إسناد الوظائف العامة لغير المسلمين في الدولة الإسلامية
إسناد الوظائف العامة لغير المسلمين
في الدولة الإسلامية
دندل جبر
لقد كان من آثار عقد الذمة بين السلطة المسلمة وبين غير المسلمين حق الإقرار الدائم في دار الإسلام (الدولة الإسلامية) وتبعاً لهذا الحق اعتبر حق المواطنة (الجنسية) لغير المسلمين في الدولة الإسلامية حقاً مكتسباً لهم. فيصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وبثبوت هذين الحقين لغير المسلمين في دار الإسلام (الدولة الإسلامية) يتبين جواز إسناد الوظائف العامة لهم في الدولة الإسلامية، كما هو الحال بالنسبة للمواطنين المسلمين.
وممن قال بهذا الرأي أبو حنيفة، والهادوية من الزيدية، وبعض المالكية وطائفة من العلماء والمفكرين المعاصرين من المسلمين، وجاء في كتاب مغني المحتاج وهذا الجواز الذي قال به هذا الفريق مقيد باتفاق الفقهاء والعلماء والمفكرين المسلمين بعدم تقليد غير المسلمين الوظائف والمهام ذات الصبغة الدينية.
وقد استدل من قال بهذا القول بالكتاب والسنة وبالواقع التاريخي في حياة الدولة الإسلامية، وبأقوال العلماء:
1- الكتاب:
أ- قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة 8 – 9).
ب- وقال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) (آل عمران – 118).
يقول ابن جرير الطبري في تفسيره:
"أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة، والشنآن والمناصبة لهم، فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته.
* على المذهب الشافعي: "وإنما تجوز الاستعانة بهم (أي أهل الذمة) بشرطين أحدهما ما ذكره بقوله: (تؤمن خيانتهم) قال في الروضة: وأن يعرف حسن رأيهم في المسلمين" (الخطيب الشربيني – جـ 3 ص221).
إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها" (تفسير الطبري – جـ4 ص63 – 64 – دار الفكر).
ويقول المراغي في تفسيره:
"أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص لكم من دون المؤمنين، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت في هذه الآية:
1- لا يألونكم خبالاً: أي لا يقصون في مضرتكم وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
2- يتمنون ضركم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.
3- يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه.
4- ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.
فهذه الأوصاف شروط في النهي عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين، فإذا اعتراها تغير وتبدل كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا في صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا انقلبوا فصار عوناً للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عوناً للمسلمين على الروم في فتح مصر – فلا يمتنع حينئذٍ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم – وهم نصارى – وجرى الخلفاء من بعده على ذلك، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية. وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر" (تفسير المراغي – المجلد الثاني – جـ 4 – ص 42 – 45 – دار الفكر).
وأنت ترى أن هذه الصفات المقيدة لإسناد الوظائف إن وجدت فيمن هو من المواطنين المسلمين فلا يجوز اتخاذه بطانة يوثق بها.
- ويقول المستشار الدكتور عبد المنعم أحمد بركة:
"والكتاب والسنة يدلان على جواز إسناد الوظائف العامة إلى الذمي ما دام أهل ثقة كفوءاً ونجد أن الآيات القرآنية لم تنه المسلمين عن اتخاذ الذميين (الأقليات الدينية) بطانة وأن يستعينوا بهم بصورة مطلقة، وإنما قيدت ذلك بمن ظهرت عداوتهم للمسلمين، فهؤلاء لا يجوز اتخاذهم بطانة ومعنى هذا أن الذميين (الأقليات غير الإسلامية) الذين ظهرت مودتهم للمسلمين أو لا تعرف لهم عداوة للإسلام ودولته يجوز للمسلمين الاستعانة بهم في شؤون الدولة، وبالتالي إسناد الوظائف العامة إليهم، وهي دون البطانة مركزاً وأهمية، إلا أننا نجد بعض الوظائف – لطبيعتها الدينية – لا يتولاها إلا المسلم" (المستشار الدكتور عبد المنعم أحمد بركة – الإسلام والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين – ط 1 – 1410هـ - 1990م – ص191).
- ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
"وفيما عدا الوظائف القليلة التي يشترط فيمن يتولاها أن يكون مسلماً، يجوز اشتراك الذميين (الأقليات الدينية) في تحمل أعباء الدولة وإسناد الوظائف العامة إليهم وقد دل على هذا الكتاب والسنة.. ومعنى هذا أن الذميين الذين لا تعرف لهم عداوة للدولة الإسلامية يجوز للمسلمين اتخاذهم بطانة يستودعونهم الأسرار ويستعينون برأيهم في شؤون الدولة المهمة، ومعنى هذا أيضاً:
جواز إسناد الوظائف العامة إليهم التي هي دون البطانة في المركز والأهمية" (الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص79).
- كما ينقل عن الدكتور يوسف القرضاوي قوله:
"النهي إنما هو عن اتخاذ المخالفين أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وأفكارها وشعائرها، أي بوصفهم يهوداً أو نصارى أو مجوساً أو نحو ذلك، لا بوصفهم جيراناً أو زملاء أو مواطنين، والمفروض أن يكون ولاء المسلمين للأمة المسلمة وحدها، ومن هنا جاء التحذير في عدد من الآيات من اتخاذهم أولياء "من دون المؤمنين" أي أنه يتودد إليهم ويتقرب لهم على حساب جماعته، ولا يرضى نظام ديني ولا وضعي لأحد من أتباعه أن يدع جماعته التي ينتسب إليها ويعيش بها، ليجعل ولاءه لجماعة أخرى من دونها" (نقلاً عن الدكتور إدوار غالي الذهبي – معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – ص 103 وما بعدها – طـ 1 – 1993م – مكتبة غريب – القاهرة).
