ببلادهم، ولا هم تركوا الفكرة الإسلامية كما هي على حالها.

إن إقصاء الدين عن حياة المسلمين يستحيل معه صناعة نهضة، لأن الفكرة المركزية لأي نهضة، لابد وأن تنبُع من هوية المجتمع وثقافته الأساسية، ولا يمثل الأمةَ في هذا البعد سوى الدين الإسلامي، دين الأغلبية في المجتمعات العربية.