إنهاء الانقسام الفلسطيني أم إدارته إلى حين؟
معين الطاهر
العربي الجديد
ليست المرّة الأولى التي تتفق فيها حركتا "فتح" و"حماس" على شكل من المصالحة الوطنية، فمحاولاتهما في ذلك طويلة ومتعرجة، وباء معظمها بالفشل، إن لم يكن كلها. ففي سنة 2005 تم توقيع اتفاق القاهرة، وأعقبه في سنة 2006 توقيع على وثيقة الأسرى، وتوج ذلك في 2007 بتوقيع اتفاق مكة الذي أسفر عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، برئاسة إسماعيل هنية، استمرت أشهراً عدة، ليجهز عليها الانقسام، وتنتج عنه حكومتان وسلطتان في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي سنة 2012، تم التوقيع على الورقة المصرية، بعد أخذ ورد، وسط احتفال مهيب في القاهرة، برعاية جامعة الدول العربية، وحضور مختلف الفصائل، وشخصيات وطنية فلسطينية، ليعقبه، في العام نفسه، توقيع اتفاق الدوحة.
وخلال هذه السنوات، وعلى الرغم من المعاناة والاجتياحات والحصار، استمرت المصالحة في المراوحة في المكان، ولم تفلح في تجاوز حالة ترقب وانتظار ما قد يأتي من متغيرات، تعدل في شروطها لمصلحة هذا الطرف، أو ذاك، أو تمنعه من التقدم في مساره. إذ فشلت كل هذه المحاولات في التصدي لأسباب الانقسام الحقيقية، ولم تتمكن من تجاوز الضغوط أحياناً، والإغراءات الإقليمية والدولية أحيانا أخرى، حيث اكتفى كل طرف بالتلويح بالمصالحة، وامتصاص النقمة الشعبية الناجمة من عدم تحققها، ومراقبة تأثير ذلك على الأوساط المختلفة، والرغبة في انتظار متغيراتها الموعودة، لعلها تسمح بترجيح كفة أحدهما على الآخر، والسعي إلى إبرامها بشروط جديدة.
يدفعنا ذلك إلى التساؤل عن المتغيرات التي أدت بالطرفين إلى الإعلان عن اتفاقهما لإنهاء الانقسام. وهل يشكل ذلك بداية حقيقيةً لإنهاء الانقسام؟ أم هي محاولة لإدارة الانقسام من "فتح" و"حماس"، تحت غطاء حكومة الوحدة الوطنية التي أعلن عن تشكيلها أخيراً؟
يمكن القول إن ثمة عوامل دفعت الطرفين إلى إخراج هذا الملف من أدراجه، والسعي إلى تطبيق ما يمكن منه، يتمثل أبرزها في انسداد أفق التسوية، وانخفاض التوقعات لدى القيادة الفلسطينية (السلطة) بحدوث تقدم سريع في المدى المنظور. إذ يعرض ذلك شرعية هذه القيادة، ومبرر بقائها للخطر، والمتمثل في إدارتها ملف المفاوضات، وكونها شريك عملية السلام المرتقب، بعدما تآكلت، بمرور الزمن، كل الشرعيات الدستورية الناجمة عن انتخاب الرئيس والمؤسسة التشريعية، ما يبرر حاجتها إلى شرعية جديدة، تضمن استمرارها، وهي شرعية الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام.
أضف إلى ذلك حاجة الرئيس محمود عباس لإنهاء الانقسام، والتوصل إلى صيغة ما مع حركة حماس، تتيح له التفرغ لإنهاء ملفات داخلية، ضمن حركة فتح، أبرزها ظاهرة محمد دحلان، والاستعداد لمؤتمر حركي جديد، لترتيب البيت الفتحاوي وخلافة الرئيس، مستفيدا من متغيرات الوضع الإقليمي، وأزمة حماس مع سورية، وتفكك محور المقاومة، ومصر بعد الانقلاب على حكم الرئيس محمد مرسي، والحصار الخانق الذي يشهده قطاع غزة، وأزمة الإخوان مع دول الخليج، ما يتيح له وضعاً أفضل في ترتيب شروط المصالحة.
