مراكز صنع القرار الإيرانية، الأداة العلمية الثابتة لمشاريع التوسع والتمدد
في دراسة قيّمة صادرة عن مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث حاولت تفكيك خطابات مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الإيرانية، الرسمية وشبه الرسمية، وأثرها في صناعة القرار السياسي. والجدير بالذكر أن هذه الدراسة اعتمدت على مصادر أصلية باللغة الفارسية تمكنا من وضع اليد على آلية صنع القرار من منبعه، وناقشت الدراسة هذه الخطابات ذلك عبر ثلاثة مستويات: 1: الخلفية التاريخية لمراكز صنع القرار بإيران، 2: المراكز البحثية وعلاقتها بصنع القرار في إيران، 3: توجهات المراكز البحثية الخارجية.
1. الخلفية التاريخية لمراكز صنع القرار بإيران:
إن مراكز صنع القرار في إيران تأخذ أهمية كبيرة خاصة في ظل مشروعــات تمــدد وطموحــات تتصــف بالديمومــة، ولا تتغيــر بتغـيـر الأنظمــة السياســية أو الأشــخاص أو الكــوادر. وإليكم لمحة تاريخية سريعة عن تاريخ الاهتمام بمراكز الأبحاث هذه.
حقبة الشاه: بنــى الشــاه قــراره في مجــال الطاقــة النوويــة علــى دراســة سياســية نصحتــه بــأن ينــوع الطاقــة في بــلاده، بالرغــم مــن عــدم الحاجــة الإيرانيــة إلى الطاقــة الذريــة، واعتمادهــا بشــكل أســاسي علــى النفــط في الطاقــة اللازمــة للصناعــة، خاصــة أن إيــران كانــت قــد بــدأت بالفعــل في بنــاء عــدد مــن المصانــع الضخمــة المختصــة بالصناعــات الثقيلــة في أصفهــان وغيرهــا بخـبـرات روســية، ولم تكــن في حاجــة وقتيــة للطاقــة النوويــة. وبالفعل أنشــأ الشــاه مفاعلاتــه النوويــة التــي اســتقدمها مــن جهــات ثــلاث: الولايــات المتحــدة الأمريكيــة وألمانيــا الغربيــة وفرنســا.
وقد كان الشاه رجلاً متابعاً باســتمرار للأحداث الجارية عــن قــرب، حيث كان يُزّود بالتقييــمات السياســية التــي يُعدها الخبراء السياســيون في الــوزارات والمؤسســات الأمريكيــة التــي تحصــل بدورهــا عــلى مكافــآت ماليــة مــن إيــران.
بين الخميني ورفسنجاني وخاتمي: ولا يوجــد دليــل علــى أن الخميني ورجاله اهتمــوا كثيــراً بتلــك النوعيــة مــن مراكــز صنــع القــرار في الوقــت الــذي كان فيــه العــالم الحديــث كان قــد بــدأ بالفعــل في الاهتــمام بمراكــز الدراســات السياســية والاستراتيجية، كأداة لا يمكــن الاســتغناء عنهــا لاســتيضاح المواقــف الدوليــة والتفاعــلات الداخليــة والتــي عــلى أساســها تبنــي الــدول قراراتهــا الصعبــة، وتؤســس لعلاقاتهــا بأطــراف النــزاع والوئــام عــلى حــد ســواء. إلى أن تولى هاشــمي رفســنجاني الســلطة في العام 1989م، حيث بدأت إيــران في إنشــاء الجامعــات والاهتــمام بالبحــث العلمــي وأوراق السياســيات كأحــد مباحــث العلــوم الاجتماعيــة والدراســات الإنســانية. وبلغ ذروته في العام 1997م بتــولي الرئيــس محمــد خاتمــي الســلطة في إيــران.
ثم اتخــذ الرئيــس محمــد خاتمــي عــدداً مــن الخطــوات المخالفــة لتوجهــات مؤسســات الدولــة، متجــاوزاً آليــات صنــع القــرار التقليديــة في إيــران. على ســبيل المثال: نــزل الرئيــس الإيــراني محمــد خاتمــي مــن غرفتــه في فنــدق إقامتــه بجنيــف لاســتقبال الرئيــس المصــري محمــد حســني مبــارك في العام 2003م. وقد بُنيّت هذه الخطوة على ورقــة سياســات Policy Paper قرأهــا خاتمــي لأحــد الباحثيــن السياسيين الإيرانيين المختصين في الشــؤون المصريــة، وكانــت توصياتهــا تؤكــد ضرورة التقــارب مــع مــصر.
