التدخّل السعودي المحتمل في سوريا.. ضد من؟ ولصالح من؟
يقول الزعيم والمناضل البوسنيّ علي عزت بيجوفيتش في كتابه "هروبي إلى الحرية": "كان هنالك رجلان يتقامران على سطح تايتانيك التي تغرق، أحدهما يغش في اللعب... الكثير من الناس يشبهون هذين الاثنين".
*صدقت يا بيجوفيتش.. لدينا الكثير منهم في أمتنا، خاصة ذلك الذي قضى دهره في الاقتيات على تزييف الحقائق، ويغلُب عليه الغش في أوج أزمات الأمة، فلا تراه إلا مُدلّسا مُضلّلا، غير عابئ بالسفينة التي أوشكت على الغرق.
هذا الصنف من الناس يستغلّ الخصائص النفسية والعقلية المرتبطة بالتفكير، لتوجيه الرأي العام لصالح أهدافه، تماما كما فعل هتلر عندما نجح في تحويل سخط الشعب الألماني على الحالة الاقتصادية إلى السخط على اليهود.
*هم اليوم يستغلون سخط الشعوب العربية على الديكتاتوريات والأنظمة القمعية، وتحويل ذلك السخط وتلك الكراهية إلى أنماط شائعة، وتعميمها في كل وقت وحدث، دون النظر إلى أي متغيرات أو تطورات ناشئة، ويضيفون إلى ذلك تعزيز النظرة الجزئية للبسطاء تجاه مجريات الأمور.
*هم ذاتهم الذين يُخضعون تصنيف السياسة الخارجية للسعودية طبقا لهذه الأنماط، ما يترتب عليه نسف كل حراك إيجابي للمملكة في تناول أزمات الأمة.
هم الذين شككوا في عاصفة الحزم، وهاجموا التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب الذي دعت السعودية إلى تشكيله، وهم الذين يطنطنون اليوم حول التدخل العسكري البري السعودي المحتمل في سوريا.
*ما إن أوردت الـ سي إن إن، خبر حشد السعودية قوات للتدخل البري في سوريا، حتى هرع البعض على الفور في التشكيك في أمر ذلك التدخل المحتمل، ما بين قائل بأنه دور تقوم به السعودية بالوكالة عن أمريكا، وبين مُتهم لها بمحاربة الجماعات الإسلامية بصفة إجمالية، ومنهم من ذهب إلى أن المحرك الأول والأوحد للمملكة في هذا التدخل الذي أعلنت عن استعدادها له، هو سعي المملكة لتأمين أراضيها من خطورة تنظيم داعش.
*هؤلاء يهمسون في الآذان بخبث: لو كانت السعودية تسعى لنصرة القضية السورية، لكان الأولى أن تتوجه إلى قتال نظام الأسد وليس تنظيم داعش.
*هؤلاء يغفلون أو يتغافلون عن ضرورة وجود غطاء قانوني دولي لتدخل السعودية ضد نظام الأسد، وأي دولة عربية في وضع الضعف العام الذي تمر به الأمة لا تستطيع تجاوز هذه النقطة، لكن السعودية تواجه بالفعل عدة قوى في سوريا من خلال التدخل لمواجهة الإرهاب، كما ستبين السطور اللاحقة.
*الجميع يعلم أن دول الخليج كانت تُعوّل بصفة أساسية على أمريكا لتأمين المنطقة من المد الإيراني، إلا أن شهر العسل الذي تمر به العلاقات الأمريكية الإيرانية الذي تمخضت عنه اتفاقية النووي التي جاءت على حساب أمن الخليج جعل السعودية -الأخت الخليجية الكبرى- تدرك أنّ عليها التصرف بمفردها لرسم خارطة سياسية جديدة، تضمن الحفاظ على أمنها القومي، وعلى المنطقة بأسرها، ولا تعارض في مراعاة هذا البُعد أو ذاك.
*التحرك الأول الذي قامت به السعودية ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، كان جولة مواجهة الحوثيين (ذراع إيران) في اليمن.
اليمن الذي يتعرض لأطماع إيرانية للسيطرة على مضيق باب المندب والتمدد من خلاله في الخليج بالتوازي مع الزحف بقوتها الناعمة في تلك البلاد.
*تشكيل التحالف الإسلامي الذي ثارت ضده إيران، كان أحد التحركات الهامة التي تستلب من الغرب انفراده بتفسير الإرهاب، وفي الوقت نفسه تعرُّض ميلشيات وجماعات موالية لإيران إلى تصنيف محتمل من قبل التحالف والتعامل معها على أنها جماعات إرهابية، أسوة بداعش، دون تفريق مبني على التصنيف الطائفي.
*وأما بخصوص سوريا التي هي أهم حلقات المشروع الإيراني، فإن موقف السعودية كان حاسما في ضرورة رحيل الأسد، ومن ثم دعّمت المعارضة السورية المعتدلة، وعارضت التدخل الروسي الإيراني في سوريا.
ثم يأتي التدخل العسكري البري المُحتمل في سوريا تحت غطاء محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش، ليكون الجزء المُتمم للمواجهة السعودية للمشروع الإيراني في سوريا.