وإذا كانت تلك هي الظروف التي دفعت الرئيس محمود عباس إلى الاندفاع نحو المصالحة، فإن ظروفاً مشابهة دفعت قيادة حماس للقبول بها، بل وإلى المبادرة في تقديم تنازلات مهمة من أجل إغلاق هذا الملف في هذه الفترة، بعد أن انهارت توقعات قيادتها بتغيير سريع في سورية، وانهار نظام الرئيس محمد مرسي في مصر، وشهدت حصاراً عربياً، ما يعني أن قطف ثمار الربيع العربي تأجل، ويحتاج فترة انتظار قد تطول، ما أصاب قيادة حماس بصدمة، دفعتها إلى التحرك السريع لإنقاذ قطاع غزة من الحصار الخانق، ومحاولة ترطيب العلاقة مع النظام الجديد في مصر التي تشكل المنفذ العربي الوحيد لغزة، مع طموحها إلى إعادة بعض النشاط لمؤسساتها وفعالياتها في الضفة الغربية التي تعاني آثار التنسيق الأمني.
لذا، قدمت حماس تنازلات كبيرة، تفوق تلك التي قدمتها فتح من أجل إنجاز الاتفاق، أبرزها الموافقة على نسخة مكررة من حكومة رامي الحمد الله، والصمت عن الحديث عن التزام الحكومة البرنامج السياسي للرئيس محمود عباس، وكذلك الحال في الموقف من التجديد لرياض المالكي وزيراً للخارجية، وإلغاء وزارة الأسرى.
هنا، يطرأ سؤال مشروع عما إذا كانت هذه الحكومة ستعمل لإنهاء الانقسام؟ وبكل ما تحمله هذه الجملة من معنى، أم أن مهمتها ستنحصر، وبالتعاون مع حركتي فتح وحماس، على إدارة الانقسام. فمن الناحية العملية، لن يطرأ أي تغير ملموس على عمل الأجهزة الأمنية، إذ سيبقى التنسيق الأمني (المقدس) بين أجهزة أمن السلطة وقوات الاحتلال قائماً، في حين ستبقى أجهزة أمن حماس المسيطرة في قطاع غزة. وقد تكون التعديلات الوحيدة في استلام حرس الرئيس المعابر في غزة، وفي لمسات محدودة على الحريات العامة هنا وهناك، أي أن القدرة على إعادة إنتاج الانقسام، ولو عبر وليد مشوه ما زالت قائمة.
التضخم في الجهاز الإداري والوظيفي في القطاع مشكلة بحد ذاتها، فهنالك 75 ألف موظف يطلق عليهم اسم "المستنكفون" يتقاضون رواتبهم من دون الالتحاق بعملهم منذ الانقسام، تم استبدالهم بـ45 ألف موظف، غالبيتهم من أنصار حماس. بطبيعة الحال، لا يوجد عمل لهذا الجيش الضخم من الموظفين، وهذا خارج إطاره السياسي يعد في أحد جوانبه مشكلة تقنية واجتماعية، لكنها تمس شريحة كبيرة من المواطنين، يمكن حلها عن طريق تعهد إحدى الدول بدفع رواتبهم، إلا أن دمج هاتين الشريحتين وإنجاز هيكلية وظيفية جديدة للدوائر والوزارات سيستغرق وقتاً طويلاً، قد تنتهي صلاحية الحكومة قبل إنجازه. أما في الضفة الغربية، فمن نافل القول إنه لا يتم تعيين أي موظف له علاقة من قريب، أو بعيد، بحماس. ويتطلب تعيين الموظفين موافقات أمنية معقدة، لا أعتقد أنها ستزول في ظل السياسات الأمنية المختلفة بين الضفة والقطاع.
