الكنوز ليست دائماً تحت الأرض
إنسان المستقبل، كما يرى الدكتور الراحل أحمد زويل، هو ابن المعرفة التي تُحقق التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي، ولولا التفكير والإبداع لتساوى الإنسان مع الحيوان كما تساوى معه جينياً بنسبة 99.9 في المئة، فالفرق لصالح الإنسان "هو رغبته في المعرفة".
العثور على الكنوز، حلم البشر منذ العصور الغابرة وإلى أن تبلغ الحياة البشرية على الأرض منتهاها، الغرب مثلنا يبحث عنها، غير أننا لا نبحث عنها إلا تحت الأرض، أما هم، فقد زادوا علينا البحث عن الكنوز التي تمشي على التراب، عن تلك العقول والطاقات المتمثلة في الثروة البشرية التي هي أساس كل حضارة وبنيانها.
لا ريب أن هناك تحديات كبيرة تواجه الأمة في سعيها إلى النهضة، ومن أهمها تلك الهوة العميقة بين الواقع والمأمول، ففي الوقت الذي يمتد أفق الطموحات والآمال نرى ضعف القدرات والإمكانات، لذلك كانت الحاجة الماسّة إلى قفزة بعيدة تُعوّض ذلك الفارق.
ومن هنا كان الإبداع والكشف عن المبدعين ورعايتهم وتطويرهم ضرورة نهضوية، بحيث يختصر كثيراً من الجهد والوقت، فالمبدعون هم ثروة ضخمة، يقوم أحدهم بما يقوم به الكثرة، لذلك كان اهتمام الدوائر العلمية المختلفة بالغرب، بخلق البيئة المناسبة التي تُفجّر الإبداع وتحتويه، ويتأكد هذا الاهتمام في محيط العناية بالنشء، إذ قامت العديد من المدارس التي تعمل على تنمية العملية الإبداعية لدى التلاميذ.
ولذا تلاحقت الدعوات في البلاد الإسلامية والعربية أخيراً للاهتمام بهذا الجانب لدى الأطفال، بل ولاكتشاف قوانينه لجعْل الإبداع صناعة لها مقوماتها وآلية إنتاجها، تتيح لنا صناعة المبدعين وتطويرهم ورفع مستوياتهم الإبداعية، والحديث بين الأكاديميين والمختصين بالتربية يدور الآن حول اكتشاف تلك القوانين، ويؤكد الدكتور عماد الدين الرشيد أن علم النفس والتربية والاجتماع لها قوانين كقوانين المادة، إلا أنها تنتظر من يكتشفها ويُحدّدها بصرامةِ القانون المادي أو قريب من ذلك.
تعددت التعريفات التي تبين مفهوم الإبداع، وإن كانت كلها ترتكز على الخروج عن المألوف في عملية التفكير، واستحداث الجديد أو تطوير القديم، فعلى سبيل المثال عرفه الفيلسوف الفرنسي «أندريه لالاند» بأنه إنتاج شيء «ما»، على أن يكون هذا الشيء جديداً في صياغته وإن كانت عناصره موجودة من قبل.
وقريباً من هذا، ذهب مؤسس ورئيس مجلس إدارة مركز التفكير الإبداعي الدكتور علي الحمادي، إذ قال في تعريف الإبداع إنه «مزيج من الخيال والتفكير العلمي المرن، لتطوير فكرة قديمة أو لإيجاد فكرة جديدة، مهما كانت الفكرة صغيرة ينتج عنها إنتاج مميز غير مألوف، يمكن تطبيقه واستعماله».
ولئن كان الإبداع شديد الصلة بالموهبة، إلا أنه ليس مرادفاً لها، فالطفل قد يكون لديه مثلاً موهبة الرسم، ويمكنه تجسيد المنظر، لكنه لا يمكنه أن يجعل منه لوحة مميزة إلا من خلال الإبداع.
وأما عن علاقة الإبداع بالذكاء، فقد ثار الجدل بين العلماء حول علاقة الإبداع بالذكاء، فبعضهم يرى أن هناك علاقة طردية بينهما، وأن الإبداع ما هو إلا صورة من صور الذكاء، بينما يذهب آخرون إلى أنهما مختلفان، وأن الاعتقاد بأن كل ذكي مبدع وأن كل مبدع ذكي هو من الأخطاء التي وقع الناس فيها قديماً، ويرى الدكتور عبدالكريم بكار أن الذكاء يشكل عنصراً مهماً في الإبداع، لكن لا يكون كل ذكي مبدعاً، وإذا قِسْنا ذكاء الطلاب ونظرنا إلى إبداعاتهم، فإننا نجد أن المبدعين لا يشكلون سوى نسبة قليلة جداً من الأذكياء، وما ذلك إلا لأن الإبداع يتطلب أشياء أخرى غير الذكاء.
وهذا الاتجاه تؤيده بعض الدراسات التي أثبتت أن العباقرة يشكلون نسبة واحد بالألف في مجتمعاتنا، بينما يشكل الأذكياء حوالى اثنين في المئة في مجتمعاتنا.
