هل من أسطول حرية عربي لكسر الحصار الخانق على أهلنا في غزة؟
قد تكون تركيا أجدر دول العالم استحقاقا لاسم "الدولة الإسلامية"..
تلك التي خاضت على مدى تاريخها العريق العديد من الحروب الهائلة، وهي ترفع راية الجهاد الإسلامي لستة قرون متواصلة، وحمَت المشرق الإسلامي من الحروب الصليبية.
تلك التي تكمُن قوّتها في عمقها التاريخي الذي يُذكّرنا بالإمبراطورية العثمانية العملاقة، والتي وصلت أقصى حدود عظمتها في القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، حيث حكمت مساحات جغرافية وسكانية مترامية لأكثر من 20 مليون كيلومتر.
تلك التي بلغت حدودها من غرب إفريقيا إلى إيران وآسيا الوسطى شرقا، ومن جنوب الجزيرة العربية جنوبا، إلى أن وقفت بجيوشها الجرارة على أسوار فيينا عاصمة النمسا، وطرقت أبواب روما عاصمة البابوية في إيطاليا.. منطلق الحروب الصليبية في قلب أوروبا.. فتحول البحر المتوسط إلى شبه بحيرة عثمانية..
تلك الإمبراطورية التي حملت لواء الإسلام، وحفِظتْ بيضته ستة قرون أمام جيوش 22 دولة أوروبية في الغرب، بالإضافة إلى الشيعة الصفويين عملاء البرتغال، الذين التفّوا لتطويق العالم الإسلامي وهدم الكعبة في الشرق.
* التالي من السطور لم نكتبه بدافع العاطفة والانحياز بل هو بعض مشاهدٍ حقيقية، وأرقام دقيقة، وإحصاءات موثقة، وملامح واضحة، تؤكد أن تركيا الجديدة تُناصر قضايا الإسلام بقوة واقتدار وبحنكة سياسية، وتفرض وجودها الآن في العالم سواء أأقررتم بذلك او أنكرتموه..
ونعم.. أصبح الكثيرون من أبناء الأمة يُراهنون على الحصان التركي، فيما يراقبه آخرون بقلق، بما في ذلك الأمريكان والأوروبيون والروس وحتى اليهود..
ونعم.. حرب صليبية تشُنّها جبهات متعددة على ديار الإسلام، وإغماضُ أعيننا عن هذه الحقيقة خيانة عظمى، ومع الأسف الشديد فإن تورّط بعض حُكامنا في التماهي مع دمغ المسلمين بالإرهاب، أعطى تصريحا مفتوحا للغرب الصليبي اليهودي، والمد الصفوي الفارسي بمحاصرة ديار الإسلام.
إن الورقة الرابحة بالنسبة إلى المسلمين العرب، هي التحالف مع تركيا التي حمَت المشرق لقرون عديدة، فالأتراك يعرفون دورهم المنوط بهم، ولا يتجاهلون تاريخهم الطويل في الدفاع عن السنة ضد الأحلام الصفوية الصليبية.
تركيا الآن بقيادة أردوغان، تسعى لإزالة ميراث الكراهية والعنصرية والشوفينية بين العرب والأتراك، ونستطيع أن نُدلّل على محبتهم للعرب بأنهم كانوا ينشرون اللغة العربية (وليس التركية) في الدول الإسلامية التي كانت ترزخ تحت نير الاتحاد السوفيتي السابق، والاستبداد الشيوعي الملحد لمدة 80 عاما.
وكلنا شاهدنا الموقف التركي الحازم تجاه الصين في تعدياتها على (الإيجور) المسلمين في إقليم (تركستان الشرقية) الخاضع للاحتلال الصيني.
ولا تفوتني الإشارة إلى وقوف الأتراك إلى جانب أذربيجان؛ مع أن غالبية الشعب الأذري من الشيعة وليسوا من السنَّة، ولكنهم احتاجوا مساعدة تركيا بعد أن تخلَّت عنهم إيران، بل ووقفت إيران مع عدوهم الأرمني ضدهم!!
