فلسطين بين الصندوقين القوميين الفلسطيني واليهودي
يتحمل الصندوق القومي اليهودي الذي تأسس في العام 1901 مسؤوليةً كبيرةً في تهويد الأرض الفلسطينية، وتمليكها للمهاجرين اليهود، الوافدين من أوروبا ومن البلاد العربية وغيرها، فقد أخذ على عاتقه السيطرة على مساحاتٍ كبيرة من أراضي فلسطين التاريخية، فأطلق العنان لمسؤوليه وكبار السماسرة لشراء أقصى ما يستطيعون من أراضي الفلسطينيين، وانتزاعها ملكيتها منهم بكل السبل الممكنة، وأغرى الوسطاء وفتنهم بالمال، وأغدق عليهم بالحوافز، فتسابقوا في البحث عن أراضٍ جديدةٍ، وسهلوا نقل ملكيتها إلى الصندوق القومي اليهودي، الذي جعل من نفسه وصياً على اليهود المهاجرين، فقام على خدمتهم، وسهل بالتعاون مع الوكالة اليهودية هجرتهم، وأمدهم بما يحتاجون إليه من مالٍ ومتاعٍ، وملكهم بيوتاً وأقطعهم أراضي واسعة، ليشجعهم على البقاء، ويحفز آخرين على أن يحذوا حذوهم، وأن يهاجروا إلى فلسطين مثلهم.
كما أشرف الصندوق القومي اليهودي على تمويل "الكيبوتسات" وهي الجمعيات الزراعية اليهودية، وأمد المزارعين فيها بما يحتاجون إليه لضمان بقائهم في الأرض وزراعتهم لها، كما عمل على خلق أسواقٍ لمنتجاتهم، وكفل لهم بيعها بأفضل الأسعار، ليشعروا بفائدة الاحتفاظ بالأرض والعمل فيها، وليلمسوا الفارق بين حياتهم في فلسطين "الأرض الموعودة"، وبين المهاجر والغيتوات التي كانوا يعيشون فيها، فنشأت في فلسطين كيبوتسات كثيرة، اشتهرت بزراعتها النوعية، وجودة منتجاتها المختلفة، وما كان لهذا الجمعيات أن تنجح لولا المساعدات الكبيرة التي قدمها الصندوق القومي اليهودي للمزارعين فيها.
ومن جانبٍ آخر ساهم الصندوق القومي اليهودي في تمويل العمليات الاستيطانية، حيث كان له دور كبير في بناء وتوسيع وتحصين المستوطنات اليهودية، التي انتشرت في عموم أرض فلسطين التاريخية، وكان لها دور كبير في تنشيط وتمويل ورعاية الجماعات الإرهابية اليهودية، التي سبقت إعلان تأسيس كيانهم، التي استفادت من أموال الصندوق في شراء الأسلحة، وتمويل عملياتها العسكرية، ورعاية أسر المقاتلين وتلبية احتياجاتهم، خاصةً أسر وعائلات اليهود الذين قتلوا في العمليات القتالية.
وأتاح الصندوق القومي اليهودي الفرصة لمنح المستوطنين والمهاجرين قروضاً ميسرةً، ومنحاً ماليةً مقطوعةً، ومساعداتٍ مختلفة، مكنت المهاجرين من تثبيت وجودهم، وترسيخ أقدامهم في فلسطين المحتلة، فضلاً عن تعهد الصندوق ببناء المدارس والمستشفيات والمعامل والمصانع، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية والمرافق الاقتصادية المختلفة، التي أتاحت لليهود فرص العمل والإنتاج، ولم يكن الصندوق يشكو من عجزٍ أو يعاني من فاقةٍ، حيث كان يتلقى المساعدات من أغنى العائلات اليهودية المنتشرة في أكثر من مكانٍ في العالم، الذين كانوا يساهمون في تمويل الصندوق بسخاءٍ وكرمٍ، ليقينهم بأنهم يساهمون في عودة شعبهم إلى أرض الميعاد.
أما الصندوق القومي الفلسطيني الذي لا ننكر فضله، ولا نجحد عمله، ولا نقلل من حجم إنجازاته وعطاءاته، ولا ننفي التحديات التي يواجهها، والعقبات التي تعترضه، ولا ندعي أن الطريق أمامه معبده، ومصادر التمويل له ميسرة، إلا أنه لم يرق يوماً لأن يكون في مستوى الصندوق القومي اليهودي، الذي ساهم فعلاً في تأسيس دولة الكيان الإسرائيلي، وتثبيت أقدام المهاجرين إليه، وتيسير حياتهم، وتخفيف الأعباء الملقاة على عاتقهم، وإزالة التحديات وتذليل العقبات التي اعترضت بقاءهم.