روحاني وتوصيات تقدير الموقف: تــولى الرئيــس حســن روحــاني الســلطة بإيــران في أغســطس/ آب 2013م، وفــور توليــها الســلطة اتخــذ عــدة قــرارات اتضــح أنهــا جــاءت علــى خلفيــة تقديــرات موقــف وتوصيــات تقــدم بهــا عــدد مــن الباحثــين المقربـيـن مــن دوائــر الســلطة في إيــران بخصــوص الملــف ذي الأولويــة الكــرى في السياســة الإيرانيــة وهــو: الملــف النــووي الإيــراني، وإزاء هــذه الدراســات السياســية صــدر قــراران مفصليــان في السياســات الإيرانيــة تجــاه العــالم. أولهما: تعيــن الســفير محمــد جــواد ظريــف وزيــراً للخارجيــة، نظراً لخــبرته في محافل الأمــم المتحدة، حيث كان ســفيراً لإيــران في الأمــم المتحــدة (2002-2007). ثانيهما: نــزع صلاحيــات التفــاوض النــووي مــن هيئــة الأمــن القومــي الإيــراني برئاســة ســعيد جليــي وإســناد الملــف النــووي كليــاً إلى وزارة الخارجيــة، في رســالة إلى الغــرب مفادهــا أن الملــف النــووي الإيــراني أصبــح بالنســبة لطهــران في عهــد روحــاني قضيــة دبلوماســية -سياســية في المقــام الأول لا علاقــة لهــا بالأمــن. وبعد جــولات تفــاوض متعــددة الأغــراض تكللــت بالتوقيــع علــى الاتفــاق الإطــاري النــووي في جنيــف فجــر 24 مــن نوفمــبر/ تشريــن ثــاني مــن العام 2013م، أب بعد قرابــة 3 أشــهر فقــط مــن تــولى روحــاني السلطة في إيران.
2. المراكز البحثية وعلاقتها بصنع القرار في إيران:
ترتبــط المراكــز البحثيــة الإيرانيــة ارتباطــاً وثيقــاً بالســلطات في طهــران، ومنهــا مــا تنشــئه الدولــة ضمــن مؤسســات رســمية ومنهــا مــا يتبــع جامعــات حكوميــة، وكثـيـراً مــا ينبــع عــدد مــن المراكــز مــن مؤسســات غــر رســمية تتخــذ صفــة الاســتقلالية، لكنهــا في الحقيقــة تخــدم المؤسســات الرســمية وتقــوم بــأدوار متعــددة؛ أهمها تقديــم تقديــرات مواقــف أو توقع سيناريوهات لحدث مــا قبــل وقوعــه ثــم الدعايــة السياســية للقــرار الســياسي بعــد أن يتــم صنعــه في مؤسســة المرشــد إذا كان قــراراً يتعلــق بالسياســات الخارجيــة، أو مؤسســة رئاســة الجمهوريــة إذا كان قــراراً يُنظّم علاقــة الرئاســة برجــال الديــن أو البــازار أو الأحــزاب السياســية أو حتــى قوانيــن تنظيــم الحيــاة اليوميــة للمواطنــين مثــل حظــر تركيــب الأطبــاق التــي تلتقــط إشــارات القنــوات الفضائيــة مــن الأقــمار الاصطناعيــة أو إغــلاق موقــع التواصــل الاجتماعي فيســبوك وموقــع التدوينــات القصـيـرة تويــتر وغيرهــا، أو توجيــه الرســائل الضمنيــة إلى الــدول أو الجماعــات المســتهدفة.
وهناك أربعة مراكز أساسية تمثل أجنحة صنع القرار السيسي في العاصمة طهران في الملفات الداخلية والخارجية تعمل بمثابة أطراف صنع القرار السياسي للنظام.
