بعد جريمة نجران.. لم يعُد بوسعي الصمت يا داعش
"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم، فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجوا جميعا".
أرسلها سيدي خير الأنام صلى الله عليه وسلّم منذ ما يزيد عن 14 قرنا كيلا تغرق السفينة، فليس بوسعنا إلا الأخذ على أيادي من يخرقونها من بني جلدتنا.
*سمعا وطاعة يا سيدي... أمَا وقد بلغ السيل الزبى، وأمعن تنظيم داعش في خرق السفينة، ونسف كل ما له عند من يُؤثِر كفّ اللسان أو يميل إلى التماس الأعذار، فلم يعد هناك مجال للصمت عن جرائم التنظيم، والذي بات عِوجه واضحا بعد سلسلة من الخروقات لشريعة محمّد، كان آخرها تفجير مسجد نجران.
*الثبات ليس دائما محمودا، الموتى أيضا ثابتون، ومن لم يفرق بين تغيير المبادئ والمواقف، فقد تعثر فهمه وضاق أفقه.
عندما تتبدل مواقفي تبعا للمتغيرات وتجدّد المعطيات، لا أجد غضاضة في التراجع، ولا أعتبره منقصة، ولا أندم على موقف سابق، لا لشيء إلا لأنني أحكم على الأشياء وفق ما لدي من خلفية ومعطيات، ولا أعتمد على تحليلات الغير ومواقفهم.
*أبرز محطات تغيير المواقف في حياتي، كان تجاه تنظيم الدولة الإسلامية داعش، فبالرغم من أنني لم أَنتمِ إلى ذلك الفصيل ولا لغيره، لكنني دعمتُه في جزئيات معينة، ودافعت عنه وفقا لما تقرر لدي من معلومات.
لكنني مع مزيد من المتابعة والاطلاع والتدقيق والتحليل، ومع المستجدات التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة من ممارسات التنظيم، كل ذلك جعلني أعيد النظر في تقييم ذلك التنظيم بموضوعية وبعيدا عن العاطفة.
أن يقوم تنظيم داعش باستهداف أمن بلاد الحرمين في وقت تواجه فيه المملكة إيران وحلفاءها في اليمن وسوريا، وأن ينزع فتيل الأزمة في السعودية وهي تناضل من أجل وقف التدخل الروسي السافر في المنطقة، فلا نجد مكانا لمحمل حسن، ولا نرى مجالا للتأويل والاعتذار.
*أشدّ ما لفتَ انتباهي في المسار العسكري لذلك التنظيم، هو توقيتات الظهور والبروز، فلا نكاد نراه يُظهر نفسه بقوة على مسرح الأحداث إلا في مناسبة ووضعية تتنامى فيه قوة أهل السنة في مواجهة المشروع الإيراني أو القوى الراعية للثورات المضادة للربيع العربي.
*أتساءل: هل باتت الحكومة السعودية سبب الكوارث العظمى في الأمة؟
هل أصبح إفشالها وتصدير الأزمات في وجهها هو طريق التحرير والخلاص؟
للأسف وأقول للأسف.. تنظيم داعش قد التقى مع الصفويين أكثر مما افترق، ففي الوقت الذي تُجاهر إيران بعدائها للسعودية ويتحدث النخب والرموز فيها أن طريق القدس يمر بمكة التي لابد من تحريرها من الحكم الوهابي، يسير الدواعش على خطاها، ويعتقدون أو يروّجون أن طريق الخلاص يبدأ بإسقاط حكم آل سعود.
فتبا لمسلك يُفرّق لا يُجمّع، وتبا لفكر عقيم يرى طريق الخلاص في تدمير معقل السنة، أفلا جعلوا هذه التفجيرات في طهران وتل أبيب؟
لا أجد مثلا لهم –إن أحسنتُ بهم الظن- إلا وصف القرآن {الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.
في سوريا وبينما كانت كتائب الثوار قد حررت معظم الأراضي السورية رغم الدعم العسكري واللوجستي الذي تُقدمه إيران وحلفاؤها وأذنابها إلى بشار الأسد، ظهر تنظيم الدولة بغتة، وفرض نفسه على المناطق المُحرّرة أصلا، وأعلن فيها ما أسماه بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وقسّم الأراضي التي حررتها كتائب الثوار إلى ولايات تابعة لخليفتهم البغدادي بعد إعلانه الخلافة.
