التحديات الداخلية التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر
مقدمة:
الأمة العظيمة هي الأمة المتماسكة من داخلها، لأن التماسك الداخلي هو الذي يبقيها ثابتة أمام مختلف التيارات والأعاصير التي تريد انتزاعها من جذورها.
ولابد لكل أمة من شعوب وأفراد ينتمون إليها، ولا بد لها من منهج يحكمها وتحتكم إليه، وهذه الأمة الإسلامية هي أمة عالمية يستطيع من شاء من أفراد وشعوب الأمم الأخرى أن ينتمي إليها، كما أنها أمة ذات منهج رباني ثابت يوحدها إلى يوم القيامة، فهي أمة إنسانية ربانية واحدة، وقد أكد الله عز وجل وحدة هذه الأمة فقال عز وجل: (وإن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)[الأنبياء/92]. وبين لها المنهج الذي ينبغي أن تعتمده مصدرا لوحدتها وقوتها وهو الاعتصام بكتابه المنزل، فقال عز من قائل: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران/103]، والتماسك الداخلي أمرتنا به آيات كثيرة منها قوله تعالى: وقوله (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) [الأنفال/46] وهذا بقصد تأكيد وحدة الأمة، كما أكد سبحانه على ضرورة الالتزام بالمنهج دون تغيير، وندد الله عز وجل بالضعف والتخاذل والتغيير الذي يعتري الأجيال اللاحقة من الأمم فيعزلها عن منهج سلفها الطاهر كما جرى مع من قلنا من الأمم، فقال عز وجل: ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) [سورة مريم/59]. وبين النبي عليه السلام القسطاس المستقيم والمنهج القويم لهذه الأمة الذي يحفظ لها وحدتها وشخصيتها المتمثلة بالمنهج الرباني، فقال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله) رواه مالك في الموطأ[2]
ومثل هذه الفتوى التي نقلها القاري عن شيوخه تعتبر فتوى مغالية، إذ لا يكفر الإنسان إذا نعت السلطان بغير ما فيه، وإنما يدخل هذا ضمن الكذب والتضليل، ولكن جموح الفتوى جاء صدى لواقع ذلك العصر وما يمور به من فتن وتطاحن وصراع داخلي تعيشه الأمة، ومن العجب أن تصبح أمة بيدها كتاب الله في حالة من الفوضى والتخلف لا تحسد عليها، وهو ما حذرت منه آيات كثيرة، قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) [الحشر/19] فنسيان الذات معناه فقدان الهوية مما يقتضي التيه والتخبط والضياع، وهو ما آلت إليه هذه الأمة، وإن كان النبي عليه السلام قد استشرف هذه الحالة من قبل، وحذرنا منها، فقد روى علي، قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة، وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود). رواه البيهقي في شعب الإيمان[4]، وهنالك من جعل الولاية والكرامات ديدنه معتمدا على حديث: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها)[6]، وهنالك من جعل الحديث عن التجديد ديدنه، معتمدا على حديث: (إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)[8]، وكل فرقة من هؤلاء تعيش في هاجس حديث الفرقة الناجية، وتظن نفسها أنها على الصراط المستقيم، وأن بقية الفرق من أرباب الجحيم، مع أن الإسلام يتسع لهذه الفرق جميعا، ومنهجه أعم منها جميعا، فمكافحة البدع والخرافات، وإثبات كرامات الأولياء، وقول الحق للسلاطين، والتجديد في الدعوة، وحب آل البيت وموالاتهم، كلها أمور هامة، وهي تشكل جزء من برنامج الإسلام في الحياة، ولكنها ليست كل برنامج الإسلام، فالإسلام برنامج كامل للحياة وليس مجرد قضايا جزئية كالتي يشتغل بها هؤلاء.
ثانيا: جهل الواقع والمتغيرات بين الأمس واليوم، فما زال التفكير عندنا يدور حول النصوص المروية بمعزل عن فقه الواقع، وننسى بأن النصوص الدينية جاءت لمعالجة واقع متأزم في الجزيرة وما حولها إبان فجر الدعوة، وأنها راعت ظروف الناس وأحوالهم، وتطبيقها على الناس اليوم يحتاج إلى دراية المتغيرات التي تمت في المجتمعات، وإلى مهارات وخبرات وعلوم وحذق لا يقل عن حذق الطبيب بمريضه المقعد، فتجد مثلا من المسلمين من يقرأ آيات الجهاد ويريد تطبيقها في الواقع مباشرة، متجاهلا التطورات الهائلة في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت بين الأمس واليوم، فالحرب لم تعد مجرد سيف، وإنما قد تكون حربا تكنولوجية واقتصادية وثقافية ونفسية أيضا، والدولة قد تطورت أجهزتها بشكل كبير، وصار لها من النظم والقوانين ما لا ينبغي تجاهله، وتطورت أنظمة التجسس والمراقبة حتى صارت تطارد الحركات والسكنات للبشر، فلا يمكن إعلان الجهاد من قبل فرد أو جماعة، وإنما الجهاد حق للدولة الإسلامية التي لها رئيس شرعي منتخب، وذلك لغرض حماية الدولة ومكتسباتها وحماية الدعوة في آن واحد، وأما إعلان الجهاد من قبل فرد أو مجموعة نيابة عن الأمة فأمر لا ينبغي إلا في حالة الغزو الخارجي على الأمة، أما اقتتال أفراد الأمة فيما بينهم تحت ذريعة الجهاد فأمر يفتت وحدة الأمة ويبدد قدراتها على مختلف الأصعدة.
ثالثا: الانغلاق ورفض الآخر، وهو أمر محزن وجوده بين الدعاة إلى الله في حقل الدعوة، وسبب هذا التعصب للهوى، وعدم القبول بتعددية الصواب، وقد تعرض كثير من أهل العلم في تاريخنا إلى البلاء بسبب تحريض من زملائهم في العلم الذين سعوا إلى السلاطين ليكون السيف حكما بين العلماء! حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية مات في السجن وهذا مجرد نموذج لا أكثر! ولو أردت جمع آلاف الصفحات وعشرات الكتب التي راجت بين الناس وهي تحمل فكر العزلة والانغلاق لأمكنني ذلك، وعقلية الانغلاق عقلية مدمرة، فالناس من طبعهم الاختلاف، والمجتمع عادة يجمع شتى الناس المختلفين فيما بينهم فكريا، ولكن مصالحهم تقتضي لقاءهم وتجمعهم، وإذا كان على الإنسان أن يتقبل العيش مع غير المسلمين وفق مبدأ: (لكم دينكم ولي دين)
[2] - مرقاة المفاتيح، (10/107).
[4] - رواه مسلم عن جابر، انظر: مشكاة المصابيح، (1/51).
[6] - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، انظر: مشكاة المصابيح، (2/1094).
[8] - متفق عليه عن سعد بن أبي وقاص، انظر: مشكاة المصابيح، (3/1719).
[9] - سورة الكافرون، الآية (6).
وسوم: العدد 681