حديث في الحوار
ممّا يروى عن الامام الشّافعي قوله:" ما جادلت عالما إلّا غلبته، وما جادلني جاهل إلّا غلبني"
وممّا ينسب إليه أنّه مرّ صحبة تلاميذه بشخص شتم الامام، فلم يردّ عليه، ولم يسمح لتلاميذه بالرّدّ، وردّ على تساؤل من أحد تلاميذه عن سبب عدم ردّه قائلا:" إذا عضّك كلب أكنت تعضّه؟"
وهذان القولان قد يختصران موضوع "قواعد الحوار" فالعالم بالأمور يعرف كيف يحاور، وكيف يجادل، ويقرع الحجّة بالحجّة دون أن يسيء لأحد، فإمّا يقتنع برأي الأخرين، أو يقنعهم برأيه، فليس هناك معصوم عن الخطأ غير الانبياء. والعالم يعتبر رأيه صحيحا يحتمل الخطأ، ويرى خطأ غيره بأنّه يحتمل الصّواب.
وربّ العالمين خاطب رسوله قائلا:" ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" أيّ بيّن لهم طريق الحقّ بالرّفق والّلين. ويقول تعالى:
" فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك".
وللحوار قواعد وأصول وأخلاقيات يجب احترامها، مثل الاستماع جيّدا لرأي الآخرين، وعدم مقاطعة حديثهم أو تسفيه آرائهم حتى لو كانت خطأ بيّنا، ويعرف متى يتكلم ومتى يسكت.
والحوار البنّاء دائما يؤدّي إلى نتائج صحيحة ومفيدة للجميع، لكن المشكلة تكمن في الانغلاق الفكري، من جماعة "أجهل الجهلاء من يجهل ولا يعلم أنّه يجهل" وهذه مشكلة نتّصف بها نحن العرب والمسلمين، وقد يغضب البعض من هذه الصّراحة لأنّه سعيد بنعيم جهله، وليس على استعداد لمغادرة حظيرة الجهل، لذا فاننا نرى ونسمع بكثرة اطلاق عبارات التكفير والتخوين على أناس ليسوا كذلك. ولا ينتبه جهّالنا وهم كثر ـ مع الأسف ـ إلى ما وصلنا إليه من هزائم وتخلّف على مختلف الأصعدة، ولا استعداد لديهم للتساؤل حول أسباب الفقر مثلا في عالمنا العربيّ والاسلامي؟ أو حول مدى مساهماتنا في الثورة العلميّة والتكنولوجيّة؟ وأمام هذا العجز الفكريّ فإنّهم يردّون كلّ السلبيّات إلى إرادة الله في فهم خاطئ لمفهوم "القضاء والقدر"
أو يردّون ذلك إلى بعدنا عن الله وتعاليمه ودينه، ولا يعلمون أنّ هذا الزّعم يحمل في طيّاته عكس ما يريدونه، وهو بالقلم العريض" إذا أردت الخروج من الهزائم والجهل والتخلّف فابتعد عن الله ودينه" وإلا كيف يمكن تفسير انتصارات ونجاحات وثراء "بلاد الكفّار"؟ وكيف ينصرهم الله على "المؤمنين" وبلدانهم؟
والانغلاق الفكري يعني الاصرار على الخطأ، وكأنّي بكلّ واحد من هؤلاء يزعم بأنّه على حقّ والعالم كلّه على خطأ. على سبيل المثال: طرق باب بيتي ذات ليلة باردة عدد ممّن يطلقون على أنفسهم دعاة بدون استئذان أو موعد مسبق، فأكرمت وفادتهم، وتناقشت وإيّاهم حوالي ربع ساعة، وسألت أحدهم الذي كان يرتدي ثوبا وحذاء لا يقي قدميه: لماذا ترتدي هذه الملابس وتنتعل هذا الحذاء في هذا البرد القارس، وكيف سيتقبّل الآخرون أراءك وأنت تعيش في عصر غير عصرهم؟ فرد بعد ان بسمل وحوقل واستغفر "بأنّه يقتدي بالسّنة المشرّفة" ولمّا قلت له: " هل وجد الرّسول في زمنه بنطالا وملابس دافئة وحذاء يقي قدميه ولم يرتديها؟"
فاستغفر الله لي وله! ورافقتهم إلى المسجد القريب تحت اصرارهم، فسألني أحدهم:" والعصر إنّ الانسان لفي خسر....." العصر معطوفة على ماذا؟ فأجبته لا عطف هنا، والواو واو القسم وليست واو العطف، وشرحت له ذلك، لكنّه لم يقتنع، وعاد يسأل: من الذي يقسم؟ فأجبته: الله سبحانه وتعالى؟ فعاد يسأل: وكيف يقسم الله بالعصر؟ فأجبته: لا يًسأل عمّا يفعل. وهناك قسم ورد أكثر من مرة مثل: "والضّحى" و"والتين والزيتون"...الخ. فقال لي: اتّق الله يا رجل! واذا بالرّجل يكفّرني! فقلت لهم: سأتّقي الله ولن أبقى معكم ولن أصلي بصحبتكم وانصرفت.
والمنغلقون فكريّا لن يستوعبوا الثّورة في الفكر الدّيني التي طرحها المفكر الاسلامي عثمان صالحية في كتابه "الدّراية" مع أنّ هذا الكتاب يخدم الدّين ويدافع عنه، ويردّ ردودا دينيّة على من أدخلوا الخرافة والأكاذيب والاسرائيليات في مؤلّفات دينيّة سابقة يقدّسها البعض على ما فيها من جهل، مع أن مؤلفيها بشر مثلنا، والبشر يخطؤون ويصيبون.
واغلاق باب الاجتهاد وتحييد العقل جزء من مأساتنا الانسانيّة، وجعلتنا أضحوكة بين الأمم، وحصدت ولا تزال تحصد أرواح الملايين منّا، فمنذ معركة الجمل وصفّين وما تلاهما أفتى البعض بأن ضحايا طرفي الصّراع شهداء، لأنّ من قاتل معتقدا أنه على حق وقتل فهو شهيد، وهذا يعني أنّ المسلم دائما على حق ولا يخطئ، وينسون الأمر الإلهيّ " ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلّا بالحق" وهذه الفتاوي أعطت مبررا لقتل المسلمين لبعضهم بعضا عبر التاريخ، ولقتل غيرهم أيضا دون تفكير، والمنغلقون ليسوا على استعداد ذلك مع أنّ فتاوي الشّهادة هذه من وضع البشر وتخالف القرآن. ولهذا فإن لارهاب الدّواعش ركائزهم الدّينيّة.
فهل تحييد العقل من"العقيدة"؟ وكيف ستنهض أمّة لا تستعمل عقولها، ولا تفهم دينها؟ والحديث يطول.
وسوم: العدد 628