فقد عجز الصندوق القومي الفلسطيني عن القيام بالدور المنوط به، وفشل في تحقيق العديد من الأهداف التي كانت موضوعة له، رغم أنه أشرف على العديد من المهام، وقدم الكثير من المساعدات على مستوياتٍ مختلفةٍ، لدعم الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، لتمكينه من الصمود والثبات، والمواجهة والتحدي، فرعى طلاباً في جامعاتهم، ومول أساتذةً في أبحاثهم ودراساتهم، وصرف لعوائل الشهداء وأسر الأسرى مستحقاتٍ شهريةٍ، وسمى للقوى والفصائل الفلسطينية حصصاً شهريةً أو سنويةً، يتلقونها بانتظام، ويعتمدون عليها في عملهم ونضالهم، وفي تمويل عملياتهم العسكرية، ورعاية أسرهم وأعضائهم وتشغيل مؤسساتهم، إلا أن قدراته كانت دوماً محدودة، وإمكانياته قليلة، وروافده تجف أحياناً وتنضب موارده كثيراً.
أما الصندوق القومي اليهودي فقد تم تبنيه ورعايته من كثيرٍ من دول العالم، التي مولته بصورةٍ مباشرة، وسهلت جمع التبرعات له، وتحويل المساعدات إليه، ولم تضع عقباتٍ في طريقه، وفتحت له مكاتب وفروعاً في أكثر من عاصمةٍ أوروبيةٍ، قبل أن ينتقل مقره الرئيس إلى مدينة القدس المحتلة، ولم تفرض عقوباتٍ عليه، ولم تجمد أو تصادر أمواله أو بعضاً من رأسماله، ولم تتهمه بالإرهاب كما اتهمت الصندوق القومي الفلسطيني، ولم تفرض عقوباتٍ على المسؤولين عنه والعاملين فيه، بل تعاملت على العكس من ذلك تماماً مع الصندوق القومي الفلسطيني، رغم أنها لم تدرجه على قوائم الإرهاب، إلا أنها لم تسهل عمله، ولم تقدم له المساعدات المرجوة.
قد نحمل رئاسة الصندوق القومي الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية عن التقصير الحادث في أداء الصندوق، وعجزه عن القيام بمهامه، والخلل في وظائفه المتعددة ووسائله المتبعة، نتيجة البيروقراطية والمحسوبية، والشخصانية والمزاجية، وسوء الإدارة وفساد المؤسسة، وترهل الهيكلية وعجز الهرمية الهرمة فيه، وعدم تجديد طاقاته وتأهيل قدراته، وارتهانه إلى شخص رئيس السلطة الذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الفلسطينيين يعتزون بهذا الصندوق، ويدينون له بالكثير، ويعذرونه أحياناً أن قصر أو تأخر، ولكنهم يأملون أن يكون صندوقاً لكل الشعب، وسنداً للوطن كله، فلا تمييز فيه ولا محاصصة، ولا محاباة ولا موالاة، وإنما حقوقٌ تؤدى، وأنصبةٌ توزع، وإمكانياتٌ تنمى، وقدراتٌ تؤهل، ضمن عملٍ مؤسسي يتجاوز سيطرة الفرد واحتكار الحاكم وسلطة المتنفذ.
لهذا فإننا ندين ما دعا إليه وزير حرب العدو أفيغدور ليبرمان لإدراج الصندوق القومي الفلسطيني على قوائم الإرهاب، وتجميد أرصدته ووقف التعامل معه، وتجريم معاملاته ومعاقبه العاملين فيه، فهذا الصندوق مؤسسةٌ وطنيةٌ فلسطينية، تعاور على المسؤولية فيه رجالٌ أكفاء، قدموا الكثير للشعب الفلسطيني، فلا يجوز أن نسكت عن محاولات تجريمه وتشويهه، أو نقبل بمساعي التضييق عليه ومحاصرته، بل ندعو المجتمع الدولي إلى تجريم المؤسسات الاستيطانية، والصناديق الإسرائيلية والدولية التي تمول مصادرة الأراضي ونهب الحقوق وطرد السكان، فهؤلاء هم المجرمون المدانون، وهم الذين ينبغي محاسبتهم وقيادتهم، ومعاقبتهم وكيانهم.
وسوم: العدد 712