ولم تتوقف مظاهر التقارب التركي المتنامي مع العالم الإسلامي عند هذا الحدِّ المشار إليه، بل تجاوزت ذلك إلى معظم دول العالم الإسلامي.
وأرغب في التنويه إلى أن بعض القراء يخلط بين تركيا (الكمالية) العلمانية وبين تركيا (الأردوغانية) بصبغتها الإسلامية.
* فتركيا الكمالية هي التي سيطرت عليها المؤسسة العسكرية لعقود عبر الانقلابات العسكرية، وإعدام كل من سوّلت له نفسه العودة إلى الجذور الإسلامية.
* تركيا العلمانية هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي اعترفت بدولة إسرائيل عام 1949، وانضمّت إلى حلف الأطلسي عام 1952.
* تركيا العلمانية هي التي تحالفت مع فرنسا لسلخ لواء الأسكندرون من سوريا عام 1939، وصولا إلى معارضة استقلال الجزائر عن فرنسا، والتصويت ضد القرار في الأمم المتحدة..!!
* ما نتحدث عنه قطعا هي تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، التي أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنها عادت - وبقوة - إلى ساحة العمل الإسلامي، بل لا نبالغ إن قلنا: إنها أصبحت مرشَّحة بشكل واضح لقيادة القاطرة الإسلامية نحو النهوض..!!
* أسطول الحرية الذي انطلق بإشراف هيئة الإغاثة التركية ( IHH) بتاريخ 29 أيار/ مايو 2010، والذي يحمل 10 أطنان من المساعدات الإنسانية لكسر الحصار عن 2 مليون فلسطيني، يحاصرهم الكيان الصهيوني، بمساندة عرب الخنوع والاعتلال، وبجريمة مركبة عبر إغلاق المعابر وبناء السياج الفولاذي وعدم السعي إلى كسر الحصار الآثم..
* مصر (فك الله أسرها) لم تكتف بالحصار فقط، بل اعتقلت الجرحى الفلسطينيين الـ 51 ، والذين عادوا لتلقّي العلاج بعد حرب غزة، وتم تعذيبهم بالصعق الكهربائي وبطرق وحشيه.
تركيا دخلت التاريخ عبر بوابة فلسطين، ومصر خرجت منها مع الأسف، فكم من مريض قتله الانتظار على المعابر المُغلقة؟
وكم من ملهوفٍ ضاعت استغاثاته وآماله؟
فهل من أسطول حرية عربي لكسر الحصار عن غزة !!!!
* الدور التركي الجديد ونصرة القضايا العربية و الإسلامية وفي مقدمتها القضية المركزية قضية فلسطين:
1- الشعب التركي من أشد شعوب العالم حميةً للإسلام، ويكفي القول أنه وبعد 90 عاما من العلمانية والتغريب ما زال متمسكا بهويته الإسلامية.
2- الشعب التركي جَلِد، ويعمل بحماس شديد، وتفيد الإحصائيات أن القوى العاملة النشطة في تركيا عام 2014 بلغت 26 مليونا و500 ألفا، وهو ما يفسر النمو الاقتصادي المتصاعد في تركيا.!!
3- تركيا المسلمة مشهورة بكثرة وجمال مساجدها، وحسب وزير الشؤون الدينية التركي (محمد غورميز) عام 2014 أنها بلغت 86 ألفا و700 مسجد.
كما أوضح (غورميز) أن 99% من هذه المساجد تَم بناؤها بتبرعات من الأهالي المسلمين..!!
4- الجيش التركي ثاني أكبر جيش في حلف الأطلسي بعد أمريكا، والثامن عالميا، وأكبر من جيشي بريطانيا وفرنسا مُجتمعيْن.
وقد عملت حكومة العدالة والتنمية على الاعتماد على نفسها في تسليح وتدريب الجيش وتصميم الطائرات الحربية والحرب الإلكترونية..!!
5- تركيا المسلمة اتجهت لتوطيد العلاقة مع الدول العربية والإسلامية في عام 1996 حيث دعت إلى تكوين (مجموعة الدول الإسلامية الثمانية) إبّان تولي حزب (الرفاه) الإسلامي بقيادة (نجم الدين أربكان).
