تداعياتُ تفجيراتِ باريس، و إسقاطِ السوخوي على الملف السوريّ

يرى المتابعون في تداعيات هذين الحدثين على الملف السوري حدثًا مفصليًا؛ لوقوعهما عقب لقاءات فيينا التي عوّل عليها الكثيرون في وضع نهاية لصراع طال أمده، و عقب خروج أردوغان مرتاحًا من معركة الانتخابات، ما جعله يمضي سريعًا في إنشاء المنطقة الآمنة و النظيفة في شمال سورية.

و قد كان لكل منهما حيثياته التي سبقته، فتفجيرات باريس في ( 13/11) جاءت عقب جولة لقيادات من الجيش الحر، في لندن أولاً حيث كان اللقاء باردًا جدًا، ثم ثانيًا في باريس حيث استقبلت فيها بحفاوة لافتة للنظر،  التي وافقت على تزويدهم بمضاد للطائرات، إمّا برفقة مستشارين عسكريين فرنسيين شريطة توفير الحماية المطلوبة لهم، أو أن يتم تدريبهم على استعمالها في فرنسا.

و أمَّا إسقاط طائرة السوخوي الروسية في ( 24/11 ) فقد أعقبت بدء القوات التركية بمؤازرة أمريكية و حتى فرنسية في تحديد ملامح المنطقة الآمنة و النظيفة من جرابلس إلى عفرين، و بعمق يصل إلى خمسين كم.

و عقب هذين الحدثين تعثّر المشروعان على المدى المنظور، حيث أبلغت فرنسا قادة الجيش الحر باعتذارها عن ذلك، و تريَّث الأتراك في رسم حدود تلك المنطقة.

و هذا ما ولّد قراءة عند بعض المتابعين بأنّ كلتا الدولتين قد أعادت حساباتها، على الرغم من الحماس الذي تجلّى منهما في فيينا، مع الحليفين الآخرين ( السعودية، و قطر ) في شكل التسوية التي تمّ مجابهة الروس بها.

قد تبدو تلك قراءة وحيدة لو أنّ ما حدث كان مع غيرهما؛ إذْ تنظر كلٌّ منهما إلى سورية كمنطقة مصالح استراتيجية يصعب التراجع فيها لصالح الروس وحدهم، بالشكل الذي يريده بوتين، ففرنسا تدرك أن سيطرة روسيا على سورية عسكريًا و سياسيًا تعني سيطرتها على لبنان حتمًا، و هي ليست بوارد أن تسمح لأيٍّ كان أن يضع يده على هذه الحديقة الغناء التي تتباه باريس بها، و لذلك كانت هذه التفجيرات بتوقيع الدواعش المغاربة ( المحتمل تشيّعهم )؛ الأمر الذي يقطع بارتباطهم بالأسد و حلفائه؛ لإفساد مسعاها بتزويد الثوار بتلك الأسلحة النوعية التي ستحدّ من الاندفاعة الروسية في مناطق نفوذها، و لذلك سعت باريس سريعًا باستثمارها، من خلال تعبئة الرأي العام الفرنسي والأوروبي والعالمي بأن من واجبها الدخول في حرب مع داعش، لحماية شعبها ودولتها والشعوب الأوروبية، فعدتها ضربة لها و لبلجيكا و ألمانيا، و لا تزال الأجواء مشحونة للانتقام لها في سورية.

 ولذلك جاء إعلان هولاند بإعلان الحرب بعد ساعات من حدوثها، كما توجه زعماء الدول الأوروبية إلى باريس و في مقدمتهم كاميرون، و ميركل، وقد كان التأييد البريطاني لفرنسا كاملاً وقاطعًا بأنهم سيشاركونها ضرباتها العسكرية في سورية، وهذا تأكيد على موافقة الدول الأوروبية الرئيسة للسياسة الفرنسية في هذا الصدد.

هذا التدخل الفرنسي لن يكون ضد داعش فقط، وإنما ضد تدخل روسيا، لأنها تريد منعها من إنهاء نفوذها في سورية ولبنان، ناهيك أن فرنسا تواقة لإنهاء دور الأسد الذي ناكفها بعد فترة الدفء التي حظي بها في أول عهده، حيث وضع يده بيد إيران في عملية قتل صديقها الحميم  رفيق الحريري عام 2005، في اصطفاف طائفي واضح تجاه زعامة سنية تعطيها بعدًا حميميًا ذا أثر اقتصادي كبير في العلاقة مع السعودية،  فما كان إلاَّ أن طوت مظلتها السياسية التي كانت تستظل بها الطائفة العلوية على مدى ( 82 سنة )، من سنة ( 1923 حتى 2005 )، لتعلن وقوفها إلى جانب الثورة السورية منذ الأيام الأولى، ثمّ زادت من ذلك بعد تدخل روسيا المباشر قبل تسعة و خمسين يومًا.