ويبقى الأهم من هذا كله كيفية معالجة الملفات التي أدت أساساً إلى الانقسام نفسه، لمعالجة ذيوله من جهة، ومنع تكراره من جهة أخرى. وإذا كنا سنشهد في ظل الحكومة الحالية جهازين أمنيين، تحكمهما رؤية أمنية وسياسية متباعدة، تباعد التنسيق الأمني "المقدس" عن حماية المقاومة، وحقها في مقاومة الاحتلال، فإن ثمة ملفات أخرى لا تقل أهمية، ومن شأن إهمال التعاطي معها إعادة إنتاج الانقسام، بصور قد تكون مختلفة، من حيث الشكل، لكنها متشابهة من حيث النتائج. ويقف في طليعة ذلك، الموقف من المفاوضات والحل السياسي، فإذا كانت هنالك صيغة مطاطة لمعالجة هذا الموضوع، تتمثل في أن هذه المفاوضات من صلاحيات منظمة التحرير، وليست من اختصاصات الحكومة، وصمت حماس عن تصريحات تقول إن سياسة الحكومة هي سياسة الرئيس عباس، يتساءل المرء ما الذي سيحدث حين يتم التلويح، مرة أخرى، بالمفاوضات، ويتم اقتراح أسس جديدة قديمة لمشاريع مقترحة للتسوية؟
ولا تمر، منذ وعد بلفور في العام 1917، حقبة زمنية طويلة، أو قصيرة، إلا وتتعدد فيها المشاريع والحلول السياسية، بل ماذا يحدث، حين يبدأ الحديث عن إعادة ترتيب منظمة التحرير، وعن سياساتها الموحدة الجامعة، المفترض فيها أن تعيد توحيد البيت الفلسطيني، بقضاياه وهمومه وبرامجه في الوطن، بما فيه الأراضي المحتلة في 1948 والشتات، اللهم إلا إذا كان المقصود بإعادة ترتيب منظمة التحرير نوعاً جديداً من المحاصصة السياسية، أو إعادة توزيع حقائب اللجنة التنفيذية للمنظمة، من دون التطرق إلى واجبات المنظمة ومهامها التي فقدتها منذ اتفاق أوسلو.
ومن ثم، يأتي الموقف من الانتخابات المفترض إجراؤها نظرياً بعد ستة أشهر، وهو أمر على ما أعتقد بعيد المنال. وموضوع الانتخابات ليس إجرائياً، يتمثل في إصدار مرسوم بتشكيل لجنة انتخابات وإعداد قوائم الناخبين، ولا حتى بضرورة الحصول على موافقة إسرائيلية لإجرائها في القدس، وربما، الآن، في مناطق أخرى. فهذه عقبات على أهميتها يمكن تذليلها، وحسبنا أن نذكر أن الانتخابات السابقة شكلت المدماك الأول في بنية الانقسام الفلسطيني، إذ تفترض أي انتخابات استعداد الأطراف المشاركة فيها للاعتراف بنتائجها. وهذا لم يحدث قطعاً في الانتخابات السابقة، وفي ظل ظروف الشعب الفلسطيني، ومواجهته العنيفة والمستمرة منذ عقود للاحتلال الصهيوني، فإنها تفترض، أيضاً، ضرورة الابتعاد عن سياسة المغالبة، والالتفات لبناء جبهة وطنية عريضة. وبكل أسف، ظل هذا المعيار غائباً، ليس في فلسطين فحسب، وإنما في الساحة العربية، باستثناء التجربة التونسية اليتيمة.
لذا، قد يكون من مصلحة الطرفين طي هذا الملف الشائك، والاستعاضة عنه بانتخابات محلية، أو بلدية، أو نقابية، قبل الإقدام على تجربة انتخابات تشريعية، قد لا يريدها الفرقاء الحاليون.
تُجدد المصالحة، بصيغتها الحالية، شرعية أطرافها، وتتيح لكل منهم التحكم شبه الكامل في منطقته، وعلى هواه، وتتيح لهم الوقت الكافي للترقب وانتظار ما يستجد من ظروف محلية، قد تشهد صعود قوى جديدة، أو متغيرات إقليمية، في الوضع العربي، وفي تأثير الدول الكبرى ومواقفها، أو إجراءات إسرائيلية، أحادية الجانب في الضفة، واجتياحات وضربات عسكرية في القطاع، بل ربما تلويح بآفاق جديدة لمفاوضات تلد أخرى، ولا تنتج سوى حمل كاذب.
إن أياً من هذه التطورات سيجعل، حتى من إدارة الانقسام، مهمة صعبة، قد لا يقوى عليها الطرفان، خصوصاً أننا نعيش في رمال متحركة، تسير أحياناً بأسرع من توقعاتنا، وتنتج في كل يوم واقعاً جديداً.