كان من المفترض أن يدخل تنظيم داعش للقتال في سوريا باعتباره فصيلا مقاوما للنظام كبقية الفصائل حتى ولو نأى بنفسه عن التنسيق معها، لكنه أعلن دولته على الأراضي السورية رغم خطورة الأمر على الصعيدين الداخلي والدولي، دون أدنى مراعاة للسياق العام للمعارضة.
كانت مغبة إعلان الدولة دخول التنظيم في اقتتال داخلي مع كتائب الثوار بدلا من التركيز على المهمة الأساسية وهي قتال النظام الأسدي، حيث لم يقبل التنظيم بأن تقاتل تلك الكتائب خارج مظلته، وهو الأمر الذي أعطى الأسد قبلة الحياة، واستردت قواته العديد من المناطق التي سبق وأن حررها الثوار، ورجعت المقاومة إلى المربع الأول.
*لن أخوض فيما تردد عن وجود تنسيق أو تعاون بين التنظيم وبين الأسد تم على إثره إبرام صفقات النفط بين الطرفين، ولا عن تدخل التنظيم لفك حصار الثوار عن قوات النظام، فأنا لم أقف على علم يقيني بتلك الأمور، غير أن ما يعنيني هو توقيت ظهور داعش وما ترتب عليه من تغيير في المعادلة العسكرية على أرض سوريا.
الى ليبيا :
في ليبيا، كانت فصائل الثوار التي اندمجت تحت اسم "مجلس شورى مجاهدي درنة" المدعوم من الحكومة الشرعية، تواجه قوات الجنرال الانقلابي حفتر، والذي يُمثّل امتدادا للدولة العميقة.
كان المجلس قد حقق إنجازات كبيرة على الأرض، وبات موقف حفتر ضعيفا، حتى دخل تنظيم داعش على الخط، فاشتعل القتال بين مجلس شورى مجاهدي درنة ومعهم بعض سكان المدن، وبين تنظيم داعش، وكانت النتيجة تخفيف الضغط على قوات حفتر، ومن ثم دخلت ليبيا في حالة انسداد لأفق الحسم العسكري.
والى اليمن:
مؤخرا في اليمن برز تنظيم داعش وأعلن عن نفسه من خلال إصدار مرئي يحمل عنوان "أباة الضيم"، يستعرض قدراته القتالية ضد الحوثيين، ويُجسّد فيه عملية اقتحام لأحد المنازل التي يتحصّن بها الحوثيون.
محللون ذهبوا إلى أنها عملية دعائية من داعش لسحب البساط من تحت أقدام القاعدة في اليمن، وبعضهم رأى أنها محاولة لاستقطاب السلفية الجهادية، إلى غير ذلك من التفسيرات والتحليلات.
*ولكن ما يهمني كما أسلفت هو توقيت هذا العمل الدعائي لتنظيم داعش، فهو يتزامن مع الانتصارات التي حققها التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين لدعم الشرعية بمعاونة فصائل المقاومة في الداخل اليميني.
فالعمليات العسكرية للتحالف حققت انتصارات قوية في عدن، وسيطرت على باب المندب، وإيران لم تستطع بدعمها للحوثيين حسم المعركة.
الخبر أثار مخاوفي أن يتكرر في اليمن سيناريو شبيه بما حدث في سوريا من تفجر اقتتال داخلي بين داعش وفصائل المقاومة، خاصة وأن التنظيم لا يلقى قبولا في اليمن، لكنه في المقابل قد يتحالف مع بعض الفصائل السلفية المقاتلة مثل "إمارة حماة العقيدة" في تعز، وهو فصيل قيل عنه أنه لا يلقى قبولا أيضا في الشارع اليمني.
*هذه التوقيتات التي يظهر فيها تنظيم داعش في كل مرة، تترك وراءها حتما علامات استفهام، هل هذا التنظيم حقا صناعة إقليمية أو دولية؟ هل هذا التنظيم مُخترق استخباراتيا كما يؤكد الكثيرون؟
أعلم أن البعض يقطع بهذا أو بذاك، ويعتبر أن سؤالي جاء متأخرا، لكنني كما قلت لا أستند إلى تحليلات الغير ومعطياته.