وكانت المجموعة تهدف إلى ضم كبرى الدول الإسلامية من حيثُ السكَّان والإمكانات الاقتصادية، من قارتي أفريقيا وآسيا.
6- مع وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 وتلاميذ أربكان العباقرة (عبد الله غُل والطيب أردوغان) اتجهت البوصلة التركية نحو المشرق، فتعزّز الاندماج مع القضايا العربية والإسلامية، وعادت تركيا إلى ساحة العمل الإسلامي
7- الاختبار الأول لحزب العدالة والتنمية، كان غزو أمريكا المشؤوم للعراق 2003م، حيث أن البرلمان التركي صوت بـ (لا) في 1 آذار/ مارس من العام نفسه، على الخطة الأمريكية (لإرسال 62 ألف جندي أمريكي إلى تركيا لفتح جبهة قتال شمالية ضد العراق)، ورفضت تركيا معونة مالية مقدارها بليون دولار لفتح المجال الجوي التركي!!
8- على الصعيد الإنساني في عام 2006م، تعدَّدتْ مناسبات جمع التبرعات للشعب الفلسطيني في تركيا، وشاركت في بعضها أحيانًا 91 منظمة أهليّة ورسمية، وتعدّدت التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، لاسِيَّما بعد الاعتداءات على قطاع غزة على خلفية أسْر الجندي الصهيوني (جلعاد شاليط) في أواخر حزيران/ يونيو 2006!!
9- الأحزاب التركية العلمانية والإسلامية دعت إلى مليونية في (إسطنبول) في 9 تموز/ يوليو 2006 للتنديد بالممارسات الوحشية الإسرائيلية.
ومع اشتداد العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان وحرب تموز 2006، استقال العديد من النوّاب الأتراك من عضوية (لجنة الصداقة البرلمانية التركية الإسرائيلية).
10- تركيا المسلمة هي الدولة الوحيدة التي استقبلت قادة حماس على أراضيها بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية عام 2006م، مُتحدية الكيان الصهيوني والقوى الدولية بما فيها أمريكا وأوروبا..!!
11- على الجانب الإغاثي، تم افتتاح أفرع لمؤسسات الإغاثة التركيّة في غزة، منها:
جمعية (ياردملي) في غزة، ويُعدّد منَسّقُها العام الخدمات التي تقدِّمها مؤسسته في كفالة 4500 أسرة غزيه. ويقول إن خدمات الإغاثة المقدمة تشمل تقديم المساعدات في المواسم والأعياد وشهر رمضان، والحوادث الطارئة، مشيرا إلى أن هذه المشاريع بدأت مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة أواخر 2008.
ومنها مؤسسة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (إي ها ها) بغزة، ويوضِّح ممثلها (محمد كايا) أنَّ الشعب التركي ومؤسساته الإنسانية تخص الشعب الفلسطيني بنسبة كبيرة من الدَّعْم وتقديم المساعدات.
وأشار إلى أنَّ مجموع ما قدَّمته مؤسسته من مساعدات وصل إلى 25 مليون يورو في سنة 2009..!!
12- بنت تركيا في عهد العدالة والتنمية سياستها الخارجية على تصفير النزاعات، أي: (الوصول بالنزاعات إلى درجة الصفر)، بمعنى التغاضي عن ميراث كبير من الكراهية مع دول الجوار، وفتح صفحة جديدة لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
13- ولعل من أهم نتائج هذه السياسة أن أذابت تركيا الجليد بينها وبين سوريا، ووصل التنسيق بينهما إلى حد إلغاء التأشيرات، فأصبح متاحا للسوري أن يذهب إلى تركيا لمدة تسعين يومًا دون تأشيرة.
14- بلغ الاندماج التركي في القضية الفلسطينية ذروته في حرب غزة الأولى 2008-2009م، فاجتاحت المظاهرات أرجاء تركيا، واحتشدت الجموع أمام القنصليات الأمريكية والإسرائيلية.
بل وقاطعت تركيا "مؤتمر التعاون الاقتصادي والتنمية" الذي عقد في القدس بسبب حرب غزة..!!