*من يختزل دوافع السعودية لتدخلها في سوريا بالرغبة في تأمين أراضيها من الإرهاب، فقد ذهب إلى تسطيح القضية، فالسعودية ليس لها حدود مع سوريا.
ثانيا، السعودية تعلم كذلك أن الإرهاب فكرٌ أوسع من أن يقتصر على تنظيم داعش، ولذا لديها منظومتها الشاملة في التعامل مع الإرهاب، تأتي المواجهة الفكرية، أحد أبرز مستوياتها، وبناء على ذلك لن يكفل لها العمل العسكري في سوريا القضاء على الإرهاب.
ثالثا، وهو الأهم، هل يُعقل أن تتجه القيادة السعودية إلى تدخل عسكري بري في سوريا للقضاء على الإرهاب، وهي تعلم يقينا أنها تدخل ميدان المواجهة المباشرة مع الحرس الإيراني وكتائب حزب الله والمليشيات الشيعية المتحالفة مع الأسد، إضافة إلى داعش؟
*ولا ينبغي أن نغفَل عن رد الفعل الروسي تجاه التدخل السعودي، وإمكانية إصابة أهداف سعودية من قبل الطيران الروسي، ولو تم الاعتذار عنها بأنها جاءت على سبيل الخطأ، كما يفعلون مع المدنيين.
إذن، فحجم المخاطر أكبر بكثير من تحقيق مصلحة مواجهة الإرهاب، لكن السعودية ليس لها غطاء في التدخل في سوريا سوى هذا الغطاء المُشرعن دوليا.
*إذن، ما الذي يمكن أن تُحققه السعودية بتدخلها العسكري المحتمل في سوريا، والذي يأتي الحديث عنه في ظل انهيار مباحثات جنيف؟
أرى أن التدخل العسكري السعودي في سوريا لمواجهة تنظيم داعش سوف يُلغي ذريعة الغارات الروسية على سوريا، التي يُوجّه أكثر من 90% منها صوب المدنيين والمعارضة المعتدلة، فلن يبقى هناك مبرر لاستمرار الضربات الجوية الروسية، فالجميع يعلم أن الحرب البرية هي ما يحسم المعارك، وهو ما أبدت السعودية استعدادها للمشاركة فيه، وتحدثت عنه وسائل الإعلام.
*الشيء مثله يمكن حدوثه مع إيران، حيث لن يبقى هناك مبرر لوجود غير شرعي للحرس الثوري الإيراني والمليشيات الموالية لإيران في استمرار عملياتها في سوريا بزعم مواجهة الإرهاب.
ومن جهة ثالثة، فإن التدخل البري السعودي حتما سيضعف شوكة تنظيم داعش في سوريا، وهو ما يعني تعضيد قوى المعارضة في مواجهتها مع قوات الأسد، وهو ما يخدم القضية السورية.
فلا يخفى على متابع أن كتائب المعارضة قد حرّرت حوالي 75% من الأراضي السورية قبل دخول داعش، وبعد إعلان الدولة الإسلامية في المناطق المحررة أصلا، وما تبعه من مواجهات بين داعش وكتائب المعارضة، تشتّتت جهود الثوار، وضعفت مواجهتهم مع قوات النظام.
التدخل السعودي المحتمل في سوريا قد يغير المعادلة تماما، والجانب الإيراني يدرك ذلك، ولذا قام بإطلاق تصريحات نارية تربط هذا التدخل باحتمالية نشوب حرب إقليمية مفزعة.
*محمد علي جعفري، القائد العام للحرس الإيراني، قال إن إرسال السعودية قوات إلى أرض سوريا بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على نظام الرياض، رغم اعترافه في سياق التصريح بإرسال قوات من الحرس الثوري الإيراني للقتال في سوريا، يأتي ضمن نطاق مُحدّد، حسب وصفه.
وأما اللواء محسن رضائي، سكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، فقد حذر السعودية من مغبة إرسال جنودها إلى سوريا، وأن ذلك التدخل قد يجلب حربا إقليمية.
ولم ينس رضائي استصحاب أحد أهم مشاهد المسرحية الهزلية التي تقوم بها إيران في كل ما يتعلق بالسعودية، وهو دمجها مع العدو الأكبر (أمريكا) ودعمها للإرهابيين.. فقال:
"بعد هزيمة عصابة داعش الإرهابية وجماعة النصرة الإجرامية في مدينة الرمادي العراقية وسوريا وخاصة (حلب)، فإن السعودية وأمريكا قررتا إرسال جنود سعوديين إلى سوريا؛ لإنقاذ ما تبقى من التكفيريين، والدخول في حرب ضد الجيش السوري".
ولا أعِيبُ على الإيرانيين في تلك التصريحات، فهو أمر طبيعي، لكن الكارثة أن يأتي من هم محسوبون على هذه الأمة، وفي هذا التوقيت الحرج الذي تمر به، ويصطفُّون في خندق العدوّ بشكل مُباشر أو غير مُباشر، بمُبرر أن السعودية لا يعنيها من هذا الإجراء إلا تكريس مصالحها الخاصة.
وسوم: العدد 654