وإلى الآن، ما يترجح عندي بشأن توصيف حالة هذا التنظيم، أنه تنظيم مغالٍ يفتقد إلى المرجعيات العلمية الدقيقة، واستطاع التمدد بسبب استقطاب الشباب الذين عاشوا حالة انسداد في الأفق بعد تعثّر ثورات الربيع العربي، والذين رأوا أن المسلك العنيف لهذا التنظيم هو أنسب ما يكون في الوقت الراهن، إضافة إلى أن هؤلاء الشباب سواء العرب منهم أو العجم، قد وجد ضالته في إقامة الخلافة لدى التنظيم الذي تسمى باسم الدولة الإسلامية، ثم دولة الخلافة.
*أما عن مسألة الاختراق، فالذي يترجّح عندي إلى الآن أيضا، أن القاعدة العريضة لهذا التنظيم مُغرّر بهم ومخدوعون، وأما القيادة فأقل ما يقال بشأنها، أنها توجّه بصورة غير مباشرة، بمعنى أن قوى خارجية تصنع وتفتح لها مسارات محددة تتقاطع فيه مصالح (تلك القوى) وأهداف التنظيم في التمدد الأحادي الجانب على حساب الفصائل الأخرى.هذا أقل ما يقال في تنظيم داعش.
كما أستطيع أن أجزم من خلال متابعتي الإخبارية، أن أمريكا وروسيا وأوروبا وإيران، كل هذه الدول لا تريد القضاء على التنظيم، بل تتخذه مظلة تتحرك تحتها في المنطقة بدعوى القضاء على الإرهاب.
هذه الدول تستفيد من بقاء ذلك التنظيم، في دعشنة فصائل الإسلام السياسي والقوى الإسلامية المعتدلة، وإلباسها بالتالي عباءة الإرهاب، للقضاء على كل الحركات الجهادية.
والدليل على ذلك الغارات الروسية الأخيرة على سوريا، والتي استهدفت أماكن تجمّع المعارضة بدلا من تنظيم داعش، الأمر الذي يؤكد أن تلك الفصائل هي المستهدفة بالفعل، وأن روسيا تدخلت لإنقاذ الأسد بعد عجز إيران وحزب الله عن حسم المعارك لصالحه.
*وأودّ في هذا المقام أن أخاطب عناصر التنظيم من الشباب المغرر بهم، الذين نفروا إلى الخلافة المزعومة التي عُقد لواؤها دون بيعة، وبدون أهل الحل والعقد، مدفوعين بالحماس والغيرة على الأمة الجريحة، وأسألهم:
إن كنتم صادقين في دعوى الجهاد وتحرير أراضي المسلمين، فلماذا تغردون خارج السرب، بل تقفون على خط المواجهة مع فصائل أخرى؟
أين فقه الأولويات؟
أليس هؤلاء الظالمون هم أولى بنيرانكم بدلا من توجيهها إلى فصائل المقاومة حتى مع اختلافكم معهم؟
*صورتُم قطع الرؤوس واللعب بها وحرق الأحياء، ونفّرتم الناس من الإسلام، هبُوا أن لكم سندا لهذه السلوكيات، ألا يقتضي فقه المصالح والمفاسد أن تُحجموا عن فعل ما يُنفِّر الناس عن دينكم بل وعن فكرتكم التي هي فكرتنا إقامة دولة اسلامية راشدة موحّدة تطبّق شرع الله ؟
*أدعو كل الشاب في التنظيم إلى مراجعة النفس، والتواصل مع أهل العلم المشهود لهم بالتعمّق في العلوم الشرعية.
احذروا الطاعة العمياء لأمراء قد اجتمع أهل العلم (في شتّى بقاع الأرض على تخطئتهم.. وكُفوا أذاكم عن الكتائب المقاتلة التي ترفع راية الحق والعدل والرغبة في تحرير الأرض من الظالمين، وارفعوا أيديكم عن بلاد الحرمين وسائر بلاد المسلمين.
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
وسوم: 640