فالإبداع نعم يُعد مظهراً من مظاهر الذكاء، لكنه ليس بالضرورة أن يكون الشخص الذكي مبدعاً، وصاحب الذكاء العادي أو الشخص البسيط يمكنه أن يجد لنفسه مكاناً بين المبدعين.
علماً بأن اختبارات الذكاء لا تُحدد المبدع من غيره، فالذكاء هو القدرة على القيام بالعمليات الكبرى كالتحليل والاستنتاج ونحوهما، فإذا اقترنت بهذا الذكاء القدرة على التجديد صار صاحبه مبدعاً.
لذلك قد تفيد اختبارات الذكاء في الكشف عن الأطفال المبدعين كمؤشر أوَّلِي وطرف للخيط، لكن ليس بالضرورة أن نكتشف الإبداع في الطفل الذكي.
وتتفرع عن المسألة السابقة مسألة أخرى، هل يعتبر مستوى التحصيل الدراسي مؤشراً ودليلاً على قدرة الطفل على الإبداع؟
لئن كان التحصيل الدراسي وعملية التعلم بصفة عامة تُنمي القدرات العقلية لدى الطفل، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون دليلاً ومؤشراً للإبداع، والتاريخ خير شاهد، فعلى سبيل المثال نجد أن المخترع الأشهر «توماس إيدسون» ذهب إلى المدرسة ذات الفصل الواحد وهو في الـ11 من عمره مع 39 طفلاً... ولكنه ليس ككل الأطفال، إنه لا يكف عن الملاحظة والسؤال، وتلفت انتباهه أشياء غريبة جداً، وبعد 4 أشهر لم تكتمل، أعلن مُدرّسه أنه طفل غير طبيعي متأخر، مُتبلّد الذهن لا يصلح للدراسة.
والدته لم تكن بعيدة عن المشكلة، فقامت بسحب توماس من المدرسة وبدأت تعلمه بنفسها في البيت، وتُنمّي بداخله حب الدراسة، ليتجه بعدها للعمل الميكانيكي، ونبغ فيها حتى سجل ما يزيد على ألف اختراع، منها المصباح الكهربائي، الذي يعرف كل طفل في المدارس الابتدائية عندما يلمس زر الإضاءة، أن صاحب هذا الإنجاز هو توماس إيدسون.
أما «أينشتاين» فلم يكن متفوقاً في مادة الرياضيات، حتى أن معلمه ركل الكرسي الذي كان يجلس عليه أينشتاين، فشعر الأخير بالإهانة فقرر أن يتحدى المدرس، فأخرج للعالم نظرية النسبية المشهورة. إذاً، فالتحصيل الدراسي الجيد وحده غير كافٍ في تحديد الجانب الإبداعي في الطفل، وإن كان مؤشراً مهماً.
ربما كانت سياسة التعليم في الوطن العربي وراء الحرص الجماهيري على تخصصات بعينها كالطب والهندسة مثلاً، نظراً لمكانتها الاجتماعية، والدفع بالأبناء في اتجاه هذه التخصصات، من دون النظر إلى الإمكانات والمواهب والميول، ومن ثم تُقتل وتُباد الطاقات الإبداعية. ولنا أن نعرف أن الأصمعي كان من كبار علماء اللغة، لكنه لم «يُفلح» في علم العَروض، فنصحه الخليل بن أحمد الفراهيدي بأنه لا يصلح لهذا العلم فانصرف عنه.
الاهتمام بالإبداع وتفجير الطاقات الإبداعية، يبدأ بوضع برامج للكشف عن المبدعين بين الأطفال في المحاضن التربوية والتعليمية، ومن ثم يتم تصنيف الأطفال وفق ما لديهم من استعدادات طبيعية. لكنه بالتوازي مع ذلك، ينبغي إعداد المعلمين القائمين بعملية الترشيح، للقيام بهذه المهمة، بتوضيح أهداف تلك البرامج ومحددات اختيار الموهوبين والمبدعين، حتى لا يُترك الترشيح لمدى القبول النفسي لدى المعلم تجاه الطلاب.
وبعد الترشيح يتم عمل الاختبارات اللازمة للطلاب، كاختبارات الذكاء الفردية والجمعية واختبارات التفكير الإبداعي، وذلك لوضع كل طفل في المكان الذي يناسبه من برامج رعاية الإبداع.
هذه مرحلة لا بد وأن تسبق عملية خضوع الطفل لبرامج رعاية وتطوير وتنمية الإبداع، ولعل من أشهر هذه البرامج، برنامجا «مايروتورس» و«بيردو» للتفكير الإبداعي.
وليس الغرض من هذه السطور بيان طبيعة البرامج وآليات التنفيذ، بقدر ما هو محاولة للفت الأنظار تجاه المبدعين والكشف المُبكر عنهم، وتفجير طاقاتهم، ورعاية وتطوير تلك الجوانب فيهم، للاستفادة بهم على المستويات والصعد كافة.
إن الكشف المبكر عن المبدعين، يجنبنا العواقب الوخيمة لهجرة العقول، التي لا تجد من يحتضنها ويوفّر لها البيئة والرعاية اللازمة للاستفادة منها، ومن ثَم تهرب إلى دول الغرب، وتُسهم لديها وبقوة في آلية التقدم العلمي والتقني.
وسوم: العدد 707