بين الجمود والتسيّب
في وقت تستعر فيه المعركة بين شعب مؤمن بربه، متمسك بحقه في الاعتقاد والتعبير والكرامة... وبين طاغية يريد أن يستعبد هذا الشعب وينتهك كل حقوقه... نحن بحاجة ماسة إلى العودة إلى أصالتنا، ومراجعة مواقفنا في ضوء ديننا، فلا ننطلق على غير هدى، ولا نتعصب لرأي قبل أن نتحرى حكم الله فيه.
فكما يحدث الالتباس بين الكرم والإسراف، وبين الحذر والجبن.. يحدث الالتباس كذلك بين الأصالة والجمود، وبين المرونة والتسيب.
وكما أن كثيراً من الفضائل تمثل التوسط بين رذيلتين، كتوسط الكرم بين البخل والإسراف، فإن المرونة تمثل التوسط بين الجمود من طرف، والتسيب والتحلل والميوعة.. من طرف آخر.
وما أسهل الوصف في ذلك، وما أصعب الضبط!! فالجامدون يزعمون أنهم حُماة الأصالة، والآخرون يزعمون أنهم دعاة المعاصرة. وهل يشك إنسان في أهمية الأصالة والارتباط بالجذور الحضارية للأمة؟! وهل يجادل أحد في ضرورة أن يعيش الإنسان عصره، فيفهم ما يحيط به، ويحسن التعامل معه، ويُفيد من تطوره؟!
في المبادئ عامة، وفي الإسلام خاصة، قيم أساسية تمثل العقيدة والمفاهيم والتصورات.. وأية مساومة في ذلك أو تهاون يُعَدّ خروجاً عن الأصالة.
لكن هناك وسائل وأساليب في الدعوة والمخاطبة والتنظيم... فهذا مما يناله التطور والتعديل حسب كل ظرف وبيئة، ويحتاج دائماً إلى المعاصرة.
فأما الجامدون فيأبون كل إبداع، ويعزلون أنفسهم عن الأحداث فلا يواكبونها ولا يتفاعلون معها. ويتقوقعون في افتراضات سابقة يُضْفون عليها القدسية ويتّهمون من يَمُدّ يده إليها بأي تعديل، ويرفعون في وجهه سيف المحافظة على التراث، والسير على خطى الدعاة الذين هم موضع احترام وتبجيل من الأطراف جميعاً، ويضعونه في موقف حرج: إما أن تطبق أساليبهم ذاتها، أو تكون خارجاً عليهم محارباً لدعوتهم!.
والخطأ في ذلك أنهم لم يدركوا أن الدعاة – حاشا الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام – ليسوا معصومين عن الخطأ، فيمكن أن يؤخذ منهم ويُردّ، وأن الجماعات تنتقل من مرحلة إلى أخرى، وما يصلُح من الأساليب لمرحلة قد لا يصلح لأخرى، وأن القضايا التي نواجهها ليست عين القضايا التي واجهها مَن قبلنا، ونحن في عصر يفجؤنا كل يوم بجديد في ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والإدارة والتنظيم... فلا يصلح لهذه القضايا بالضرورة عين الأساليب التي نهجها السابقون.
فأساليب الدعوة تتطور بين عصر وآخر، وبيئة وأخرى، وأساليب الجهاد تتفاوت كذلك وفق الزمان والمكان، وأهل الحق يَلْقَون مقاومة محدودة من الفاسقين وأصحاب الأهواء حيناً، كما يواجهون حرباً ضروساً من الظالمين الذين يتنكرون لحكم الله حيناً آخر... وأهل الحق هؤلاء مطالَبون في كل حين أن يبحثوا عن أنجح الأساليب لمواجهة المواقف المستجدة، ولمثل هذا قال بعض العلماء: لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
وفي القرآن والسنة أحكام متباينة حسب تباين الحالات التي تعالجها النصوص. والاجتهاد في تطبيق النص قد يحتاج إلى فطاحل العلماء، وهم المسمَّون بالمجتهدين.
وبمقابل الجامدين نجد قوماً ينطلقون من غير ضابط، يتصرفون بما يبدو لهم من مصلحة وخير، غير آبهين بما ورد من نصوص، وبما حدث من تجارب في عهد الرسل الكرام، أو على أيدي الدعاة الأعلام، فإذا انتقدهم منتقد رمَوه بالجمود، وإذا واجههم بنص وصفوه بضعف الفهم، وإذا أتاهم بقول عالم تنصلوا منه بحجج واهية، وتفننوا بالبحث عن أي قول يثبت ما ذهبوا إليه... وهم بذلك يعكسون المسألة. فالأصل في المسلم ألا يُقدم على عمل حتى يعلم حكم الشرع فيه من وجوب أو جواز، لا أن يُبرم المسألة، ويتخذ القرار، ويشرع في التنفيذ، ثم يلتمس الدليل على صحة ما ذهب إليه، فيلوي أعناق النصوص، ويأخذ من الأقوال ما ضعُف وما قوي ليُدعّم رأيه... فهذا أمر خطير يقلب القضية رأساً على عقب.
وهذا الموقف ليس مرونة، وليس كياسة، وليس فطنة، بل هو التسيب والتحلل والميوعة.
مرونة المسلم أن يحرص على أصالته، وينطلق من الشرع في أحكامه، ولا يقدِّم بين يدي الله ورسوله، ولا يفرّط في عقيدة أو حكم شرعي... وبعدئذ يجتهد في البحث عن أنجح الوسائل والأساليب للوصول إلى المصلحة الشرعية، ويبقى أبداً يطور في الوسائل والأساليب، مشدوداً إلى العقيدة والشريعة، فإذا توقف عند مستوى معين من الوسائل لا يبارحه ولا يعيد النظر فيه آل إلى الجمود، وإذا تهاون في مسألة من مسائل العقيدة أو الشريعة زاغ وضل، وإن كان يحسب أنه إنما يريد خدمة دينه. ولْيبقَ ماثلاً في أذهاننا قول الله جل جلاله: ) ولولا أن ثبتناك لقد كِدْتّ تَرْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً. إذنْ لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يَعْلَمُهُنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..." رواه البخاري ومسلم.
وسوم: العدد 690