مركز دراسات رئاسة الجمهورية: ويهتــم المركــز ـــــ الــذي يــشرف عليــه رئيــس الجمهوريــة بنفســه ـــــ بالدراســات والأبحــاث السياســية والاقتصاديــة وتقديــم المشــاريع والمقرحــات الاستراتيجية لصنــاع القــرار في رئاســة الجمهوريــة في مجــالات العلاقــات السياســية والاقتصاديــة والاجتماعيــة والثقافيــة والعســكرية والدوليــة الخارجيــة، وفقــاً للسياســات العامــة للدولــة الإيرانيــة. حددت رئاسة الجمهورية للمركز ثلاثة عشر هدفاً نذكر منها: تقديم أوراق بحثية علمية استراتيجية توافق السياسات العامة لجمهورية إيران الإسلامية. كتابــة تقديــرات مواقــف عــن الأحــداث اليوميــة الجارية، وتأثيراتهــا الاستراتيجية عــلى المصالــح الوطنيــة الإيرانيــة وسياســات الأمــن القومــي الإيــراني وتقديمهــا إلى رئيــس الجمهوريــة ومؤسســات الدولــة والســلطات المعنيــة كل في الملــف المختــص. إنشــاء مركــز للوثائــق والمكتبــات والمعلومــات ومركــز دعــم البعثــات الخارجيــة.
ويســتضيف المركــز خبــراء سياسيين خارجيــن مــن قــارات العــالم في مجــالات العلاقــات الدوليــة وشــؤون الــشرق الأوســط ويقيــم حلقــات نقــاش في الشــأن ذاتــه. ولعــل أبــرز مثــال علــى ذلــك اســتضافة مركــز رئاســة الجمهوريــة الإيرانيــة للدراســات والبحــوث البروفيسور إيمانويــل فالــر شــتاين في 1 مارس/آذار 2014م، وهو أحد أهــم الخبــراء السياسيين في العلاقــات الأمريكيــة -الدوليــة. ودار الحديث من خلال الحلقة النقاشية حول العلاقات الإيرانيــة -الأمريكيــة والســيطرة الأمريكيــة والنفــوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن العلاقات الإيرانية الدائرة بين إيران والدول الكبرى.
مركز دراسات البرلمان: وهو مركز بحوث البرلمان "الإسلامي"، وقد تأسس في العام 1992م، وبدأ في إنتاج الأوراق السياسية بحلول العام 1995، أي في عهد رفسنجاني، وتقوم مهمته الأساسية على تقديم أوراق بحثية سياسية وقانونية تُمكن النواب وصناع القرار من اتخاذ القرار السياسي السليم خاصة في مسائل التشريعات التي يصدرها مجلس الشورى "الإسلامي" والتي تبنى عليها بقية مؤسسات الدولة.
ويلاحــظ تركيــزه على القضايــا التنمويــة والثقافيــة والاقتصاديــة والقانونيــة الداخليــة. فضــلاً عــن تلــك القضايــا المتعلقــة بعلاقــات إيــران الخارجيــة. علــى ســبيل المثــال: وافــق مجلــس الشــورى الإيــراني بالإجــماع علــى دخــول المصريــين مــت إلى إيــران مــن دون تأشــيرة وفقــاً لورقــة سياســات قُدمت إلى النــواب. ويمكن استعراض بعض آخر الموضوعات التي تطرق إليها مراكز دراسات مجلس الشورى الإيراني في النقاط التالية: دراسة أحكام وتطويــر مــشروع قانــون الموازنــة الريفيــة والقبلية. دراسات تخطيط استخدام الأراضي الإقليمية في إيران.
معهد دراسات وزارة الخارجية: هذا المعهد يحتل مركز الصدارة في السياسة الإيرانية، خاصة في أوقات الأزمات، ويتكــون المعهــد مــن تســعة قطاعــات أو وحــدات أو مراكــز بحثيــة تنطــوي عــلى الأولويــات الإيرانيــة الرســمية في دراســة الملفــات الدوليــة، وتتشــكل فــرق أبحــاث هــذه المراكــز التســعة مــن خــبراء سياسيين يعملــون في وزارة الخارجيــة الإيرانيــة فضــلاً عــن الســفراء الســابقين ذوي الخبــرة في الملفــات المنوطــة بهــم وكبــار دبلوماســيي وزارة الخارجيــة وباحثــن خارجيــن بالإضافــة إلى أعضــاء هيئــة التدريــس بالجامعــات الإيرانيــة.
