بين التراث والكهف

د. أحمد محمد كنعان

من أكثر المسائل التي تشغلني منذ فترة غير قصيرة توجه الحركات الإسلامية عامة نحو النضال الحركي، وبخاصة منه النضال السياسي، وإهمال النضال الفكري لاسيما الاجتهاد في تجديد التراث الإسلامي الذي ساهم في تأسيسه علماء عمالقة لا يمكن لأحد أن ينكر إسهاماتهم القيمة في تأسيس هذا التراث، وكأن لسان حال الحركات الإسلامية اليوم يقول : ما ترك الأولون للآخرين شيئاً، أو قولهم : ليس بالإمكان أحسن مما كان.

ولهذا السبب نجد جهود هذه الحركات اليوم تتوجه بصورة أساسية نحو المحافظة على التراث، والدفاع عنه، والنيل ممن يقترب منه بالمراجعة أو التجديد

وتحسب هذه الحركات أنها بهذا الموقف الدفاعي عن التراث تخدم الإسلام وتحافظ على أصوله، ونعتقد أن هذا الموقف يمثل إشكالية كبيرة ينبغي التنبه لها، ألا وهي أن التراث الإسلامي ليس هو أصول الإسلام التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإنما التراث منجز بشري يعتريه ما يعتري أي عمل بشري عادة من خطأ أو قصور أو ضعف، إضافة إلى أن من طبيعة التراث -الإسلامي وغير الإسلامي - ارتباطه قليلاً أو كثيراً بالعصور التي أنجز فيها، ومن ثم فهو متأثر قليلاً أو كثيراً بظروف تلك العصور التي لا جدال بأنها تختلف عن عصرنا وعن ظروفنا الراهنة!!

وهذا ما يجعل الأخذ بالتراث كما وصلنا قد يقطعنا عن عصرنا الحاضر بسبب ما بين هذا التراث وبين عصرنا من اختلافات لا تنكر، وهذا ما يجعل طروحات معظم الحركات الإسلامية تبدو اليوم غريبة عن العصر لوقوفها عند تراث السلف كما وصلنا دون محاولة تجديده بما يراعي عصرنا ما يجعل هذه الحركات تعاني من التواصل الفعال مع العصر ، وهذه الحالة تذكرنا بحال الفتية المؤمنين الذين ناموا في الكهف طويلاً، فلما قاموا وأرادوا التواصل مع العصر الجديد لم يستطيعوا، على الرغم من أن المجتمع قد تحول إلى الإيمان، إذ ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) فبالرغم من تحول المجتمع إلى الإيمان كما كان الفتية يأملون فإنهم لم يستطيعوا التواصل مع المجتمع بسببب انقطاعهم الطويل عنه، وعندئذ لم يجدوا أمامهم سوى العودة إلى الكهف مرة أخرى لا ليناموا هذه المرة بل ليخرجوا من الحياة بلا عودة، وهذه الرمزية في قصتهم تنطوي على عبرة وتحذير وتنبيه للذين يعيشون على تراث مضى، أنهم لن يستطيعوا التكيّف مع العصر الجديد!! فالقرآن الكريم من خلال رمزية الكهف والنوم الطويل، الذي قطع الفتية عن عصرهم، وانتهى بفشلهم في التواصل مع العصرالجديد، أقول إن القرآن الكريم يحذرنا من خلال هذه الرمزية أن نقع في مصيدة الكهف والانقطاع عن عصرنا ما قد ينتهي بنا إلى النهاية والخروج من خارطة العصر بلا رجعة!!

من هنا نتوجه إلى الحركات الإسلامية التي تحمل همّ التنوير والصحوة وتبشرنا بعصر جديد نتوجه لها بدعوة حارة أن لا يستهلكها ميدان السياسة عن بقية الميادين التي لا يقل الجهاد فيها أهمية عن الجهاد في معارك السياسة، وأولها ميدان التراث الذي يحتاج من هذه الحركات عملاً جاداً يعيد الحيوية إلى التراث الذي تستند إليه هذه الحركات، ويمنحه قدرة متجددة للتفاعل مع العصر ، وبهذا نأمل أن تستعيد الحركات الإسلامية شرعية وجودها، وأن تستعيد الساحات التي خسرتها في الفترة الماضية بطرحها طروحات تستند إلى تراث فترت قدرته على التفاعل مع العصر !!

وسوم: العدد 657