في الانتخابات التركية

ما أسهل عند تحليل نتائج انتخابات أن يُفسّر هبوط حزب من علٍ إلى أسفل، أو من صعود حزب إلى علٍ من المنطقة الرمادية، أكان ناشئاً أم في حالة تقدّم. ولكن يصعب عند هبوط نسبة تأييد حزب عشرة في المائة منتقلاً من الحكم بأغلبيته البرلمانية إلى حكم بالائتلاف وإن بقي الحزب الأول في ما حاز من أصوات ومقاعد في البرلمان. 

هذا هو حال حزب العدالة والتنمية التركي، فقد حافظ على مواقع الحزب الأول في الانتخابات وبفارق كبير بينه وبين الثاني الذي يليه. ولكنه لم يستطع أن يرفع، كما كان يطمح، من مستوى تمثيله البرلماني إلى حد يسمح بتغيير الدستور، بلا معونة من أحد غير حزبه في البرلمان. 

هذا الجانبان الأخيران اعتُبِرا نكسة لحزب العدالة والتنمية، أو ضربة لطموح رجب طيب أردوغان. وقد اعتبرته المعارضة فشلاً انتخابياً، يؤشر إلى الدخول في بدايات الأفول. 

طبعاً، إن قراءة نتائج الانتخابات في هذه الدورة بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، وإلى أردوغان نفسه، مسألة ما زالت في حدود النسبية، وليست النوعية. فالوضع قابل للتراجع أكثر كما هو قابل للتقدم مرة أخرى. فعلى الأقل لم يبرز له بديل، أو منافس حقيقي إذ ما زال حزب العدالة والتنمية ممتطياً سرج الحصان. 

ولكن مع ذلك لا يستطيع طيب أردوغان إلاّ أن يبحث عن أسباب هذه الخسارة التي مُنِيَ بها. لأنه إذا لم يحدّدها جيداً، ومن ثم يسارع إلى علاجها فسوف يخسر أكثر، أو في الأقل، سيصبح تقدّمه عسيراً مستقبلا.  

ثمة إجماع لدى المحللين الخبراء في الشأن التركي داخلياً وخارجياً، كما بين أغلب السياسيين، بأن ما أصاب حزب العدالة والتنمية من قوّة انتخابية بعد فوزه الأول، والذي يعود إليه الفضل في استمرار حكمه 13 سنة متواصلة، إنما يعود لنجاحاته الاقتصادية، وما حققه الاقتصاد التركي من النمو، يُحسَب بالقفزات (7% سنوياً)، كما لِما قام به من مشاريع كبرى على مستوى البنية التحتية أو على مستوى المشاريع العملاقة: وقد وصلت إلى حد البدء بمشروع بناء أكبر مطار في العالم، وبشق قناة موازية للدردنيل وبحجمها وأهميتها. 

من هنا يُفسَّرُ أيضاً محافظة حزب العدالة والتنمية على مرتبة الحزب الأول في الانتخابات. وذلك بالرغم مما اعتُبِرَ تراجعاً، أو ضربةً أو نكسةً، أو فشلا. 

فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من أن يبحث عن أسباب غير تلك المتعلقة بالجانب الاقتصادي والمعيشي، بالرغم من هبوط معدل النمو إلى 3% في السنة. وهي من المعدلات العالية جداً قياساً بالدول الأوروبية أو أمريكا. 

ومن هنا أيضاً يُفترض بأن يبحث في تأثيرات السياسة الخارجية على الناخب، بل وحتى على الاقتصاد إذا ما تراجع نسبيا. 

الكل يذكر النظرية السياسية التي اعتمدتها حكومتا أردوغان الأولى والثانية وهي "سياسة صفر مشاكل". وذلك على مستوى العلاقات بالدول الأخرى عامة. وبالفعل مورِست هذه السياسة ليس على مستوى الهبوط بأية مشاكل إلى مستوى الصفر فحسب وإنما الارتفاع، أيضاً، بها إلى مستويات أعلى فأعلى كما حدث، مثلاً، مع إيران وسورية وقطر ودول اخرى، عدا العلاقة بدولة الكيان الصهيوني التي أخذت بالتدهور منذ حرب العدوان على لبنان في تموز/يوليو 2006، كما حرب العدوان الصهيوني على قطاع غزة في 2008/2009، ثم شهدت العلاقات التركية – الصهيونية تأزماً حاداً بعد الجريمة التي ارتُكِبَت بحق سفينة مرمرة التركية الذاهبة لكسر الحصار عن قطاع غزة. 

لقد أدّت هذه السياسة إلى قفزات في العلاقات الاقتصادية التركية – السورية – العربية عموماً كما على مستوى عدد كبير من بلدان آسيا وأفريقيا. وهذا ما تؤكده الإحصاءات والأرقام، كما يشهد عليه كل من يمر بمطار اسطنبول وهو يرى حشود الزوار والسياح، وأغلبهم تدفقوا بعد إلغاء التأشيرات.