ويعمل على تأليــف وترجمــة الكتــب المتعلقــة بالقضايــا الدوليــة المختلفــة. وينــشر المعهــد عــشرات الكتــب ســنوياً في الملفــات الملحــة منهــا أعــمال بحثيــة محكمــة لخـبـراء المعهــد والســفراء الســابقين، ودراسات وتحليلات دورية شهرية في المجالات التسعة المذكورة، لكن الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط هي الأكثر كثافة في إصداراتها المعهد في السنوات الأخيرة. يصدر المعهد دوريات ومجلات سياسية تخاطب الشعوب الخارجية.
مركز دراسات مجمع تشخيص مصلحة النظام: وهو مركز مجمع تشخيص مصلحة النظام للدراسات الاستراتيجية.
يهتــم المركــز بالدراســات الاستراتيجية المنوطــة بوضع استراتيجيات مســتدامة لجمهوريــة إيــران الإســلامية في القضايــا المختلفــة. وقــد تأســس المركــز في العــام 1990م، أي في عهــد رفسنجاني وأنتج المركــز عــدداً وافــراً مــن الدراســات الاستراتيجية في مجــالات الدراســات الاستراتيجية الدوليــة والسياســية والاقتصاديــة والقانونيــة والثقافيــة والاجتماعيــة. كما عني المركــز بالأنشــطة البحثيــة التــي تتعلــق بتنظيــم المؤتمــرات والحلقــات النقاشــية والدوائــر المســتديرة المنتجــة للدراســات ذات النزعــة الاستراتيجية لإعانتهم في اتخاذ القرار السياسي السليم. وينشر الجزء الآخر من أبحاثه ودراساته في شكل أوراق بحثية توزع على الكوادر الحكومية.
يشتمل المركز على 6 وحدات بحثية تتكون كل وحدة منها من عدد من الوحدات المصغرة، على سبيل المثال: وحدة أبحاث السياسة الخارجية، تتكون من دراسات الشرق الأوسط والخليج الفارسي، والدراسات الأوروبية والأمريكية...
3. توجهات المراكز البحثية الخارجية:
كي يتســنى فهــم توجهــات المراكــز البحثيــة الإيرانيــة حيــال الولايــات المتحــدة الأمريكيــة وتركيــا والــدول الخليجيــة والتيــارات الإســلامية بالمنطقــة العربيــة والمملكــة العربيــة الســعودية، والوضــع في اليمــن وســوريا ومســألة الربيــع العــربي وتعاطيهــا مــع النظــام الجديــد في مــصر والمســألة العراقيــة، اقتربت الورقة مــن مراكــز الدراســات المســتقلة القريبــة مــن الســلطة ومراكــز الدراســات التابعــة للجامعــات الحكوميــة ومراكــز الدراســات التابعــة للجامعــات الخاصــة حيث تبين أنه من الصعوبة بمكان وجود مراكز بحثية مستقلة عن الحكومة استقلالية تامة، كخضوعها لمقررات الدستور ونصوصه كمحدد لوجود تلك المراكز.
وختمت الورقة بأنه في كثــير مــن الأحيــان تتعــدى المراكــز الخاصــة دورهــا ويتصــدر باحثوهــا واجهــة المشــهد سياســياً ودبلوماســياً، ويروجــون لأفــكار النظــام عبــر وســائل الإعــلام باعتبارهــم محللـيـن سياسيين مستقلين، وكثيــراً مــا تســند لهــم الدولــة أدواراً تتعــدى أدوار أي محلــل ســياسي في أي نظــام ســياسي آخــر. مثال عن المحلــل الســياسي أمــير موســوي الــذي يظهــر في الإعــلام بلقــب: رئيــس مركــز الدراســات الاستراتيجية والعلاقــات الدوليــة في إيــران، والذي كُلف بمهــام سياســية ـــــ دبلوماســية غــر اعتياديــة كان آخرهــا جولــة مباحثــات اســتمرت لأيــام في العاصمــة الســودانية الخرطــوم للتفــاوض حــول أنشــطة المؤسســات الشــيعية وبرامــج عمــل الســفارة الإيرانيــة في الســودان.
وسوم: العدد 628