15- عام 2008 إبان الحرب على غزة وفي سابقة فريدة من نوعها، قام رئيس جامعة اسطنبول "مسعود بارلاق"، بطرد السفير الإسرائيلي من مقر رئاسة الجامعة، احتجاجا على حرب الإبادة في غزة واصفا تصرفات السفير الصهيوني بالمتغطرسة..!!
16- تصاعد الموقف ووصل ذروته إلى أعلى مستوى حين رأينا "أردوغان" يثور على سفاح الكيان الغاصب "بيريز" في منتدى دافوس الاقتصادي، ويدهش العالم أجمع.
17- ازداد الأمر حدة، وبلغت القطيعه مداها في تشرين الأول/ أكتوبر 2009م، عندما أعلنت تركيا إلغاء مناورات عسكرية كبيرة كانت ستُجرى على أرضها بعنوان: "نسر الأناضول"، وبمشاركة الكيان الإسرائيلي ودول حلف الأطلسي وفي مقدمتها أمريكا، وذلك بسبب اشتراك الطائرات الصهيونية في المناورة، وقالت تركيا بوضوح: "لا نُريد مشاركة الطائرات التي قصفت الأطفال والنساء الأبرياء في غزة".
18- أسطول الحرية الذي انطلق في 31 مارس 2010م، وشارك فيه 750 ناشطا من 40 دولة، بينهم 10 نواب من الجزائر لكسر الحصار عن 2 مليون فلسطيني، ويحمل 10 أطنان مواد إغاثية، و100 منزل جاهز، و500 عربة لخدمة المعاقين حركيا..!!
19- الحدثَ الأهم هو قيام الكيان الصهيوني بالاعتداء على أسطول الحريَّة الذي سعى لكسر الحصار عن غزة وذلك في 31 أيار/ مايو 2010 .
وشارك في الهجوم 30 بارجة، و4 فرقاطات، وغواصتان صهيونيتان، بالإضافة إلى المروحيات العسكرية، والمئات من الكوماندوز.
واستشهد في الهجوم 19 شخصا، منهم 9 أتراك، وأصيب 69 آخرون، بينما التزم العالم الصمْت.
20- ولعلكم استمعتم إلى خطاب أردوغان - المتخصص في توجيه الصفعات تلو الصفعات لقادة الكيان الصهيوني - أمام البرلمان التركي أعقاب الهجوم الغاشم على أسطول الحرية.
فهي من المرات النادرة بتاريخ العرب والمسلمين المعاصر، نسمع حاكما مسلما يصف الواقع المؤلم بلا خوف ولا نفاق، فينعت إسرائيل بـ الدناءة والإرهاب، وأنها قاطعة طريق، ومستهترة، وإرهابية حقيرة..
21- في رد سريع وحاسم على الهجوم قامت الحكومة بالإجراءات التالية:
سحب السفير التركي من تل أبيب على الفور وطرد السفير الصهيوني...
إلغاء ثلاث مناورات عسكرية مبرمجة تباعا كانت ستجرى مع الجيش الصهيوني...
دعوة مجلس الأمن لاجتماع عاجل وطارئ...
إلغاء مباريات رياضية كان المنتخب التركي حينها في إسرائيل...
دعوة حلف الأطلسي لاجتماع واتخاذ قرار حاسم...
22- وأخيراً، إلى مُدّعي المقاومة والممانعة، فإنه ردا على الهجوم الصهيوني على أسطول الحرية ونكاية بالولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، أجرت تركيا المناورات العسكرية المشتركة مع سوريا عام 2010 في تحدٍ صارخ، والتي كان من المقرر لها أن تجري مع حلف الأطلسي والكيان الصهيوني.
ويا ليت بعض قومي يُصلحون لنبحث عن أجمل ما فعلوا ونُشير اليهم باستحقاق وابتسامة الرضا تملأ القلب والعنينين.
وقد حدث وتحدثنا سابقا عن مواقف قطر المُشرّفة من قضايا الأمّة وعن تعديل المسار وتصحيح السياسات الداخلية والخارجية لدى العهد السعودي الجديد..
فمرحى لشُرفاء الأُمّة..
وسوم: العدد 626