تبرئة مبارك: الانتصار الرمزيّ الأخير للثورة المضادة
كانت تبرئة محكمة النقض المصرية المنعقدة في أكاديمية الشرطة في القاهرة أول أمس الخميس للرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في قضية قتل متظاهري أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 حصيلة منطقية لانقلاب الأوضاع في مصر وعودتها إلى ما تحت نقطة الصفر السياسية بعد غليان استمرّ عقوداً.
للوصول إلى هذه اللحظة التي شهدنا فيها «براءة» مبارك من دماء 850 شخصاً سقطوا ضحايا خلال الهجمات التي شنتها قوّات الأمن لوأد انتفاضة المصريين على نظامهم كان يجب أن تتشارك أطراف عدّة داخلية وإقليمية في عمليّة إخفاء جريمة بهذا الحجم بجرائم أكبر منها بحيث تصبح براءة المسؤول العسكري والأمنيّ الأول في مصر تحصيل حاصل بعد أن اضطرّ أعضاء «الشركة المساهمة» التي تدير مصر (وحلفاء الشركة الأشداء في المنطقة والعالم) إلى إخضاع مبارك لهذه التمثيلية القضائية الطويلة التي تواصلت فصولها على مدى ست سنوات مريرة وعاصفة انعكست شرّاً وتراجعاً على الثورات العربية ككل وليس على مصر والمصريين فحسب.
ونحن ننظر عبر تلك السنوات ونطلّ عليها من سقف هذا الحكم الفضائحيّ نرى بوضوح جليّ إلى معانيه المتّسعة على طول وعرض العالم العربي، من اليمن المنتهكة السيادة والمحتربة والمفتتة إلى العراق وسوريا المستباحتين لحكمين طائفيين تسندهما إيران وأمريكا وروسيا، وصولاً إلى الاستعصاء السياسي في ليبيا، والجزائر الجالسة على كرسيّ متحرك، وإعاقة حزب «العدالة والتنمية» في المغرب، وبين كل هؤلاء فلسطين المقيّدة والمحاصرة التي تحاول القاهرة (بين عواصم عديدة) التلاعب بقرارها السياسي والمشاركة في حصارها وإضعاف كيانها السياسي والمقاوم.
بالنظر عبر «غربال» هذه المحكمة سنفهم كيف اشتركت ضغائن النخب السياسية المصرية ضد «الإخوان المسلمين» واحتراباتها الداخلية الصغيرة التي سعت لتأمين المبررات لتصعيد أكبر مسؤولي مبارك الأمنيين، الجنرال عبد الفتاح السيسي، إلى موقع المسؤولية، مع خطط فلول «الدولة العميقة» في الجيش والأمن والإعلام والقضاء في قلب الطاولة على الثورة المصرية وعلى آمال المصريين والعرب في حكم مدني ديمقراطي يؤسّس لتاريخ عربي جديد.
كان المشهد المثير للغضب والألم الذي يريد إعلان الانتصار الرمزيّ الكامل للثورة المضادة المصرية على خصومها الذين قضوا شهداء في سبيل وطن أفضل لأبنائهم مفهوماً ومتوقعاً على عادة المنتصرين، لكن غير المتوقع كان تلك الكوميديا السوداء التي قام محامي مبارك بتأليفها، والتي أرادت، فوق ضحكها على آلام عائلات الضحايا أن تتهم خصوماً سياسيين تمّ انتقاؤهم تناسباً مع الدعاية السياسية «البروباغاندا» الفجة التي يقوم بها النظام، فاتهم «الإخوان» و»حماس» بقتل المتظاهرين باستخدام أسلحة هرّبت من إسرائيل!
المحاكمة، بهذا المعنى، كانت محاكمة للعقل والمنطق والشرف.
تبرئة مبارك: الانتصار الرمزيّ الأخير للثورة المضادة
رأي القدس
وسوم: العدد 710