مناقشة بين أمير المؤمنين عمر وخالد سيف الله في المسجد النبوي الشريف
اعتبر كثير من المحللين قضية التحقيق العلني التي أجراها الكونغرس الأمريكي من الكولونيل أوليفر نورث حول فضيحة "إيران – جيت" وتشعباتها مناظرة العام. والواقع أن الإعلام الأمريكي أبدع – كعادته – في نقل وقائعها على الهواء تلفزيونياً. وبلغ من تعاطف المشاهدين مع نورث أن انتقل من متهم إلى بطل قومي، بل إن البعض رشحة للرئاسة وسمى كثير من الأمريكيين أولادهم أوليفر.
لا شك أن أسلوب المصارحة العلنية يستحق الاحترام لكل الأطراف، ويدل على مستوى النضج البالغ في التعامل مع المسؤوليات والمصالح الوطنية العليا.
ومع أنه أسلوب مفقود في عالمنا الإسلامي المعاصر إلا أنه ليس غريباً علينا. فيجب ألا يبهرنا ببريقة.
ولعل أقرب مثال واقعي المناظرة الشهيرة بين الفاروق عمر بن الخطاب خليفة المسلمين الذي كان يحكم دولة عظمى وبين خالد بن الوليد سيف الله المسلول وأبرز القادة العسكريين عندما أعفاه من ولاية الشام. فلنقرأ بعض ما نقله الكاتب الكبير عبد الرحمن الشبيلي في كتابه "الرؤية والتحول" عن تلك المناظرة التاريخية.
المكان: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. عمر يصعد المنبر ويخاطب المسلمين: أيها الناس لقد سألني خالد بن الوليد أن أجمعكم اليوم ليناقشني أمامكم وأناقشه، وقد أشفق بعض ذوي الرأي من ذلك على كلمة المسلمين أن تفترق فنصحوني ألا أقبل، ولكني استخرت الله فقبلت، لا بطراً ولا رياءً ولا استخفافاً بالفتنة أو استدراراً لها، ولكن وجدتني بين أمرين: فإما أن أصدع بالحق ولا أخشى الفتنة وإما أن أخشى الفتنة فلا أصدع بالحق. فرأيت أن أصدع بالحق فإن الحق من الله، والفتنة من الشيطان، والله المسؤول أن يجنبنا الفتنة.
أيها الناس: لقد أمرت بخالد بن الوليد فنوقش في حمص على رؤوس الأشهاد ليكون عبرة لغيره من ولاة الأمطار(1)، وأريد اليوم أن أجعل نفسي حجة على كل من يلي هذا الأمر بعدي فلا يستنكف أحدهم أن يناقشه أحد من رعيته على رؤوس الأشهاد (ينزل عمر من المنبر لتبدأ المناظرة).
* أبو عمر بن حفص المخزومي: والله ما أعذرت يا عمر فلقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفاً سله الله وقطعت الرحم وحست بني العم.
* عمر يا ابن أخي لا تثريب (2) عليك. هذا ابن عمك بيننا ليشكوني إلى الناس وهو ألحن (3) بحجته منك، فليقل هو ما يريد. هلم أدْن مني يا أبا سليمان (يقصد خالد بن الوليد) ليسمع الناس مقالتك.
* خالد يا معشر المسلمين إني ليحزنني أن أسمع أن الروم قد حدثوا أنفسهم بالنزول في ساحلنا ليغزونا في عقر دارنا وما كانوا ليجرؤوا على ذلك لو أن أمير المؤمنين تركني أدرب (4) في أرض الروم كما شئت حتى أقرع أبواب القسطنطينية على هرقل.
* عمر: لقد أشفقت على المسلمين أن يقحم بهم في المهالك.
* خالد: سبحان الله إن كان مثلي يقود الجيش إلى الهلكة فمن ذا يقوده إلى النصر؟
* عمر: ومن هذا الزهو أشفقت عليك.
* خالد: لو كنت مكاني يا عمر ما ملكت الزهو.
* عمر: إذن لحاسبت نفسي ولعرفتها قدرها، لولا الإسلام يا خالد لكان منتهى الشرف عند أحدنا أن يؤذن له بالدخول على أحد عبيد قيصر.
* خالد: هذا حق لا أنكره.
* عمر: لو استشعرته حقاً لطامنت من زهوك ولعلمت أن الله هو الذي ينصر دينه لا أنت.
* خالد: ما يضر يا عمر أن ينصر الله دينه على يدي وأيدي المؤمنين معي، ولكنك تحسدني والحسد شر من الزهو.
* عمر: على أي شيء أحسدك على مناقبك أم معايبك؟ أما مناقبك ففي سبيل الله ومن أجلها وليتك، وأما معايبك فمن آثار الجاهلية ومن أجلها عزلتك.
* خالد: بل غرت مني يا عمر، لقد خشيت أن أنازعك هذا الأمر (أي الخلافة).
* عمر: أما هذا فنعم، لقد خشيت يا خالد أن تشق عصى المسلمين فيضرب بعضهم رقاب بعض.
* خالد: والله لو كان بي أن أنازعك الأمر لفعلت، ولما أعوزني الأعوان والأنصار.