لهذا فقد ثبت أن سياسة "صفر مشاكل"، والارتفاع بها إيجابياً أعلى فأعلى لعبت دوراً حاسماً في تعزيز التطور الاقتصادي الذي وصل في ظلها إلى 7% وأحياناً أكثر، وقد كان لها، معنوياً واقتصادياً ورمزياً (بالنسبة إلى ارتفاع مكانة تركيا)، الأثر الإيجابي داخلياً في الناخب التركي. علماً أن ما حاز عليه حزب العدالة والتنمية عندما تسلم السلطة كان 37%، وهي نسبة أقل من نسبته الحالية 41% التي اعتُبِرت نكسة قياساً إلى النسب التي وصلتها في الدورتين الثانية والثالثة في الانتخابات. 

لقد حدث التغيير في سياسة صفر مشاكل بعد بضعة أشهر من مطلع العام 2011 وقد بدأ بتدهور العلاقات التركية –السورية، كما التركية – الليبية، إذ بدأت سياسة صفر مشاكل تتحوّل، عملياً، ومن دون تنظير للتحوّل، إلى 70% مشاكل: أولاً مع سورية فالإمارات والأردن فمصر (بعد 3 تموز/يوليو 2013)، وثانياً مع إيران ولبنان حول سورية مع بقاء علاقات قويّة بإيران في مجالات أخرى. وقد تأزمت العلاقات التركية – القطرية تحت السطح في أكثر من مناسبة ما بين 2011 و2012 لأسباب تتعلق بدور كل منهما في العلاقة بالمعارضة في كل من سورية وليبيا. وثالثاً: تأزمت العلاقات التركية مع الناتو (أمريكا-أوروبا) بسبب امتناعه عن تأمين حظر جوي سوري حول منطقة عازلة، أو رفضه تكرار ما فعله في ليبيا، كما طالبه أردوغان. 

هذا التحوّل في السياسات الخارجية التركية، وبغض النظر عن التبريرات (المسوّغات) المقدّمة من رئيس الوزراء أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو، ثم رئيس الجمهورية اردوغان ورئيس وزرائه داوود أوغلو، ترك أثره السلبي بلا جدال في الاقتصاد، كما في أجزاء مهمة من الرأي العام التركي في الحالتين كما يقارن ما بين 2002 و2010 من جهة وبين 2011 و2015 من جهة أخرى. فما قد بني من إيجابية، مثلاً في علاقات حزب العدالة والتنمية مع الأكراد تحوّل إلى سلبية بعد الموقف التركي المرتبك من معركة عين العرب (كوباني) حيث بدا، ولو ظاهرياً، أنه ضدّ الأكراد. 

كما أن الموقف الحاد الذي اتُخِذَ ضدّ بشار الأسد، في الوقت الذي كان بيد تركيا أوراق قوية للغاية لتلعبها في الحل السياسي المتوازن لا سيما بالتفاهم مع إيران والأسد، فقد ذهب الموقف إلى تشجيع الحل العسكري. مما شكل عاملاً خلافياً داخلياً لا سيما مع الأكراد والعلويين وعدد من القوى السياسية. 

بكلمة، لا يمكن أن يُقرأ التراجع الذي حدث في الانتخابات الأخيرة بعيداً عن انعكاسات السياسة التركية الخارجية (المأزومة والمضادة لنظرية صفر مشاكل) على الداخل التركي. وذلك بغض النظر عما يمكن أن يسوقه المدافعون عن السياسات التركية كما عبّرت عن نفسها في سورية وعدد من البلدان العربية، ولا سيما مصر والسعودية (تحسّنت مع السعودية في الأشهر الثلاثة الأخيرة، ولكن بخجل وبقيت شديدة التوتر مع مصر والإمارات) فضلاً عن احتمال تدهورها مع إيران. 

وهذا أمر يجب أن يُقرّ به ويدركه جيداً كل الذين يدافعون عن تلك السياسات ويصرون على المضي بها. ومن ثم يبحثون عن أسباب أخرى لما حدث من تراجع في نسبة التصويت. وهذه أسباب قد يكون بعضها موجوداً ولكن تأثيره لا يقاس بتأثير السياسات الخارجية. 

أُريدُ من هذه القراءة أن تَفْهَم العلاقة الحيّة المتبادلة بين السياسة الخارجية من جهة وبين الاقتصاد وأجزاء مهمة من الرأي العام التركي من جهة أخرى. وذلك في حالتَيْ الصعود والهبوط، ولو بنسب جزئية تتراوح بين 10 و20% حتى الآن. ففهم هذه العلاقة والتقاط قانونها التركي يفسّر، من دون أن يكون العامل الأوحد، ما حدث من نتائج الانتخابات الأخيرة، كما الذي حدث في نتائج الانتخابات التي سبقتها لا سيما في الدورتين الثانية والثالثة بعد دورة 2002.