2- من السنة:
أ- عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
"... واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل – اسمه عبد
الله بن أريقط – وهو من بني عبد ابن عدي هادياً خرّيتاً – والخريت الماهر
بالهداية.. وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحليتهما، وواعداه غار ثور
بعد ثلاث ليال، فـأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل،
فأخذ بهم طريق السواحل" (البخاري – باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى
المدينة).
ب- لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة سنة ست للهجرة، ووصل إلى مكان يدعى
ذي الحليفة "بعث عيناً منه من خزاعة يخبره عن قريش" (ابن القيم – زاد المعاد – جـ 2
ص202).
وكان هذا العين كافراً (المصدر السابق – ص312).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمنه ووثق به واطمأن عليه.. مما يدل على جواز إسناد وظائف الدولة العامة إلى الذميين ما داموا أهلاً لها من حيث الكفاءة والثقة والأمانة" (الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص80).
جـ- استعان الرسول صلى الله عليه وسلم بأسرى بدر ممن ليس عندهم فداء من المال أن يعلم أحدهم عشرة من أبناء المسلمين ثم يخلى سبيله (أمتاع الأسماع للمقريزي – جـ1 – ص39 – 41).
د- استعان النبي صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان أيضاً بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. (رواه أبو داود في المراسيل، وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً).
هـ - حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش، وكذلك حالف خزاعة وهم على الشرك، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بغير المسلمين. (انظر سيرة ابن هشام – جـ 1 ص511 وجـ 2 ص318).
و- أعاد النبي صلى الله عليه وسلم أكيدر بعد مصالحته إلى مقره في دومة الجندل وبقي يحكمها حتى بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
3- الواقع التاريخي:
- يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
"ونحن إذا تجاوزنا.. إلى واقع الدول الإسلامية نجد أن المسلمين في مختلف العصور يشركون الذميين والمستأمنين – ص8- - 82).
- عندما جاء سبي قيسارية جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعضهم في الكتابة وأعمال المسلمين. وسليمان بن عبد الملك عهد بالإشراف والنفقة على بنائه وبناء مسجد الجماعة في بلدة الرملة في فلسطين إلى كاتب نصراني يقال له البطريق (ابن النقا) (تاريخ البلاذري – ص193 – 195).
- لما فتح المسلمون مصراً أبقوا العمال البيزنطيين، وكان من هؤلاء شخص يدعى (ميناس) كان هرقل قد ولاه أعمال المنطقة الشمالية من مصر، ومن الأشخاص المعروفين (اثناسيوس) الذي شغل بعض مناصب الحكومة في مصر زمن الأمويين حتى بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الإسكندرية، وهكذا كانت دعاة الأمويين في تعيين النصارى في وظائف الدولة، وقلما خلا منهم ديوان من دواوينها، حتى كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه (سرجون). وفي زمن العباسيين عين الخليفة أبو جعفر المنصور يهودياً اسمه (موسى) كان أحد اثنين في جباية الخراج. وعين الخليفة المأمون أحد وجهاء "بورة" من مدن مصر اسمه (بكام) رئيساً لبلدته وإقليمها، وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم (نصر بن هارون) سنة 369هـــ، و (عيسى بن نطورس) النصراني سنة 380هـــ.
- يقول آدم متز أحد مؤرخي الغرب: "من الأمور التي نعجب بها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية" (الإسلام انطلاق لا جمود – الدكتور مصطفى الرافعي – طـ 1959 – ص16 – منشورات دار مكتبة الحياة).
- ويقول المؤرخ الغربي (ليفي برومنسال) في كتابه: (إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر): "إن كاتب الذمم كثيراً ما كان نصرانياً أو يهودياً، والوظائف مما يتقلده النصارى واليهود، وقد كانوا يتصرفون للدولة في الأعمال الإدارية والحربية، ومن اليهود من كانوا ينوبون عن الخليفة بالسفارات إلى دول أوربا الغربية". (الموجز في معاملة غير المسلمين في الإسلام – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – مؤسسة آل البيت – ص53 – عمان – 1994م).
- والدولة العثمانية وهي الدولة الإسلامية المتأخرة، جرت على ما جرت عليه دول الإسلام، وزادت عليه، فكانت تسند الوظائف المختلفة إلى رعاياها من غير المسلمين، وجعلت أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى. (تفسير المنار – جـ 4 ص84).
- يقول الدكتور صبحي الصالح:
"وقد أثبت التاريخ أن غير المسلمين تبوأوا مناصب عالية، ومراكز مرموقة، وأنهم كانوا في قصور الخلفاء، وأن الحكام والأمراء استعانوا بهم، وأسندوا إليهم الوظائف المختلفة، وطلبوا مشاورتهم واستفادوا من خبرتهم، وأنه لمع من غير المسلمين عدد كبير في هذا المجال، وهذا ما لاحظه المستشرق آدم متنر فيما نقله عنه الدكتور العجلاني فقال: "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية" وهذا ما أتاح لهم إبراء الرأي وتقديم المشورة والخبرة في مختلف القضايا باستثناء الأمور الدينية" (الدكتور صبحي الصالح – النظم الإسلامية – ص365).
- إن جمهور السلف والخلف من علماء المسلمين أجازوا الاستعانة بغير المسلمين في قتال المسلمين وجهادهم ضد عدوهم، وأمر الجهاد والقتال مع العدو مبني على كتمان الأسرار للمقاتلين ألا يكون هذا الجواز مؤيداً لاستعمالهم في وظائف الدولة، التي تعتبر أقل خطورة من المساهمة في العمل العسكري ومشاركتهم في قتال العدو.
وسنفرد لهذا الموضوع مقالاً خاصاً إن شاء الله.