* عمر: صدقت ولكني احتطت لدين الله والمسلمين.
* خالد: تحتاط لهم من وهم كاذب؟
* عمر: كلا، ليس بوهم كاذب، لقد أعلنته على ملأ من الناس بالشام حين دعاك أحدهم إلى الفتنة(5) فقلت "أما وابن الخطاب حي فلا".
* خالد: ليس لك أن تحاسب الناس في حياتك وبعد مماتك، سيكون للمسلمين راع يهتم بأمورهم من بعدك فهذا من شأنه لا من شأنك.
* عمر: كلا بل من شأني، لقد سمعت ناعق الفتنة في عهدي فحق علي أن لا أتركه حتى أمسك بعنقه ولقد جاءك أمري وأنت في الشام أن تكذب نفسك فلم تفعل، فاكذب نفسك الساعة أمام الناس وأعلن لهم أنك لا تنوي الفتنة وعمر حي ولا بعد أن يموت.
* خالد: كلا والله لا تتحدث العرب أن خالداً يقول القول ثم يكذبه.
* عمر: جاهلية.. جاهلية.. يعنيك ما تقول العرب ولا يعنيك ما أنت قائل لربك غداً؟ * خالد: وا عجباً لك أليس للمسلمين إذا قضى ابن الخطاب أن يختاروني لولاية هذا الأمر؟
* عمر: معاذ الله لا يختارك المسلمون وفيهم السابقون من المهاجرين والأنصار، إن المسلمين يا خالد لا يرضون أن يروا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجيز الشعراء ويمنع الفقراء.
* خالد: وإذا فعلوا يا عمر أتقوم من موتك لتحول دونه؟
* عمر: ليس بفاعلون إلا إذا أكرهوا عليه بالسيف، وإن في سيفك لرهقاً. * خالد: أيها الناس إن عمر عزلني عن إمارة جيش الشام، زاعماً أن الناس افتتنوا بي فخشي أن أفتتن بالناس فما كان يريدني أن أصنع؟ أأضن على الناس بكفايتي في الحرب؟
* عمر: يا خالد إني عزلت المثنى بن حارثة الشيباني يوم عزلتك، لأن الناس فتنوا به، فلم يدخل المسجد وقد غرز أسهماً في عمامته متباهياً بما صنع، ولم يتوعد بالوثوب على المنبر بعدي(6).
* خالد: عجباً لك يا عمر كأنك تعتقد أن ليس على ظهرها من يعنيه أمر المسلمين سواك.
* عمر: أجل حقٌ على من ولي هذا الأمر أن يعمل وكأن ليس على ظهرها من يعنيه أمر المسلمين سواه.
* خالد: والله لقد جاوزت القصد وتكلفت، إنك لست مسؤولاً عن ذلك.
* عمر: وكيف وأنا الذي وليت الولاة. والله لأسألن يوم القيامة لو بلغني أن عاملاً أعطى المال الشعراء ومنعه الفقراء فتركته ولم آخذ بناصيته.
* خالد: أو ما خشيت يا عمر أن تأخذني العزة فأعلن عصيانك والخروج عليك؟
* عمر: إذن لوجدتني أسرع إليك من رجع الصدى يا ابن الوليد.
* خالد: إذن لضاقت بك أرض الشام كما ضاقت بهرقل.
* عمر: هيهات، إنما نصرت بالحق ولم تنصر بالباطل فاتق الله وإن طاف بك طائف من الشك فاذكر ما صنعت في بدر وأحد والخندق (7). خالد: لقد وضح اليوم أن سابقة الإسلام لا يعدلها شيء عند المسلمين ولو جئتهم بهرقل في قفص يا أمير المؤمنين ما ينبغي أن نحبس الناس أطول مما فعلنا.
* عمر: هات إن بقي عندك شيء؟
* خالد: لا يا أمير المؤمنين ما بقي عندي شيء.
* عمر: يا معشر المسلمين أثنوا على أخيكم خالد شجاعته وصراحته وطاعته، فقد كان بوسعه أن يشق عصا المسلمين بالشام ولكنه كظم غيظه وصبر حتى قدم إلينا بالمدينة فتصارحنا أمامكم لتقولوا كلمتكم فيّا وفيه.
كل سطر في هذه المناظرة يستحق التأمل والتعليق، حوار بليغ جمع فأوعى، نفوس أبية روضتها العقيدة وثقلها الإخلاص، شجاعة فريدة من كل طرف لا يشوبها خوف ولا وجل.
ليس ذنب الإسلام إذن أن نفتقد اليوم تلك الروح، ولكنه ذنب المسلمين الذين يخيفهم الحق فتكون النتيجة استسلامهم لنزغات الشيطان وهواجسه.
(1) جمع مصر وهي الولايات
(2) لوم.
(3) أبين.
(4) أسير.
(5) الخروج على الإيمان.
(6) هذان أمران فعلهما خالد.
(7) كان خالد في صف المشركين.
* لما رجعنا إلى الأصل في الإنترنت وجدنا الأصل أوسع مما كتبنا حيث يبلغ نحو عشر صفحات.
وسوم: العدد 713