إنّ روسيا تدرك الاستعدادات الفرنسية لهذه المواجهة معها في سورية، و هي تحاول أن تخفي هذا الصراع الذي لم يعلن عنه الفرنسيون أنفسهم، و قد جاءت أوامر بوتين للسفن الحربية الروسية في المتوسط بالتنسيق مع البارجة الفرنسية "ديغول"، من هذا الباب.

 وهذا الموقف أعلنته فرنسا مع الدول السبع التي أصدرت بيانًا حول الغزو الروسي بتاريخ ( 1/ 10 )، طالبتها فيه بعدم التعرض للمعارضة المعتدلة، ولكنها تجاهلت ذلك تمامًا؛ لذلك فإن هذا  التباين في الموقف بينهما آخذ بالوضوح والزيادة يومًا بعد يوم، و هو سيصب في مصلحة تركيا بعد حادث إسقاط السوخوي لأكثر من سبب؛  فالتدخل الروسي في سورية ضد رؤيتها في التعاطي مع الملف هناك، و قد تجلّى ذلك في محادثات فيينا.

و فيما يخص تداعيات إسقاط طائرة السوخوي يوم ( 24/ 11 )، بعد انتهاكها الأجواء التركية، فإنها ستلقي بظلالها على المسعى التركي في إقامة المنطقة النظيفة و الآمنة شمال سورية، و بالفعل فإنها قد توقفت حاليًا إلى أن تتضح مآلات التصعيد الروسي تجاه تركيا، من جهة تفعيل البندين: الرابع، و الخامس من ميثاق الناتو؛ بما يشي بالتنسيق المسبق مع أمريكا بحادثة السوخوي، و معرفة الردّ الروسي على الرغبة التركية بالتهدئة، و لاسيّما أن هناك إشارات حول ذلك قد بادرت بها تركيا، منها تسلّم جثمان الطيار من المعارضة السورية و نقله مساء اليوم إلى موسكو، و انتظار لقاء أردوغان ببوتين غدًا على هامش قمة المناخ في باريس    

و عندها ستدرك القيادة الروسية أنّها قد أخطأت طريقها في التدخل العسكري في سورية، و أنّ أمريكا قد خدعتها عندما فتحت لها الباب مواربًا من قبل، للتدخل في سورية تمهيدًا لغوصها في وحولها، و هي اليوم تكون قد فتحته لها كاملاً، الأمر الذي زاد من اندفاعة بوتين نحو حائط الصدّ الذي سيكلّفه أكثر مّما كلّف الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، و هي بذلك قد فعلت بها كما فعلت بإيران، حيث ابتزتها و انهكت قواها؛ ما جعلها تتنازل عن مشروعها النووي بأثمان بخسة من أرصدتها المجمدة في الغرب، على طريقة ( مِنْ دِهْنِهِ قَلِّيه )، و يبدو أنّه ليس أمريكا وحدها التي ستورطهم لا بلْ حتى إيران نفسها، التي غاصت بالوحل السوري حتى الحلقوم، فتريد أن تجرّ روسيا إلى ذلك نكاية بها و بالأسد، الذي أدار ظهرها إليها بعد أن أدرك ضعفها في الاستمرار بإيقافه على رجليه، و لعلّه من نافلة القول التذكير بإعلان إيران أسماء قتلاها بهذا الشكل غير المألوف من قبل، و في ذلك تذكير منها لهما بأنّها ماتزال موجودة على الأرض، و هي تضحي برجالاتها، و مرتزقتها، و من الخطأ تجاوزها في أيّة تسوية قد يشهدها الملف السوري.

و لذلك فإن روسيا مطالبة بمحاسبة الإيرانيين الذين خدعوها مع الأمريكيين للتورط العسكري في سورية، من خلال مصيدة السوخوي التي نصبت لها بإحكام، و لا أدلّ على ذلك من كشف الغطاء عن منظومة صواريخ إس 400، التي ظهرت في قاعدة حميميم خلال ساعات معدودة من الحادثة، إلى جانب تجهيزات أخرى لم تكن معلنة من قبل، يستدعي إحضارها أيامًا عدة، إن لم يكن أسابيع، ما يعني أنّهم و بعملية لا تعدو حدثًا عَرَضيًا قد كشفوا عن نواياهم المبيِّتة من دخولهم إلى سورية، على خلاف ما كانوا يرددونه من محاربة داعش التي لا تستدعي هذه التجهيزات مطلقًا؛ الأمر الذي أفقدها صفة الوسيط التي كانت تنتظرها في إطار أية تسوية محتملة هناك.

و بانتظار أن يتحقق ذلك ستبقى الطلعات الجوية الروسية تُلقي بحممها على رؤوس السوريين، الذين وجدوا في أرض قَدَرُها أن تكون مركز استقطاب لكلّ من يريد أن يعود إلى مركز الحدث، و قيادة العالم.

وسوم: العدد 644